Print
ندى الأزهري

"ليس باسمي".. أن تكون يهوديًا غير مؤيد لإسرائيل بفرنسا

9 يونيو 2021
سينما

أن تكون يهوديا لا يعني أن تكون مؤيدًا لإسرائيل، فهناك رافضون للانغلاق في هذه المعادلة، وحين تُستأنف النزاعات في الشرق الأوسط ويُطلب منهم، غالبًا في فرنسا ومن قبل منظمات يهودية، دعم دولة إسرائيل دون قيد أو شرط، فهم يمتنعون عن الانشغال بهذه المهمة الجماعية، "خوفًا من تطور معاداة السامية"، على حدّ ما يؤكدون، ودعمًا للسلام في المنطقة ودفاعًا عن الحق والعدالة للجميع. المخرج الفرنسي دانيال كوبفرشتاين واحد منهم ولهذا السبب قرّر لقاء هؤلاء الرافضين والتعريف بمواقفهم ودوافعهم في فيلم وثائقي حمل عنوان "ليس باسمي" (2020).

عُرض الفيلم أيام قليلة قبل الحجر في فرنسا في تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، ولم يتسنَ لأحد رؤيته. أعيد عرضه مؤخرًا بعد إعادة افتتاح الصالات إنما على نحو جزئي، لأيام محددة فقط وعلى نطاق ضيق في صالة باريسية تعنى بالأفلام المستقلة وتتيح لقاء صناع الفيلم أحيانًا. دانيال كوبفرشتاين يهتمُّ بمرافقة فيلمٍ يعلم أنه لا بد أن يثير نقاشًا عند كل عرض له لحساسية موضوعه هنا في فرنسا، يأمل إدراكًا أفضل لمسعاه هو الذي نظر له البعض "كخائن" كما يقول، هو الذي تلقى رسالة خطية مليئة بالإهانات والشتائم من مُشاهِدةٍ حضرتْ الفيلم في اليوم السابق، رسالة ليست الأولى ولا الأخيرة ربما. وهو الذي قال لنا مازحًا إنه لم ينجح بإيصال صوته على الرغم مما يقال عن سيطرة اليهود على الإعلام في فرنسا. حين انتهى من تقديم الفيلم للجمهور وتهيأ للخروج من صالة العرض على وقع التصفيق، ما كان منه إلا أن حذّر مبتسمًا: "انتظروا لتروا الفيلم أولًا! لا نعرف ما قد يحدث"، لكنه أضاف أن النقاش ضروري حتى لو لم نكن متفقين حول مسألة هي دائمًا موضع خلاف، حتى لو لم يغير شيئًا الآن في هذه الصالة للأسف.

عدد من المشاركين في الفيلم


"ليس باسمي" (ساعة ونصف الساعة) صُوّر في فرنسا، هو حوارات شديدة الغنى، مفاجِئة في صراحتها بين المخرج وبين ثماني شخصيات فرنسية من نساء ورجال تنتمي إلى الدين اليهودي، كتّاب ومؤلفون وناشطون في هيئات تُعنى بالسلام ومناهضة العنصرية والدفاع عن الحقوق والعدالة للجميع. هم من أجيال مختلفة وأصول متنوعة: مصرية ومغربية وجزائرية وبولونية وألمانية وإيطالية. سرد كل منهم تجربته الخاصة بمشاركة المخرج الذي اختار الظهور في الفيلم إلى جانب الآخرين، في دلالة على تشاركه وإياهم الوضع ذاته، الأفكار ذاتها، ما صبغ النقاش بحميميةٍ في طرح لا يقف فيه المخرج حياديا خلف الكاميرا، بل يشارك بحيوية فيما يقال، سواء بالتعبير عن آرائه الخاصة أو بتوجيه دفة النقاش أو طرح أسئلة إضافية تعليقًا على ما يقال. بهذا بدا كجزء من الفيلم فاعل وفعّال فيه.

ليس الفيلم تاريخيًا عن الصراع في فلسطين، باستثناء بعض صور وفيديو من الأرشيف عن أحداث تاريخية مصيرية رفدت مداخلات وشهادات المشاركين. مدخل الفيلم كان مع صورة فوتوغرافية تعود إلى الأربعينيات لأفراد عائلة المخرج وقد علت النجمة الصفراء السداسية ملابسهم للتعريف بهويتهم اليهودية. صورة مُصْفرّة التقطت في فرنسا فترة الحرب الثانية وتركت عميق الأثر في طفولة المخرج. هي سبب من أسباب الانتباه إلى الهوية، وهو ما أشار إليه بعض المشاركين أيضًا.  ثمة صعوبة في "ألا تشعر، رغمًا عنك، بنفسك يهوديًا" في المجتمع، وإن لم تكن الأسرة متديّنة أو تمارس الطقوس الدينية في حدّها الأدنى. وإن كان أحد الأبوين فقط هو يهودي، أو تروتسكي الأهواء ولا علاقة له بالدين، أو أن العائلة لا تشير إلى هذا الانتماء. لكن في موقف ما فإن الاحساس باليهودية مفروض، والتصنيف جاهز. وحينها تتناوب المرء مشاعر متناقضة، من جهة هناك هذا الإحساس ومن أخرى رفض الانغلاق في مجموعة. المواقف متعدّدة للشعور بالهوية الدينية. للجيل القديم قد يكون وضع النجمة على صدر طفل، أو تعليقات الزملاء في المدرسة الإعدادية، أو سماع وقراءة عبارة "الموت لليهود"، أو لاندماج الوالدين بالحركة الصهيونية، أو لأن الحياة كانت منظّمة في المجتمع بكلّ بساطة وتقبّل على أساس الديانات الثلاث الإسلام والأقباط واليهود، كما قال مشارك من أصول مصرية.


ترافق هذا الاحساس باليهودية مع شعور بعدم التجرؤ على إعلانه، بالتعرّض لتنكيل وقتل، بنبذٍ من المجتمع، وأحيانًا بالطرد أو بالفصل، كما حصل ليهود الجزائر بعد استقلالها رغم عمل بعضهم مع جبهة التحرير، أو في مصر مع إعلان حرب 56 وحظر التجول عليهم والإشارة لهم "كعدو داخلي ليس منّا". موضوع هوية المشاركين، التعريف بهم وبالتقاليد العائلية وعلاقتهم مع الدين اليهودي، كان مضمون القسم الأول من الفيلم. في عنوان ثان جرت مناقشة الروابط مع إسرائيل وكيفية تكون آرائهم ومشاعرهم بخصوص العلاقة معها وما يثيره تعبيرهم عن آرائهم المغايرة في مجتمع يجد فيه ذوو الأصول اليهودية أنفسهم مدعوين باستمرار لمساندة إسرائيل بدون قيد أو شرط، بل ودعمها تحت كل الظروف والحالات بدعوة من المنظمات اليهودية الفرنسية.

الوعي حيال قضية فلسطين

كانت للمشاركين الثمانية مواقف ثابتة ضد إسرائيل وممارساتها. وجاء هذا بعد تشكّل وعيهم السياسي تجاه ما يجري في فلسطين، إما عبر معاينة مباشرة بعد زيارة لإسرائيل ولمسهم لمس اليد ما معنى أن تكون أقلية فيها، هم الذين جربوا هذا، أو من صدمتهم من مواقف إسرائيلية تجاه الفلسطينيين واكتشاف عنصرية إسرائيل تجاه العرب. كالمصري الذي عاش خلال زياراته لهناك في ثقافة عربية متجذرة فيه ولكنه اكتشف أن ذلك لم يكن محتملًا لهم فقرّر عدم العودة، والمغربية التي أدركت خلال إقامة عشر سنوات في إسرائيل أن كل شيء مخطط كي لا يحصل لقاء لهم مع الفلسطينيين، أو الجزائرية التي كانت العدالة لديها أهم من العائلة التي تسكن إسرائيل وهي لم تذهب لإسرائيل لأنها لم ترد عيش احتلال كما عاشته في الجزائر، أو هذا الألماني الأصل الذي تحول عن الصهيونية ليصبح يساريًا مناضلًا من أجل حقوق الفلسطينيين، وذاك الذي عمل في الكيبوتس ولكنه أحس بعد معاينة أن بلده هو فرنسا وأنه لا يريد القتال هناك.


كانت الانتفاضة الأولى عاملًا مهمًا في تغير وجهات نظر البعض وتحوّلهم التام، لا سيما أيضًا مع مظاهرات يهود فرنسا المؤيدة لإسرائيل. وكانت عبارات إسرائيلية من نوع "رد احترازي" مستفزًا لدى البعض ودافعًا لهم ليكونوا أقرب لهؤلاء الذين يرمون الحجارة مقارنة بهؤلاء المتمركزين في الدبابات. "فأين قوتهم من قوتها، أين الحجارة من الدبابات؟". كان هذا كافيًا للابتعاد عن الخطاب الصهيوني وإدراك أن "إسرائيل بحاجة لأن ترى باستمرار أن الإسرائيليين بخطر وفي محنة".  

ولكن الفيلم يشير من ناحية أخرى، في قسمه الثالث والأخير، إلى انزلاق بل انجراف نحو العداء للسامية في فرنسا يختبئ حول هذا الصراع، حيث أنه بحجة الدفاع عن فلسطين يرى البعض أن كل يهودي هو لا بد مشارك في السياسة الإسرائيلية. وتأتي القضية الفلسطينية كوسيلة لاخفاء عداء حقيقي نحو اليهود في فرنسا. وأعطى أمثلة على شخصيات منها ديودونيه، وهو فنان كوميدي وناشط سياسي فرنسي مثير للجدل اتهم بالعداء للسامية وكلّفته تصريحاته عدة أحكام بتهمة التحريض على العنصرية والكراهية.

هذا الفيلم قوته في جرأته وفي إعطائه إجابات للأفكار المسبقة لدى الفرنسيين من أصول يهودية حول الصراع في فلسطين، كما في أسلوبه في تقديم الشخصيات وربط ماضيها بحاضرها على نحو يبيّن بوضوح تحولاتها الفكرية وتبدل مواقفها. أشخاص بدأوا في مرحلة من حياتهم يرون معنى في كفاحهم للوقوف في صف العدالة. وأدركوا مساعي محيطهم، أو جزء كبير منه، لإخفاء الحقائق وإقناعهم بما ليس صحيحًا. أشخاص يصدمهم مشهد مظاهرة في فرنسا مؤيدة لإسرائيل على الرغم من أن الضحايا اليوم هم من الفلسطينيين، يؤمنون أن إسرائيل ليست في خطر الموت، فالآخرون هم من يموتون وإسرائيل هي من تقصف غزة المحاصرة. لكن معظمهم يدرك اليوم أنه لا يمكن مناقشة وجود إسرائيل كدولة، إنما بعضهم يحلم بدولة على الطريقة السويسرية أو دولة لا تحمل اسم إسرائيل يعيش فيها الجميع معًا.