Print
محمد جميل خضر

موسيقى الحضارات.. لا شرقية ولا غربية

17 يوليه 2021
موسيقى


بالقدر نفسه الذي صدّر فيه الشرق أنبياء، صدّر موسيقى. عالميةٌ لغة الموسيقى صحيح، لكنّ أهم أنوائها، لعلّها، وتصاريف ألحانها، وكثيرًا.. كثيرًا.. من آلاتها، انبثقت في شرقنا المسكون أرواحًا وإيقاعاتٍ ورسالاتٍ.
في بواديه، كما في حواضره، وفي سهول زراعته ومواسم حصاده، موسق الشرقيُّ السومريّ والآشوريّ والفرعونيّ والكنعانيّ واليبوسيّ والأدوميّ والنبطيّ والآراميّ والأمّوريّ، وصولًا إلى العربيّ، لحظات وجوده، أصدر الأصوات، غنّى، عزف، تضرّعًا للآلهة، حاول السحر بالموسيقى، تقرّب من أبناء جنسه عبرها، تحايل على ضواري البراري عبر أصواتٍ رأى أنها قد تضلل المفترس، وتشتت مشاريعه لافتراس ممكن في فيافي وجوده بين النهرين، وشرقهما باتجاه العاصي شرقه وغربه، شرق المتوسط في حواضر الكنعانيين والعرب العاربين، وعلى امتداد جزيرة العرب، وهناك في بر المحروسة، حيث الفراعنة ممن أسهموا بمتوالية موسيقى الحضارات.
منذ أول خفقات الوجود فوق الكوكب الأزرق، والمُوسيقى تُرافق مشوار صعود إلى المعنى، شاهدة على قيام الحضارات واندحارها، على الحروب ورائحة الموت، على الأفراح والمآسي، على رقصات النبلَاء والفُقراء، وَعلى القرابين في المَعابد. يَختلف استعمال الموسيقى من حضارة إلى أُخرى، فكُل شعب ترجَمها حسب أُسلوب مَعيشته، فحضَارة بلاد ما بين الرافدين، على سبيل المثال (3500 سنة ق.م)، تختلف تجلياتها الموسيقية عن حضارة الصين القديمة (5000 سنة ق.م). فإذا كانت الموسيقى عند أهل الرافدين شعبيّة ومتاحة للجَميع، فإن موسيقى الصين وثّقت لنا السلالات الحاكمة، وربما لم تكن، كما هو حال موسيقى الرافدين، متاحة للجميع رجالًا ونساء. وهل كان العزف عند الصينيين يُعد، كما حضارات ما بين النهرين، عملًا يؤجر صاحبه عليه، وتُقدم كقُربان للآلهة، أو تُعزف كعلامة على السلام، إلى جَانب حُضورها في مراسيم التتويج، وحفلات الزوَاج؟ ثم ما هي آلات الصين الموسيقية؟ في العراق القديم، وسورية القديمة، عُرفت آلات مثل الناي، وآلات الإيقاع، إلى جَانب قيثار الثور. أما آلات الصينيين الذين يُعدون من أوائل من كتَبوا مُوسيقاهم، وطبعُوها على الأوراق والجُلود وعظام الحيوانات، فمن آلاتهم "البيبا" التي تَتميز، كما هو شأن معظم آلاتهم، بالقدرة على استمرار النوتة وعدم تقطعها. وهنالك الكوهي، وهي آلة هوائيّة تشبه الناي، و"الأغهو" آلة وترية تعزف بقوس، و"قو تشين" الوترية النقرية.




في سياق ثالث، تميزت موسيقى الحضارة المصرية الفرعونية (3000 ق.م) على ضفاف نهر النيل، ببعدها الطبقيّ، إذ لم تكن الموسيقى متوفرة إلّا للفراعنة والنبلاء والمعبد. ولكل طبقة، ولكل ظرف موسيقاه: موسيقى البلاط، موسيقى الجنائز، موسيقى المعبد. وكغيرهم، استعمل المصريون الناي والطبل، أما "السيستر" فقد كان يخصهم وحدهم.



أقدم موسيقى..
بحسب عالم الآثار الإيطالي، البروفسور جورجيو بوتشيلاتي، مؤيدًا من العالم الفرنسي، دينيس باردي، والباحثة مارغريت يون، فإن الأغاني الحورية الأوغاريتية الكنعانية، وهي مجموعة موسيقية تعود لما قبل ثلاثة آلاف وخمسمئة عام، هي أقدم موسيقى وأغان في التاريخ.
العلماء أعلاه عثروا على النقش المسماريّ الطينيّ الخاص بهذه المجموعة الغنائية الموسيقية في رأس شمرا العمورية الكنعانية قريبًا من مدينة اللاذقية السورية.
حيث احتوى أحد الألواح الصلصالية المُكتشفة على كَاملِ كَلماتِ تَرنيمةِ الحُوريّةِ التي تّمَجِّدُ الإلهة نيغال (إلهة القمر)، ما جعلَ منها أقدم عملٍ موسيقيٍّ متكاملٍ تم تلحينُه في العالم.
في الترنيمة، تبدو نيغال حزينةٌ بسببِ عُقمها، وعَدم إنجابها للأطفال، رغم أنّ زوجَها هو، بحسب الرّواية المتوارثة، الإله الذي يمنح الذرية للأزواج.
مقابل الغناء الجريح بسبب العقم، يبدو أن ثاني أقدم موسيقى عرفها بنو البشر ترتبط بقصة حب نُسجت حروفها في مدينة نينوى الآشورية.
وقبل أن أغوص في مفردات المقطوعة، لا بد من الإشارة إلى ما أثير ويثار حولها وحول حقيقتها من جدل، فكثير من المتابعين، وحتى المتخصصين، يذهبون إلى أنها موسيقى لا ترتقي لحالة المقطوعة الكاملة، ألّفها موسيقي إيراني اسمه عليزاده، ولا علاقة (لا له ولا لها) بنينوى الآشورية، لا بل حتى يمعنون في الدحض، فيقولون إن نينوى الذي هو اسمها، مجرّد كلمتان فارسيتان هما: (نى) التي معناها بالعربية الناي، أو قصبة الناي، و(نوا) التي تعني اللحن، فيصبح اسمها "لحن الناي"! علمًا أن آخرين ممن يتبنون هذه الرواية يعرّبون (نوى) على أنها مقام "الحجاز كرد"!

                     موسيقى "نينوى" مختلفٌ على نسبتها إلى الإيراني عليزاده، أو هي موسيقى أوغاريتية، أم آشورية                                                       


وبعيدًا عن استشهادهما بمواقع يصفونها بالدقيقة الحريصة على الملكيات الفكرية، وبعيدًا عن أصداء هذه الحقيقة على وجدان ما ظلوا يؤمنون أن "نينوى" مقطوعة آتية إلينا من لواجع التاريخ القديم لِحضارات وادي الرافديْن، فإن القصة التي يصرّون عليها أن عزف الفرقة السيمفونية الفرنسية للمقطوعة باستخدام آلات شرقية وغربية، إنما تحقق بعد فك شيفرة المقطوعة الموغلة في القدم!




كما يمعنون في الأمر فيفترضون أن حكاية المقطوعة التي إن أخذنا برواية المرجفين الناسبينها إلى عازف غير قديم على الإطلاق، تصبح أمنية أكثر من كونها حكاية، هي "قصة حب جرت في العصور القديمة بين فتاة ورجل فقير ذو علم واطلاع واسعيْن، وحدث أن أراد الملك الزواج بهذه الفتاة وتم إجبارها على ذلك، وإبعاد حبيبها عنها ونفيه إلى غابة، حيث عاش فيها وحيدًا متروكًا بلا زاد. وقبل أن يغشاه الحزن تمامًا، ويقضي عليه الأسى، كتب نوتات (نينواه) على ألواح من حجر وصلت في زمن نبش آثارنا إلى أيدي علماء ألمان فكّوا شيفرتها ولحّنوها، وإذا بهم يصابون "بالدهشة لدى سماع موسيقى (العاشق الولهان)، لِما فيها من سحر لم يستطيعوا كشف سرّه"َ! فكيف لم يستطيعوا فكّ سرّ مقطوعته رغم أنهم في نهاية المطاف عزفوها؟ وهل الذين اكتشفوها هم غير الذين عزفوها؟ على كل حال هذا وارد، وذاك وارد، وكل سرديّة تحاول أن تحشد ما يعزز مصداقيتها.

                                مقطوعة موسيقية من أوغاريت قدمها الموسيقي السوري مالك الجندلي والفرقة


خلافًا لقصة الحب التراجيدية، يذهب بعض المؤرخين إلى أن مقطوعة "نينوى" هي "ملحمة موسيقية آشورية تتكوّن من أربعة مقاطع؛ يصف المقطع الأول منها عظمة الإمبراطورية الآشورية، ويستعرض جيشها النظامي. ويرمز المقطع الثاني إلى تآمر الأعداء وتكالبهم لإضعاف الآشوريين. فيما يستعرض المقطع الثالث المعارك الطاحنة التي دارت رحاها بين الجيش الآشوري وجيوش الأعداء المتحالفة. ويجسّد المقطع الرابع، أخيرًا، الدمار والخراب الذي حلّ بأصحاب الأرض، ولذا يغلب عليه طابع الحزن والأسى، لما حلَّ بنينوى من حرائق.



موسيقى الأنباط..

آلهة الأنباط تعزف موسيقى


عن الموسيقى زمان حضارة الأنباط، تحدث الجغرافي اليوناني سترابو عن المآدب النبطية التي تغني فيها قينتان (Braun، 2002، صفحة 211). سترابو ذكر أيضًا، أن الأنباط استخدموا الموسيقيين في حفلاتهم (فارمر (1957)، ص 13). يضاف إلى هذا ما أورده القديس إبيفانيوس حول مشاركة الموسيقى للطقوس الدينية (Robinson 1901: 6-16)، وما ذكره المسعودي أن الأنباط إستعملوا آلة وترية (المسعودي (1861)، الجزء الرابع، ص 91).
في هذا السياق، وبحسب بحث أعدّه الباحثان د. إياد المصري، ود. مهدي عبد العزيز، من معهد الملكة رانيا للسياحة والتراث التابع للجامعة الهاشمية الأردنية، وحمل عنوان "الموسيقى عند العرب الأنباط"، ساعدت الحفريات الأثرية المستهدِفة مواقع نبطية عديدة، في العثور على عدد من اللقى الأثرية التي تعكس موضوعًا موسيقيًا. وتعدّ الحفريات الأثرية التي قامت في موقعي البتراء، وخربة التنّور، خاصة، من أهم تلك الحفريات التي عثر فيها على عدد من المنحوتات الحجرية والفخارية التي تمثل أدوات موسيقية، أو موسيقيين، وهم يعزفون على آلاتهم الموسيقية. ومع أن الأمثلة قليلة، فإنها ساعدت الباحثين في الحصول على فكرة جيدة عن الموسيقى النبطية، سواء أكان ذلك من جهة أهميتها في مختلف نواحي حياتهم، أم من جهة الأدوات التي استخدموها، أو نوعية الأداء، كما أعطتهم فكرة عن أهمية الموسيقي، ومدى احتراف الأنباط لهذه المهنة.
وتعد المنحوتة الفخارية الصغيرة المعمولة بالقالب التي عثر عليها في أحد قبور البتراء خلال الحفريات الأثرية التي أشرفت عليها كركبرايد (Kirkbride) في الفترة من 1955 إلى 1956، من أهم المنحوتات التي تعكس مشهدًا موسيقيًا، فهي تمثل فرقة موسيقية تعزف على آلات مختلفة.




الحفريات الأثرية التي أقيمت في البتراء عثرت على عدد من أجزاء منحوتات فخارية أخرى تمثل موسيقيين. وللتشابه الكبير بينهما، فهي تعود، على الأغلب، إلى قالب المنحوتة الفخارية نفسه، الذي أشرنا إليه أعلاه، حيث ظهر في بعضها الجزء الذي يمثل رجلًا وهو يعزف على الناي المزدوج. وفي بعضها الآخر، ظهرت امرأة على يمينه وهي تعزف على القيثارة.
في خربة التنّور، عُثِر على سبعة منحوتات حجرية بارزة لكل من الآلهة هرمز، وتايكه، وزحل، مرتبطين مع قيثارة ذات سبعة أوتار، واستطاع جلوك (Glueck) من خلالها أن يميز منحوتات الإلهة هرمز. منحوتة حجرية بتراوية نبطية رابعة، يظهر فيها الإله زحل وهو يحمل قيثارة.
من القرائن الأخرى التي اعتُمدت، إضافة للمنحوتات، للتدليل على موسيقى الأنباط: الرسومات والأسرجة الفخارية. على صعيد الرسومات، فإن اللوحة الجدارية المرسومة التي عثر عليها داخل أحد البيوت في سيق البارد في منطقة البتراء، هي المثال الوحيد الذي يحتوي على موضوع موسيقي ممثل بالرسم. وفيها يظهر الإله بان (Pan) وهو يعزف على آلة ناي، ويظهر معه في المشهد الإله إيروس، إضافة إلى نباتات وطيور في أوضاع مختلفة.
الآلات التي استخدمها الأنباط في موسيقاهم، هي عمومًا، آلات حضارتي وادي النيل والرافديْن، إضافة إلى الآلات التي استخدمها أبناء الجزيرة العربية في ذلك الزمان. وتقسم إلى أربعة أنواع رئيسية: الوترية مثل القيثارة، وآلات النفخ مثل الناي (سواء كان مفردًا، أو مزدوجًا) والإيقاعية كالدف، والصوتية التي تصدر الصوت عند تصادم أجزائها الناتج من التحريك (رشيد، ص 423 و424).
يخلص الباحثان المصري وعبدالعزيز إلى أن الأنباط "آمنوا بدور الموسيقى وبأثيرها في الإرتقاء بأرواحهم وإيصال طقوسهم الدينية الى الآلهة وحياة الخلود".
كما يرون أن طقس المآدب، وما تحتويه من غناء وموسيقى، كان من أهم الطقوس الدينية والاجتماعية النبطية.
فهنالك "مآدب يقيمها الملك، وأخرى تتبع طقوس تقديم القرابين، وثالثة خلال الطقوس الجنائزية. إن مثل هذه المآدب هي من الطقوس العربية التي لا تزال مستمرة حتى الآن كجزء من التقاليد العربية الإسلامية".

موسيقى سومرية


المؤسف في هذا السياق، أن الحفريات لم تعثر على أي آلة موسيقية من آلات أنباط الأردن، وقد يعزى ذلك إلى تلفها وتحللها، كونها صنعت، في الغالب، من مواد عضوية، أو إلى عمليات الإتلاف، أو النهب، والسرقة، التي تعرضت لها القبور النبطية في البتراء، ومدائن صالح، خصوصًا إذا ما علمنا أن غالبية قبور البتراء استخدمت في أزمان لاحقة كمساكن، وقد يكون لذلك علاقة بفقدان محتوياتها. لذا فإن معرفتنا بالآلات الموسيقية النبطية تعتمد، بشكل رئيسي، على دراسة مختلف المنحوتات والرسومات النبطية التي ظهرت بها آلة موسيقية. في هذا السياق، فإن المنحوتة التي عثرت عليها كركبرايد (Kirkbride) هي من أهم المنحوتات المتعلقة بأجواء موسيقى الأنباط، وما وصلوا إليه في سياقها من تطوّر ورقيّ حضاريّ. وفي المنحوتة ثلاثة موسيقيين (رجل بين امرأتين)؛ الرجل يعزف على أداة نفخ موسيقية هي الناي المزدوج الذي يتكون من أنبوبين طول كل واحد منها نحو 3 سم، وفيه ثمانية ثقوب، ويحرك الرجل جميع أصابعه عليها للتحكم بالصوت والحصول على النغمات المطلوبة، وهو يشبه ما يستخدمه العازفون هذه الأيام في القرى، ويسمى المجوز. وعن الامرأتين، فاليمنى تحمل قيثارة، أو جنك، في يدها اليسرى، وتستخدم يدها اليمنى للعزف على أوتار القيثارة الظاهرة في الجزء العلوي منها. أما قياساتها فهي 3.6 سم في 1.2 سم، وهي ذات خمسة أوتار، وزواية منحنية. أما المرأة اليسرى فتعزف على أداة وترية غير معروفة، يرجح أنها قيثارة بشكل آخر، وهي أصغر حجماً من سابقتها، بحيث تمسكها بيدها اليسرى بالقرب من كتفها الأيسر وتعزف عليها بإستخدام أصابع يدها اليمنى، وبالرغم من أن بعض الباحثين، أمثال خيري، يعتقد بأن المرأة قد تكون تضرب على دف، وليس قيثارة. كما توجد أداة رابعة بديلة معلقة بين الرجل والمرأة التي على يساره قد تكون طقطاقة مكونة من قطعتين من الخشب، أو خرخاشة، والنوعان هما من الآلات الصوتية التي تصدر صوتًا باصطدام أجزائها ببعضها.




عرب فترة الجاهلية استخدموا، تقريبًا، الآلات نفسها التي استخدمها الأنباط؛ فكانت الصنوج من الآلات الوترية، وقصابة من آلات النفح، والطبل والدف والجلاجل من آلات الضرب.



جرّادتا عاد..



في كتابه "القيان والغناء في العصر الجاهلي"، يذهب المفكر الأردني ناصر الدين الأسد (1922 ـ 2015) إلى أن البيئة العربية عرفت الحضارة وأسبابها في العصر الجاهلي، وفي هذا رد على دعوات كثيرة وجهها المغرضون، وهي في أغلبها دعوات معممة وظالمة للعصر وأهله، بل للحضارة العربية جمعاء. أما اللافت في كتاب الأسد، فهو ربطه المنهجي المنتِج بين غناء ذلك العصر وشعره، حتى إن شعر العصر الجاهلي، لا المصادر ولا المراجع، شكّل النبع الجوهري الذي نهل الأسد منه معلوماته حول الغناء، وأهم أعلامه في ذلك الزمن البعيد، يقول: "فلست مغاليًا، إذن، بعد الذي قدّمت، إذا ذكرت أن مصدري الأول في هذا البحث لم يكن هذه الكتب على اختلافها، بل لم يكن كتب الأغاني والموسيقى، وإنما مصدري الأول هو: الشعر الجاهلي، الذي حاولت دراسته دراسة فيها شيء من سعة وعمق" (ص12). في كتابه الذي مضى على صدوره أزيد من خمسين عامًا، يخلص الأسد إلى أن القيان انتشرت في العصر الجاهلي بغزارة لافتة، وفيه يكشف أن الغناء في هذا العصر شكّل ملمحًا راقيًا من ملامح وجوده. وأن القيان كنّ مترفات في لباسهن وزينتهن، وقد ازدهرت مجالس الغناء، بما يظهر أجواء حضارية تستحق التدوين. كما يبيّن الكتاب الذي جاء في بابين وستة فصول، أن ظاهرة القيان والغناء ذو أثر في الشعر والشعراء الجاهليين عامة، وأن الأعشى يمثل نموذجًا واضحًا على هذا الأثر، لذلك استحق أن يكون شاعر القيان والغناء في العصر الجاهلي. الأسد سعى في كتابه جاهدًا لاستيفاء الألفاظ التي تدل على القينة، من مثل "الكَرينة، والمُسمعة، والداجنة، والمُدجنة، والصدوح، أو الصادحة، والصناجة، وجرّادة". وفي محاولته تتبع مواطن القيان، وجد أنهن كن مبثوثات في الجزيرة العربية كلها: أطرافها وقلبها، ومدنها وقراها مثل "الحيرة وغسان، والمدينة، ومكة، واليمامة، واليمن وحضرموت".




والواضح، على وجه العموم، أن الغناء في عصر الجاهلية كان قاصرًا على القيان وحدهن؛ إذ لم نسمع في ما وصل إلينا من أخبارهم عن رجال مغنين.
وأقدم ما عُرف من أخبار قيانهم خبر جرادتيّ عادٍ اللتيْن يُضرب بهما المثل العربي: "تركته تغنيه الجرادتان"، وهو يضرب لمن كان لاهيًا في نعمة ودَعَة. والجرادتان قينتان لمعاوية بن بكر، أحد العماليق.

رقص وعزف وغناء وحياة


إضافة إلى جرّادتيّ عاد، هنالك جرادتا النعمان، فكل ما عُلم عنها أنهما كانتا قينتين تغنيانه، والغالب أنه سماهما بالجرادتين تشبيهًا لهما بجرادتي عاد. كذلك جرادتا عبدالله بن جدعان، وقد سماهما أيضًا جرادتي عاد، وقد وهبهما لأمية بن أبي الصلت، الشاعر الذي كان يَفدُ عليه ويمدحه، ولا يُعلم من غنائهما إلا صوتان (لحنان)؛ أحدهما أوله: "أقفر من أهله مصيفُ/ فبطن نخلة فالعريفُ"، ولحنه من خفيف الثقيل، وهو من المئة صوت المختارة، والثاني أوله: "عطاؤك زين لامرئ إن حبوته ببذل/ وما كل العطاء يزينُ"، ولا يعلم مقامه (نغمته).
في بدايات العصر الإسلامي، وأيام الخلفاء الراشدين، لمعت بعض أسماء العزف والغناء. في هذا السياق، تتجلى عزة الميلاء (مولاة للأنصار في يثرب) بوصفها في الطليعة المميزة، وصانعة النهضة الموسيقية العربية آنذاك. قال فيها زميلها معبد، مما يورده الكاتب المصري، محمد كامل حجاج، في كتابه "تاريخ الموسيقى الشرقية": "كانت عزة الميلاء ممن أحسنّ ضربًا بعود، وكانت مطبوعة على الغناء لا يعييها أداؤه ولا صنعته ولا تأليفه". طبعًا لا يمكن، هنا، إغفال جميلة (مولاة بني سليم)، التي توصف أنها "الزعيمة الثانية للنهضة تلك؛ وأصل من أصول الغناء العربي".
ومرّة ثانية، وكما شهد شهادة حق بعزة، ها هو معبد يشهد بجميلة شهادة تحتشد نبلًا: "أصل الغناء جميلة، وفرعه نحن. ولولا جميلة لم نكن نحن مغنيين. ولقد سُئلتْ يومًا: أنى لكِ هذا الغناء؟ قالت: والله ما هو إلهام ولا تعليم، ولكن أبا جعفر (سائب خاثر) كان جارًا لنا، وكنت أسمعه يغني ويضرب بالعود فلا أفهمه، فأخذت تلك النغمات، فبنيت عليها غنائي".



موسيقى الكون..

رقيم طيني بابلي موسيقي


يرى الموسيقي العراقي، نصير شمّة، أن الموسيقى "باب لغة واسع، وممر عميق ومضيء يقودنا إلى تواريخ وأمكنة وحضارات وشعوب. هي باب من نور نتلمس تحت ضوئه جدران تاريخ قديم، نقرأ عبرها حتى اللغات القديمة، ففهم موسيقى حضارة ما يعد مدخلًا كبيرًا للوعي بأخلاقيات الشعوب التي أنتجت هذه الحضارة. الجذر الموسيقي أساس لقيام شعب، مثله مثل اللغة، فكما أن حضارة لم تقم بلا لغة، فإن الأمر نفسه ينسحب على الموسيقى، فليس هناك في التاريخ القديم، أو الحديث ما انبنى من غير موسيقى، فهي لغة أخرى لتفاهم يجمع ولا يفرق، في حين أن اللغة نفسها أحيانًا تستطيع التفرقة".
من زاوية أخرى، فإن الموسيقى في المجتمعات البدائية، كانت وسيلة لغاية، فقد استعملت كجسر للوصول إلى منفعة معينة، كاسترضاء إله الشفاء، أو إله السقاء لاستنزال الغيث للضرع والزرع، وطلب الخصوبة من ربّتها، كما كان الصيّادون يلجأون إلى الترنّم بكلمات سحرية لشحن ذواتهم بالقوة والجلد في مطاردة الفريسة، والتركيز المطلوب لدقة التصويب بالسهام وسواها. في هذا السياق، يقول الكاتب العراقي، سعود الأسدي: "ولكن ما إن أطلّت بداية الألف السادس قبل الميلاد، حتى أخذت تطرأ على الموسيقي تغييرات، وخاصة في الحضارة السومرية البابلية والمصرية الفرعونية، مما جعلها تنحو منحى جديدًا أكسبها وضعية جديدة، فلم تعد كما كانت لغرض ديني، أو سحري، أو لمهمة حياتية. فقد أصبحت غاية في نفسها، وبحدّ ذاتها، وفنًّا يستحق التقدير".




يونانيًا، وعندما أنجز هوميروس أعماله الشعرية الكبرى، وضمّها في ملحمتيْه الخالدتيْن "الإلياذة" و"الأوديسة" في القرن التاسع قبل الميلاد، كانت بلاد اليونان قد دخلت مرحلة حضارية راقية، كما هي الحال عند السومريين، والبابليين، والفرس، وشعوب أخرى في الشرق الأوسط، لم تلبث أن تقاسمت معها الهدايا الملكية، ومنها تبادل الموسيقى وآلاتها. ونتيجة لذلك، فقد كان بين موسيقى اليونان وموسيقى الحضارات الشرقية قواسم مشتركة، منها اتساق الألحان وتناغمها، وهما ظاهرة بارزة في موسيقى العالم الشرقي القديم، ومن ضمنه بلاد فارس والهند، ولكنها كانت تفتقر إلى الهارموني في التأليف الموسيقي الذي أصبح بعد العصور الوسطى ظاهرة متطورة جدًا في الموسيقى الأوروبية.
كانت آلة الـLyre(القيثارة) الآلة الموسيقية المفضّلة عند اليونانيين، والمحبّبة إلى قلب أبوللو، وقد اقترن اسمها بالشعر الغنائي اليوناني (Lyrical).



أول أغنية حُب..

أقدم نوتة موسيقية


الحضارة السومرية كانت السبّاقة في إبداع أغنيات الحب وأشعاره، وهو ما يثبته الفصل الثالث والعشرون من كتاب "ألواح سومر". كما وجدت في إسطنبول قطعة على شكل لوح صغير مسجل تحت رقم 2461، مدوّن عليها القصيدة الشعرية التي تشيد بالجمال والحب، ومن أبياتها:
"أيها العريس الحبيب إلى قلبي
جمالك باهر، حلو، كالشهد
أيها العريس دعني أدلّلك
فإن تدليلي أطعم وأشهى من الشهد".
كما وجدت أغنية حُبٍّ أُخرى، مكتوبة على ألواح تخص الحضارة السومرية.
منذ آلاف السنين، تحررت موسيقى الحضارات من كونها تراتيل معبد، أو ترانيم دين بعينه.




نهضت بوصفها وجهًا مشرقًا من وجوه الحضارات جميعها. وجهٌ يمكن الاجتماع حوله، والتعرف عليه، فلغتها واحدة، وعلومها واحدة، ولوغريتمات مقطع موسيقي شرقي، هي نفسها لوغريتمات أي مقطوعة موسيقية في أي بقعة من بقع الكوكب الطربان، ما يختلف هنا فقط هو توزيع هذه الرياضيات، ودرجاتها، وأجزاؤها، وأجزاء أجزائها.
سلّمٌ ساطعٌ للنهوض، هي الموسيقى، لحنُ وجودٍ بهيّ، فرص تلاقٍ خالٍ من العنف، والكراهية، وسوء الفهم.