Print
وسام جبران

التّدوين الموسيقي.. الاستملاك، التّنائي والاغتراب

21 يوليه 2021
موسيقى

"فالعالم حروفٌ مخطوطةٌ مرقومةٌ في رِقِّ الوجودِ المنشورِ، ولا تزال الكتابةُ فيه دائمة أبدًا لا تنتهي"

(ابن عربي)

بين ثقافة التدوين الموسيقي الورقيّ وثقافة التّلقين السَّمْعيّ فوارق تُلقي بظلالها على جميع أضلاع المثلث الموسيقي، الذي يتمتّع بطبائع مختلفة بين الثقافتين، حيث يتشكّل مثلّث ثقافةِ التّدوين (ذاكرة الورق)، من مؤلِّف (مُبدِع)، مؤدٍّ (مُؤوّل)، ومُتلقٍّ (مجتمع أو أفراد)، بينما يتشكّل مثلّث ثقافةِ التّلقين (ذاكرة السّمع)، من مُؤلَّف (المؤلِّف غير معروف غالبًا: غائب/ مُغيَّب)، ومؤدٍّ (ناقلٍ/ مُسَوِّغ/ مُنوّع)، ومتلقٍّ (جمهور).

وحين نتحدّث عن التدوين الموسيقي فإننا نتحدّث، تحديدًا، عن التدوين الورقي الحديث نسبيًّا، وليس عن النّقوش (Inscriptions)، وهذا الفارق هامٌّ لفهم مدى قدرتنا، اليوم، على تلقّي الأفعال التمريريّة، أو الإخطاريّة Illocutionary، حين ننظر إلى النّقوش الموسيقيّة الأوغاريتيّة، أو ننظر إلى مدوّنات موسيقيّة من العصر الكلاسيكي الأوروبي مثلًا. في كلتا الحالتين ثمة فعل "استملاكيّ" يُريد للمدوّنة/ النقش أن تصير إلى الأيقونيّة Iconicity، بمعنى أن تتطابق الرموز الكتابيّة مع المعنى، لكن ثمة تناءٍ زمني يؤثّر في قدرتنا على استنطاق النصوص من جديد، وثمة اغتراب زمني وموضوعي عن ذات المؤلّف وعن السياق المُنتِج للفكرة أو النصّ.

نتساءل هنا: ما الذي يجعلنا قادرين على "فهم" و"استرجاع" رموز مدوّنة كلاسيكيّة أوروبيّة، صوتيًّا وموسيقيًّا، بدقّةٍ عالية، بينما يتعذّر ذلك في النّقش الأوغاريتي، ويظل كلّ مسعى لأداء هذه الرموز أسير تخميناتٍ لا يمكن التحقّق من صحّتها، ولا قياس ابتعادنا عن معناها وخواصها الصّوتيّة العينيّة أو دلالاتها، المُطابقة denotation أو الإيحائيّة connotation منها؟ قد يكمن السبب في طبيعة هذه الرموز ومدى "تطابقها" مع المعاني والدلالات، وربما هناك عوامل أخرى تؤثر في ذلك. لكن، ليس من السّهل اختزال الأسباب أو حصرها في التنائي والاغتراب الزمني ومدى تطور القدرة التعبيريّة للكتابة. فهل من نظريّة تأويليّة للنصوص الموسيقيّة يُمكنها أن تعمل دون الاشتباك مع مشكلة الكتابة وخصائصها، محدوديّاتها، إقفالاتها، فوائضها، نزعاتها النّفسيّة، أو مخاضات عبورها من السّمْعيّ إلى المكتوب، مما يعني اغتراب "الموضوع"/ "النص المُدوّن" عن الذات (المؤلِّف)؟
ثمة طرق، إذًا، للمدوّنة الموسيقيّة "الصّامتة"، وهي حبر على ورق، أن تُمرّر "تخريجاتها القصديّة" Intentional exteriorizations عبر الأداء الصّوتي الذي يؤوّل النصّ مُتنائيًا عن الأصل، لا بمعنى عدم الالتزام الحرفي بالرموز المكتوبة، كما كان يفعل مغني الأوبرا، خارجًا على النصوص، قبل أن يضع روسّيني (1) حدًّا "لسطوة المغني" في كتاباته الأوبراليّة لصالح "سطوة المؤلِّف"، لا بهذا المعنى وحسب، بل بالانحراف عن دلالات النصّ، رغم الالتزام بقراءة الرموز حرفيًّا، مما يجعلنا نتساءل مع أفلاطون إن كان التّدوين هو فعل اغتراب alienation، بمجرد نزع العنصر الزمني Dechronologizing ونزع السمات النفسيّة Depsychologizing عن النص المكتوب.

النّقش الأوغاريتي


ثمة فارق جوهريّ يُحدثه فعل التّدوين في الفكرة الموسيقيّة وكيفيّة معالجتها وتطويرها، حيث لا يُختزل فعل التّدوين بمجرّد "نَسخ" الفكرة الموسيقيّة نسخًا آليًّا باردًا على الورق، بل يتعدّاه إلى فعلٍ سيرورتيّ تراكُميٍّ، يُحيل الفكرة الموسيقيّة "بنت اللّحظة والارتجال" إلى مَوْضَعَتِها فوق الورق وإخضاعها لعامل الزمن والمُعاينة؛ أنّ الفكرة، تصير مُتاحةً للإزاحات المنظوريّة والنّقد والتّمحيص والتّنقيح والتطوير، كذلك الحذف. من هنا، فإنّ فعل التّدوين ليس مجرّد فعل إجرائيّ، بل هو فعلٌ نوعيّ تكامليّ بامتياز، يأخذ الموسيقى من حيّز الانبلاج اللحظيّ "المُكتمل" و"المُغلَق"، إلى حيّز السّيرورات والتراكمات، أي إنه لا ينقل الفكرة نقلًا سلبيًّا خاملًا ومحايدًا، بل نقلًا فاعلًا مُتدخِّلًا ومؤثّرًا في الفكرة ذاتها. فالفكرة في "وضعيّتها الفائقة" Superposition قبل الكتابة، هي ليست ذاتها بعد الكتابة، بعد انهيار وضعيّتها الفائقة بفعل الكتابة، بوصف الكتابة فعلَ رصدٍ وإزاحة وتخريج. إذًا، فالكتابةُ علمٌ، كما يُشدّد أدونيس:

"وكونُ الكتابةِ علمًا، ينقلها من الانفعال والجزئيّة، إلى الفعل والإحاطة. فلا يكفي، لكي تكتب، أن يُعذّبك الألم، أو يهزُّك الفرح، أو يُثيرك الحنين. والبداهةُ والارتجال والفطرة لا تعني، بحدّ ذاتها شيئًا، فلكي تكتب، يجب أن تعلم كلّ شيء – أن تحسّ به وتدركه، وأن تحيط به. وفي هذا يكمن جانبٌ من جوانب المعنى الحديث للكتابة". (أدونيس، الثابت والمتحول، بحث في الإبداع والاتباع عند العرب - الجزء الرابع، 2002، صفحة 25).

إذا ما تحدثنا عن البُعد التوثيقيّ للتدوين بوصفه "مُثبِّتًا" للأفكار و"حافظًا" للنُّسَخ الأصليّة (Urtexts)، بل وحتى المُسَوَّدات أحيانًا (أي سيرورة العمل ذاتها)، فهذا يسمح بعلاقةٍ مباشرة بين النصّ (المدوّنة) والمؤدّي؛ أي علاقة مباشرة بين "المؤلف في زمنه"، وبين المؤدّين في أزمانهم (ربما اللاحقة والبعيدة)، مما يجعل من هذه العلاقة علاقة حَرَكيّة تأويليّة مُباشرة مع نصٍّ أصلي موثَّق، لا عبر وسطاء، كما يجعل من هذه العلاقة الحركيّة أساسًا لمُراكمة الخبرات التأويليّة، ووضعها في متناول الأجيال عبر الزمن وتداعياته الثقافية العامة والفردانية على حدٍّ سواء، لكن عبر علاقة مركزيّة مع "الأصل" وليس بالتّلقين الشّفوي والتناقل والعَنْعَنة (2)؛ فينظر العازف إلى "العلامات السوداء" الراسخة على الورق، ولو بهتت، ويُعيد إحياءها من جديد عبر تأويلاته الخاصّة للمتعارضات الطِّباقيّة Counterpoint المُشتبكة، بين ما هو صائت وما هو صامت، بتكرارٍ قد يتنوّع وينمو، بفعل حضور النصّ الأصليّ المُدوَّن ذاته أوّلًا، وبفعل خواص المؤدّي نفسه وعلاقته بالنصوص وتطور قدراته التأويليّة.

هنا، يقفز السؤال عن مدى استقلاليّة دلالات النصّ الأصليّ، محكومًا بجدليّات علاقته مع "لحظات" ولادته الأولى ومعناها، مع العلم بأن لحظة الانفعال الأولى؛ لحظة الخلق في طورها "الذّاتيّ"، هي التجلّي "الكامل" لخطابٍ "موضوعيّ"، لا يبقى على حاله عندما يمرّ في مراحل التدوين و "التّموضع" على الورق.

في الثقافات الموسيقيّة التي لا تُعنى بالتدوين، وتقوم على السّمع والتعبير الصّوتي "هنا- الآن"، حيث الفكرة الموسيقيّة هي من استلال الذاكرة، والفعل الموسيقي هو وليد اللحظة ودفينها في آنٍ معًا؛ فما سُمع "الآن" قد تلاشى "الآن"، مما يجعلنا نتساءل مع جاك دريدا إذا ما كان لفعل التدوين جذر آخر يتميّز عن "الكلام" الصّائت، (وفي الموسيقى هو الأداء الصّائت). (دريدا، 2005). وقد يكون "الجذر الآخر" هذا هو "الرؤيا"، حيث، وهنا أستعير من حديث أدونيس عن الشّعر العربي، والذي يقول بأن الكتابةَ، بوصفها صناعةً "روحيّةً"، أي تجسّد الصورَ الباطنة بالحروف، هي، بهذا المعنى رؤيا، أولًا:
"... وفي ذلك ما يُناقض المثال الشّعريّ العربي السائد آنذاك [أي بوصفه يندرج في ثقافة السّماع]، من أن الشعر احتذاء مثالٍ سابقٍ. الشاعر لا يرى، وإنما يُنوّع في رؤيا المثال السابق [كما يفعل العازف أو المغني المُرتجل في الموسيقى]. فهو محكومٌ بالتكرار، لأنه محكومٌ بالتقليد. بينما الكتابة لا تكون إلا برؤيا شخصيّة متميّزة". (أدونيس، الثابت والمتحول، بحث في الإبداع والاتباع عند العرب - الجزء الرابع، 2002، صفحة 25).

يشدد أدونيس: لا يكفي، لكي تكتب، أن يُعذّبك الألم، أو يهزُّك الفرح، أو يُثيرك الحنين 


بالنسبة للمُستمع، أيّ مستمع، يُفترض أنّ التّدوين يُمكِّنُ من الانخراط في تجربة الإصغاء الأقرب إلى النصّ الموسيقيّ الأصلي، هذا من جهة، ومن جهةٍ ثانية، يُمكِّنُ من الاستمتاع بتأويلاتٍ عديدةٍ للنصّ ذاته، بعيدًا عن التسويغ أو التنويع أو التدليس. هذا التعدّد والتنوّع - الذي يحدّده مدى انفتاح النصّ على التأويل، إضافةً إلى التّنائي الممعن في الزمن، والذي يُفترض أن يُكسِبَ النصَّ الأصليّ جماليّاتٍ ثريّة الأبعاد، بعد "تحريره" من مؤلّفه ومُجمل مكوّنات لحظة انبلاجه الأولى - يُعيد إحياء النصّ مراتٍ ومراتٍ عبر تنوّع القراءات والتأويلات وانكشاف النصّ الأصلي على ظروف أداء وقنوات اتّصالٍ مختلفة ومتجدّدة عبر الأماكن والأزمنة.

إنه إنجازٌ حضاريٌّ هائل بلا ريب، أن تُحمّل فكرةً موسيقيّةً صوتيّةً على حاملٍ خارجي، سواء كان ذلك ورقًا أو أيّ مادّةٍ أخرى؛ أن تفصلها عن مؤلِّفِها، أو مُبدعها الأول، بحيث يُصبح المؤلّف، بكلّ ما تتضمّنه لحظة الإبداع الأولى من انفعالات وتعابير وإيماءات، غائبًا عن النصّ المكتوب. أي أن ثمة واقعًا بشريًّا ذاتيًّا قد احتجب وتوارى، بعد أن استُبدِلَ بعلاماتٍ تدوينيّةٍ (نوتات) أو إشاراتٍ تعبيريّة articulation. ويظلّ السؤال: ما الذي يتذكّرُه الورقُ أو يستذكره، وما الذي ينساه أو يتناساه؟

في الحقيقة، ما يتمّ تدوينه موسيقيًّا هو أحد احتمالات "الصّمت" الممكنة، حين تُفصح عن نفسها (أو تتحقّق) في حالة انهيار دالة الصّمت (Silence function collapse)- (3) بعد أن كان متعدّد (أو لا نهائيّ) الاحتمالات في وضعيته الفائقة لصالح إفصاح محدّدٍ بعينه. وهنا، لا يكون "الانهيار"، الذي يسكت عن بقية الاحتمالات الممكنة غير المتحقّقة، انهيارًا صوتيًّا، على مستوى الفكرة الموسيقية الصرف وحسب، بل كذلك على مستوى مجمل الخطاب العام، الاجتماعي والنفسي والسياسي الخ، الذي يُحيط بظروف هذا التجلّي الذي "يسكت عن" بقدر ما "يُفصح عن".

يُمكننا هنا أن نُقارب مفهوم "الإفصاح" بمصطلح النوئيما (noema) الذي استخدمه إدموند هوسّرل للتعبير عما هو "فكر" أو "مضمون" أو "مُدرَك حسّي"؛ بمعنى أن النوئيما هي نوع من التعقّل المضمونيّ الخالص لفعل الإفصاح الصّائت (الكلاميّ، عند هوسّرل)، والذي لا يعبّر عما حدث، بل يُعبر عن معنى ما حدث كلاميًّا (4)، مع الأخذ بعين الاعتبار بأن "التعقّل المضمونيّ الخالص" في لغة الموسيقى الصّرف ينشغل بالمضامين الحسّية والرياضيّة وغيرها من المضامين التي تسمح بها لغة الموسيقى؛ بمعنى أن "التعقّل المضمونيّ الخالص" لا يحدث، موسيقيًّا، إلا بما يجعل من كتابة "الجملة الموسيقيّة" (5) بوصفها مقولةً وفكرة واحدة متماسكة أمرًا مُمكنًا، وذلك يكون ممكنًا حين تتمكن الرموز الموسيقيّة من التعبير، بحيث تُمرّر "تخريجاتها القصديّة" Intentional exteriorizations بكل ما يحمله المومنتوم (الزّخم) الموسيقيّ من تراتبيّات صوتيّة/ زمنيّة (إذا كانت الفكريّة خطيّة أحادية)، وتشابكات بين هذه التراتبيات (إذا كانت الفكرة نسيجيّة تعدّدية)، وبأكبر قدرٍ من الاختزال وتجنُّب الفوائض، بحيث لا تتحوّل علامات التعبير (articulation) إلى أدوات تفسير، كما نرى في المثال التالي للمؤلف الموسيقي الهنغاري جورج كورتاخ (6)، حيث تُضيف العلامات التعبيريّة أبعادًا جديدة للنوتات المُختزلة والموزعة بتقشّفٍ مُحكم على المدرّجين الخماسيّيْن، بدءًا من إضافة الدعّاسة اليُمنى للبيانو (con ped.) في بداية الجملة، ونثر علامات المكوث (Fermata) بأشكالٍ متنوّعة، فوق رؤوس الرموز الصّائتة أو بين رؤوسها، في المساحات "الصّامتة"، ناهيك عن الاستثارات النفسية التي تتشكّل بفعل علاقات المسافات الصوتيّة والأطوال الزمنيّة بين الرموز المختلفة، كذلك، تشتيت العلاقة التتابعيّة (تنازليًّا) بين النوتات السوداء القصيرة (صول، فا، مي، ري، دو) لونيًّا عبر تفريقها في المساحات الصوتيّة المتباعدة، وعبر قطع التواصل بينها بواسطة النوتات البيضاء الطويلة المتتالية (تصاعديًّا) (لا، سي) والمتفرّقة.

أما ما تقوله العبارة الموسيقيّة وتستبينه فهو لا يُحيلنا بالضّرورة إلى عبارة: "زُهُورٌ نحنُ البَشَرُ، زُهورٌ هشّةٌ..." تحديدًا، لكنها تحيلنا إلى الانفتاح في المعنى، وعدم الإقفال، في العبارة الشّعرية المُقتضبة، كما في الشّذرة الموسيقيّة. فما تقوله الموسيقى هنا يُبقي لعازف البيانو البابَ مفتوحًا على مصراعيه للتأويلات، وقول ما لم تُفصح عنه الرموز المكتوبة في تخريجاتها القصديّة والمُعلنة. فكيف يتعامل العازف، مثلًا، مع مسألة "إغفال" العلامات الزمنيّة المحدِّدة، وبالتالي العلاقات الزمنيّة التي يُمكن قياسها بين النّغمات الصّوتيّة المتناثرة؟

بكلماتٍ أخرى، هامشُ التأويل هنا مُشرعٌ للعازف (الأداء الصّائت) لا بقدر ما تقوله الرموز، لكن بقدر ما لم تُفصح عنه، أو بقدر ما لا تتسلّط عليه. ومن السؤال "ما الذي سكتت عنه الرموز الكتابية هنا؟" أو، "ما الذي أفسحت له؟"، يبدأ مشوار التأويل؛ كما يُمكن أن نسأل: "ما الذي لم تقله عبارة "زُهُورٌ نحنُ البَشَرُ، زُهورٌ هشّةٌ..."؟

هنا، نكتشف أن الكتابة "إنشاءٌ"، "أي أنها اختراعٌ على غير مثال"، كما يقول أدونيس، والذي ينطلق من هذا التوصيف ليؤكّد على أن الكتابة هي وليدة ثقافة "النُّقصان" لا "الكمال"، وأن الكتابة بوصفها إنشاء، تُلغي مفهوم الكمال الذي يحتذي الماضي ومُثُلَه، وبالتالي، فإن الكتابة تأتي من المُستقبل، من الصّامت الذي لم يُفصِح ولم (ولا) يكتمل. (7)





موسيقى بضمير المتكلّم

لا يمكن التعامل مع "الموسيقى العربيّة"، تاريخيًّا، إلا بوصفها ثقافة سمْعِيّة، لا تدْوينيّة، (قبل القرن العشرين)، وبذلك، يُصبح ضبط إيقاع ذاكرتها ورصده أمرًا مستحيلًا، في نشوئه وتطوره، كما يصعب متابعة آليّات تناقلها ومصداقيّة ناقليها وقابليّتها للدّحض (8) عبر الزمن والجغرافيا. لكن، ما هو مؤكّدٌ في هذا النوع من الموسيقى، بوصفها ثقافة سَماع، هو أنها تخضع لشروط السّماع وظروفه الاجتماعيّة، فتُهَذَّبُ بالاستساغة وفقًا لتمحيص الجمهور المتلقّي، وتولدُ وتُصقَلُ بحسب ما يُمليه ابْتِلاءُ هذا "الجمهور" واختبارُه. وبكلماتٍ أخرى، يصعب هنا أن نُشير إلى هذه الموسيقى خارج وجودها الاجتماعي، المكاني، والزمانيّ، وخارج ظروف إنتاجها وتداولها؛ هي، إذًا، بنت الحدث الموسيقيّ المُعاش في اللحظة الحاضرة، لا بنت الوثيقة المُدوّنة العابرة للزمن. معنى ذلك، أن إحالة "الخطاب" (9) إلى "ذاتٍ متكلّمة" (مغنٍّ، عازف الخ)، تحمل سِمة البداهة بقدر ما تنتمي هذه "الذات المتكلّمة"، (وهي، بلغة هايدجر "الدازاين Da-sein) إلى سياق الفعل الموسيقي بوصفه فعلًا تفاعُليًّا مع "الذات المتلقّية" (الجمهور). وهذا يؤدّي إلى تداخل الشُّحنات الدّلاليّة والتعبيريّة في "الخطاب الموسيقي" مع الدلالات القصديّة للذات المتكلّمة، بحيث تتضاءل المسافة بين "الفكرة الموسيقيّة" ومن يؤدّيها، أو تتلاشى. هذا لا يحدث مع النصّ الموسيقي المُدوّن، حيث يتناءى معنى النصّ الموسيقي عن قصد المؤلّف مع مرور الزمن، خاصّةً إذا فقدنا "الوثائق" (تاريخ، صور، يوميات، سِيَرْ، الخ) التي تُكمل صورة السّياق الأوسع للخطاب الذي أنتج هذا النصّ أو ذاك. ففي ثقافة التدوين، ثمة سُلطة للمؤلِّف على النصّ لا يتمتّع بها مؤدّي هذا النصّ؛ هذه السُّلطة التي تسمح لمؤلِّف موسيقي مثل غوستاف مالر (10) أن يُغيّر ويُعدّل ويَشْطُب في نصوصه، على مرأى ومسمع الأوركسترا حين كان يقود أعمالَه بنفسه، بينما لا يجوز ذلك لغيره. وإن كان جينادي روجدستفنسكي (11) قد "تدخّل" في بعض نصوص ألفرد شنيتكي (12)، فهذا لم يحدث دون موافقة (أو مباركة) المؤلِّف نفسه.

إذًا، وبينما التّنائي، بل والانقطاع أحيانًا، بين الدلالات الرمزيّة (النوتات وعلامات التعبير) للنصّ الموسيقي وبين القصد الذهني للمؤلِّف، يلقي بظلاله القويّة على ثقافة التدوين، بعيدًا عن مجرّد "التوثيق الإخباري" لـ "خطاب شفويّ حيّ" سابق، وبينما يمنح ذلك نوعًا من الاستقلاليّة المعنويّة للنصّ بعيدًا عن "ذات المؤلِّف" ومقاصده الذهنيّة والنفسيّة، بحيث يصير ممكنًا للنصّ أن يُفلت من "سطوة" السّياق الذي أنتجه، فيأخذ معانيه من مساحاتِ عيشٍ أوسع من حدود الرحم الأول، فإن الحال في ثقافة اللا-تدوين (ثقافة السَّماع) مختلف كلّ الاختلاف، بسبب افتقاده، أولًا، للاستقلال الدّلاليّ للنصّ الموسيقي، وبالتالي، انعكاس ذلك على معنى "التأويل" وأهميّته عند أداء وتلقّي النص الموسيقي في كلتا الثقافتين.

من هنا، فإن الاستقلال الدلاليّ للنصّ الموسيقي المدوّن يجعل العلاقة بين لحظة الولادة والانفعال الأولى، بكل ما تحمله من شحنات اجتماعيّة وذاتيّة، وبين المُدوّنات، وفعل التدوين السّيروريّ ذاته، أكثر تعقيدًا وأكثر جدليّةً، بدءًا من السؤال حول مدى قدرة النصّ على استنطاق الضمير المتكلّم للمؤلِّف، وصولًا إلى السؤال حول ما إذا كان "ضمير المتكلّم" (أو المؤلِّف) هو النظير الجدليّ للرموز الموسيقيّة المدوّنة على الورق. هذان السؤالان، وما بينهما من أسئلةٍ ممكنة، تطرح مسألة التأويل كمشكلةٍ موازية لمشكلة الاستقلال الدلاليّ للنصّ الموسيقي.

هنا، لا بدّ أن نشير بأن النصّ الموسيقي "الخالي" من إشارات التعبير، هو أقرب إلى التجريد وأوسع بابًا للتأويل وأكثر استقلالًا عن مؤلّفه، وربما نجد في مدوّنات ج. س. باخ ما يؤكّد كلامنا، لولا الكم الهائل من المعرفة التي وصلتنا عن عصره وشيفراته الجمالية، ومع ذلك فإن مساحات التأويل لم تبدأ مع أداء جلين غولد (13) لباخ، ولم تتوقف عنده كذلك، بسبب هذا "التقشّف" التعبيري ذاته، وبسبب الصّمت الخفيّ الراكد في لجة الأصوات المتعدّدة الضّاجّة، والذي لا يُفصح عن نفسه إلا لمؤوّلٍ ملحاح ومُبدع.
فهل يُمكن أن نطرح فكرة التأويل كولادةٍ ثانية متجدّدة للنصّ؟






موسيقى بضمير المُخاطَب
الجمهور المُخاطب في ثقافة السّماع ليس جمهورًا متخيّلًا، وليس جمهورًا قارئًا (للموسيقى) بالضّرورة؛ هو ليس جمهورًا متلقيًّا بصمت، بل هو، في الغالب، جمهور متفاعل ومُتدخّل ومؤثّر، لكنه يبقى جمهورًا مُخاطبًا.

من هو المُخاطَبُ في المُدوّناتِ الموسيقيّة؟
تظلّ الرموز الموسيقيّة "ميّتة" وصامتة إلى أن يتمّ أداؤها صوتيًّا، لتنتقل إلى مسامح الجمهور المتلقّي عبر الصّوت، لا عبر الكتابة المرئيّة الصّامتة. ويقتصر "سَماع"، أو بالأحرى، تخيّل النتيجة الصّوتيّة من خلال القراءة الصّامتة للمدوّنة (Score) على المختصين والمُتدرّبين فقط. ما معناه أن قراءة المدوّنة الموسيقيّة من قبل جمهور عادي دون وسيط أدائيّ هو أمر غير ممكن في العلاقة بين النصّ والمُستمع في الموسيقى. ولا مجال لمُستمعٍ اعتياديّ أن ينعم بعلاقة شخصيّةٍ مباشرة مع النصّ الموسيقي المُدوّن، وتأويله ذاتيًّا دون وسيط.

لا يُمكن للمغني أو العازف اليوم أن يُقيم علاقة مع "نصّ أصلي" لأغنية من تلحين الشيخ أبو العلا محمد (14)، مثلًا، سمعناها وعرفناه من خلال أداء أم كلثوم (15)؛ ليس في حوزتنا أيّ نصّ أصليّ يُشير إلى مؤلّفه مباشرةً ويُقرّبنا من الفكرة الموسيقيّة، ما قبل الأداء الكلثوميّ وتأويلاته الغنائية، بحيث نُقيم علاقةً مُستقلّةً مع نصٍّ أصليّ مُستقلّ، لا عن الأداء وحسب، بل عن المؤلِّف ذاته، في حين يُمكن لأيّ عازف بيانو، مثلًا، أن يتجرّد من أيّ أداءٍ لأيّ مؤلَّفٍ للبيانو، ويدرسه "من الصّفر" عبر قراءة مباشرة للنص الأصلي (Urtext) المكتوب، فيؤوّله دون وسيط.

في الثقافة الموسيقيّة السّماعيّة، (كما عند العرب)، لا وجود لنصٍّ موسيقيّ "يعيش" مُستقلًّا عن التلاقي الفعلي مع ضلعَيْ المُثلّث الآخرين: المؤلِّف والمؤدّي (المؤوّل interpreter)، بينما يتّجه النصّ المُدوّن (وليس المؤلِّف الشخص) في ثقافة التّدوين الموسيقي نحو مُخاطَبٍ قارئٍ أولًا، ثم مجهول ثانيًا؛ المؤدّي هنا، حتى أثناء حياة المؤلِّف، "يستلم" المُدوّنة ويدرسها باستقلالٍ عن المؤلّف، مبدئيًّا، بينما يقوم المؤلّف، في ثقافة السّماع، بـ "تحفيظ" المؤدّي سماعًا وتلقينه، دون وجود مُدوَّنة مُلزِمة، مما يترك لـ "سُلطة" الأداء (خاصّة المغني) المساحة الواسعة للتأويل والتّنويع، بل والتغيير أحيانًا، منذ لحظة التّلقين الأولى، وبحضور المؤلِّف شخصيًّا؛ بل هذا ما يتوخّاه الملحّن الغنائي العربي من المغني ويستحسنه.

النصّ الموسيقي، حين يصير إلى مُدوّنة، يتحرّر من محدوديّة المُشافهة وجهًا لوجه، وشروط الذاكرة السَّمْعِيّة. كما أنه، باستقلاله الدّلالي، ينفتح أمام جمهورٍ غير ضمنيّ، بل يخلق لنفسه جمهوره الخاص؛ بدءًا من الموسيقيين القادرين على قراءة النصّ ثم أدائه، وصولًا إلى الجمهور الأوسع، الذي يتلقى الموسيقى سماعًا، عبر تأويلات وتسويغات وتنويعات الأداء الموسيقي للنصّ، لا بالقراءة المباشرة له.
هنا نتساءل: إلى أيّ مدى يكون فعل التأليف، حين يتمّ عبر سيرورة التّدوين، فعل استملاكٍ في الوقت نفسه؟


موسيقى بضمير الغائب
فعل التأليف الموسيقي التدوينيّ لا يقوم خارج النوع الموسيقي (الجانر)، وإن حصل، فيكون متقصّدًا ذلك. ولذلك، فحين نريد أن نغوص في فهم الأنماط الخطابية والتعبيريّة والجماليّة، فعلينا، ربما، أن نفهم الوظيفة التي تقوم بها الأنواع الموسيقيّة (فوجا، برليود، سوناتا، كونشيرتو، سمفونيّة، أوبرا، الخ) في عمليّة إنتاج الخطاب الموسيقي بمفهومه الواسع، أو المُدوّنة الموسيقيّة في حدود كونها سندًا ماديًّا لا يُخاطب جمهورًا حاضرًا متفاعلًا وحسب، بل يُخاطب، كذلك، جمهورًا غائبًا، لم يولد بعد.

لا يُمكن صياغة جملة موسيقيّة خارج النوع؛ فالجملة الموسيقيّة السوناتيّة لا تشبه أو تناسب الجملة الموسيقيّة لمازوركا أو فالس أو فوجا أو متتالية (16). وبالتالي، فإن ثمة نظام معقد ومتكامل من الـ "شفرات" الثقافيّة واللغويّة، في صُلب لغة الموسيقى، تحكم الخطاب الموسيقي في وحداته الأصغر. والسؤال هنا، إذا ما كانت الأنواع ذاتها تُشكّل نظامًا شَفريًّا أصيلًا للتدوين الموسيقي، على نحوٍ مباشر أو غير مباشر، وما هي حدود الانضباط أو الانفلات من نظام الشفرات هذا؟

في التدوين الموسيقي الحديث، لم تعد اللغة الكتابيّة التقليديّة قادرة على إيصال الأفكار الجديدة المتسارعة، فصرت تجد قاموسًا من الإشارات، والتعريفات، والترميزات، مُلحقًا بالمُدوّنة الموسيقيّة، يشرحها للمؤدّي. فلو نظرنا، مثلًا، إلى مؤلّف هلموت لاخنمان (17) بعنوان "Pression" للتشيلو منفردًا، فإن الإنسان العادي، بل وحتى الموسيقي غير المطلع على أدبيات الموسيقى الحديثة، لن يحزر أن ما يراه هو مُدوّنة موسيقيّة يُمكن عزفها.

من هنا، فإن الأنواع الموسيقيّة لا يُمكن اختزالها بالرموز الموسيقيّة المدوّنة والمنقولة على الورق، فهي تعرض ظروفًا وسياقات أوسع من قُدرة التدوين الموسيقي على وصفها وإجمالها، كما يُمكن وصف بعضها بعيدًا عن لغة التدوين الموسيقي ذاتها. ومنبع ذلك أن التّدوين الموسيقي هو ابن الحياة قبل أن يُصبح ابن الورق المصفوف في المكتبات. ولكن، ما يهمّنا هنا، بعيدًا عن التفصيلات التاريخيّة المعروفة للمعنيين، هو أن الأنواع الموسيقيّة تُتيح للكتابة الموسيقيّة أن تتخطّى الجملة الموسيقيّة الواحدة إلى بُنياتٍ عضويّة وسرديّاتٍ أطول أو أقصر، أكثر تعقيدًا، وغير قابلة للاختزال، لا مجرّد إضافاتٍ واصطفافاتٍ كميّة. كما أن الأنواع، بوصفها بُنيات (Structures)، وضمن جدليّتها مع سيرورة التدوين ذاتها، تحكم الاسترسال وتضبط الشّطح وتنزع إلى البُنيويّة الصّارمة التي تصبح معيارًا من معايير التأليف الموسيقي الجاد.

ثمة علاقة جدليّة تبادليّة بين الرمز الموسيقي المكتوب (الصّامت)، والفكرة، أو الرمز المنطوق (الصّائت). فالتّدوين، بما هو تعبير صامت عن مخيّلة المؤلّف الموسيقيّة، قد يتجاوز حدود القدرات الأدائيّة والصّناعيّة، فيُجبر المؤدّي (المعني أو العازف) على تطوير مهاراته التي ألفها، كما يُجبر الصّانعين على تطوير الآلات الموسيقيّة بما يتلاءم مع تطور الأفكار. لكن، وكما قلنا، فإن العلاقة هنا جدليّة وتبادليّة، بحيث يُمكن للممارسات الموسيقيّة الارتجالية أو التجريبيّة أن تتجاوز المساحات المألوفة لتدفع "التدوين" على تطوير لغته ورموزه بالمقابل، أو الاستعانة بالشروحات اللغويّة، كما رأينا عند لاخنمانْ. هذه الجدليّة، لا نجدها في ثقافة السّماع، حيث لا وجود للمُدوّنة كمرجعٍ أو سندٍ ماديّ مُلزِم.

هنا لا بدّ من إشارةٍ هامّة، وهي أن التدوين الموسيقي، إذ يأخذ بالحسبان ظروف الأداء، عبر اختياره المُسبق والمحدَّد للآلة أو الصوت الذي يؤلّف الموسيقى من أجله، ويأخذ بعين الاعتبار محدوديّة وطبائع وخصوصيّات وجماليّات وتقنيّات هذه الآلة أو تلك، فإن الموسيقى اللا-تدوينيّة لا تأخذ بعين الاعتبار، أبدًا، كيف سيكون حال الموسيقى إذا ما تمّ تدوينها.
ما معنى ذلك؟
قبل أن نشرح معنى هذه العلاقات، لنأخذ مثالًا واحدًا من كلّ ثقافة.
حين يكتب مؤلّفٌ موسيقيّ كونشيرتو للكمان والأوركسترا مثلًا، فهو يعرف تمامًا كلّ ما يُمكن للكمان أن تقوم به، وكلّ ما لا يمكنها القيام به؛ يعرف تاريخها وريبرتوارها، كما يعرف، وهذا الأهم، لماذا اختار الكمان تحديدًا لمحاورة الأوركسترا، وماذا يريد أن يقول من خلال الكمان ولا يمكن قوله من خلال آلة أخرى. هذا ينطبق كذلك على الكتابة الأوركسترالية في جدليّتها مع الكمان بما في ذلك من تعقيداتٍ يعرفها كلّ مؤلّفٍ موسيقيٍّ جادّ. وبالتالي، فعند الكتابة تؤخذ كلّ هذه الاعتبارات بعين الاعتبار بحيث لا يحتاج العازفون إلى المؤلّف بتاتًا، ويُمكنهم العيش مع المُدوّنة واستنطاقها باستمرار بوصفها، هي كذلك، قادرة على استنطاقهم دون زلاّتٍ أو أخطاء.

من الجهة الثانية، دعونا نتخيّل عازفًا شرقيًّا يرتجل على آلة العود، وأننا قمنا بتسجيله صوتيًّا، ثم تدوين ما عزفه ارتجالًا. كيف سيبدو شكل المُدوّنة؟ ببساطة، سيبدو (للعازف) أصعب بكثير مما سمحت له ذاكرته الموسيقيّة الاسترجاعيّة أثناء الارتجال، حتى إنه قد لا يتمكن من استعادة عزفه السابق من خلال قراءة ما تمّ تدوينه، على الأقل، ليس بنفس البساطة والتلقائيّة التي تمتّع بها قبل أن يُشاهد صوته مُدوَّنًا على الورق.
مدوّنة تقريبيّة لارتجال على مقام مُحيّر بخط د. حبيب توما (18).

ما الذي نستنتجه من هذين المثالين؟
الإجابة البسيطة هي أن الدماغ البشريّ لا يعمل في كلتا الحالتين/ الثقافتين على النحو ذاته. وإن ذاكرة السّمع لا تتطابق مع ذاكرة الورق، وإن الموسيقى التي "تنطق" فور استلالها من الذاكرة السّمعية للإنسان، لا تشبه، في علاقتها مع الزمن، الموسيقى التي "توضع" على الورق وتمرّ بسيروراتٍ تدوينيّةٍ قد تمتدّ على مسافاتٍ متقطّعةٍ من الزمن قبل أن تُستجمع وتُستنطق في شكلها النهائي.
المؤلّف الموسيقيّ حين يُدوّن، لا يبقى "هو الحاضرُ الناطق" بالعمل، بل "هو صانعه الغائب"، وفي كلتا الحالتين يحضر المؤلّف في ضمير الـ "هو" الغائب.
من هنا، فإن التدوين قادرٌ على القيام بما لا تقدر عليه ثقافة السّماع، حيث أن عمليّة الكتابة، كما يقول بول ريكور "بتحريرها نفسها، ليس فقط من مؤلّفها، ومن جمهورها الأصليّ، بل من ضيق السياق الحواري، ما يكشف صيرورة الخطاب مشروعًا في العالم"- (19)- (ريكور، نظريّة التأويل، الخطاب وفائض المعنى، 2006، صفحة 72)، فهي تنقل الذّات المُبدعة من حيّز الذات، بوصفها رَحمًا ولاّدًا ينزع إلى الضّبط والاستملاك، إلى حيّز الموضوع، بوصفه مَوْلودًا مُرتحِلًا يجنح إلى التّنائي والاغتراب.

عمليّة الكتابة كما يقول بول ريكور "بتحريرها نفسها، ليس فقط من مؤلّفها، ومن جمهورها الأصليّ، بل من ضيق السياق الحواري، ما يكشف صيرورة الخطاب مشروعًا في العالم"



الزمن: الاستملاك، التنائي والاغتراب

في الموسيقى، ثمة ثُنائيّة يصعب اختزالها، كانت وستظل ثنائيّة، هي "التدوين والأداء"؛ التّدوين بوصفه رغبة في استملاك اللحظة و "حبسها" في الزمن، أو "حَبْس" الزمن (سياق اللحظة الراهنة) فيها، والأداء بوصفه تأويلًا عابرًا للزمن، متنائيًا عن لحظة الكتابة نفسها، وعن ظروف إنتاجها.

التدوين، في هذه المُزاوجة، يلعبُ دورًا هامًّا في توثيق ورصد وتقنين أصناف "الممارسة" الموسيقيّة، بل في مَوْضَعة العلاقة بين التفكير الموسيقي الصّرف وبين التعبير الكتابي. إنّ العلاقة بين التدوين والأداء: الاستملاك والتنائي، هي علاقة أنشوطيّة (Loop). بمعنى أن الصّوت (الناتج الموسيقي) لا يتحقّق إلا بقيام "الأداء" بتأويلٍ للمادّة المكتوبة لكي يُعطيها حياة ووجود فعلي – اجتماعي، مسموع ومحسوس وحاضر في المكان والزمان المتعيّنين، ولكن، وحين تنتقل المُدَوَّنَةُ من حيّز صمتها إلى حيز الصّوت والفعل الأدائي، وتتحوّل من تجربة فكريّة ذاتيّة إلى تجربة عمليّة جماعيّة، أو لنقل إنها تنتقل من حيّز الغياب إلى حيّز الحضور الاجتماعي (الورشة أو الحدث الموسيقي)، فإنها تعود لتستدعي الكتابة من جديد لتمنحها حياةً ووجودًا خارج لحظة الفعل الحاضرة؛ بمعنى أن المُدوّنة الصّامتة تتطلّع أبدًا إلى جمهور مُستقبلي، "وهميّ" وغائب، بينما يتطلع التأويل الصّائت إلى جمهور حاضر "متفاعل".
لا يتوقف الأمر عند هذا الحدّ، فتداعيات هذه المسألة تُلقي بظلالها على طبائع الثقافتين، حيث أن ثقافة السّماع، بوصفها رفيقةَ الأذن وبنت الحدث الاجتماعيّ، وبنت اللحظة الحاضرة، وبنت التفاعل (وعادةً لا يكون صامتًا)، هي ثقافة تُخاطب الجَمْعَ والحسَّ الجمعيّ، بينما ثقافة التدوين، بوصفها رفيقة العين والبصر وبنت العُزلة والاختلاء بالحبر والورق، وبنت الزمن المتنائي الغائب، فهي تخاطب الذات الفرديّة وعوالمها الداخليّة؛ بمعنى أن ثقافة السماع تنزع إلى الجمع والتوفيق، بينما تذهب ثقافة التدوين إلى "التفريق" ومخاطبة الفرد.

هذا التوصيف يأتي كي يٌقارب كلًّا من الثقافتين من حيث تفترقان، لكنه، ولا بحالٍ من الأحوال، توصيفٌ يُمكن اختزاله بالأسود والأبيض؛ فيُمكن لارتجالٍ مسموعٍ أن يُحدث تأثيراتٍ مختلفةٍ في النفوس السامعة، فلا تجتمع عليه، لا في المعنى ولا في الذائقة بالضرورة، كما يُمكن لمُدوّنةٍ أن تُعنى بالحماسة الجماهيريّة وتتجنّد لاستثارتها. هذا صحيح، ولكن، لكي تساعدنا المقاربة على الفهم، فلنأخذ الشعر العربي بتاريخه السماعيّ الطويل مثالًا، حيث ظلّ الشاعر، لقرونٍ من الزمن، "يقول" الشعر ولا يكتبه، وكانت القيمة السماعيّة والصّوتيّة والإيقاعيّة للشعر في صُلب اهتمام الشاعر الذي كان يطرح القصيدة بلسانه في آذان جمهوره، ولم يكن ممكنًا للقصيدة، غير المُدوّنة، أن تُقيم علاقة فرديّة مع قارئٍ مجهول وغائب دون وساطة الشاعر أو الصّوت المُخاطِب. وحين تطوّرت القصيدة البصريّة، وقلّ الاهتمام بالقيمة السّمعيّة للقصيدة ووقعها على الآذان، بل صار الاهتمام بكيفيّة وقعها على الأبصار أكثر تداولًا، في بعض التجارب الشّكلانيّة، صارت القصيدة أقل "جماهيريّةً" وأقل مُخاطبةً للحسّ الجمعي، وأكثر استقلالًا وانفصالًا عن الحدث الشعري الاجتماعيّ ودوافعه أو تداعياته.

هذا الفارق الذي نميّز فيه بأن ثقافة السّماع هي ابنة اللحظة والبداهة والفطرة والارتجال، بينما ثقافة التدوين هي ابنة الزمن الممتدّ والجهد والمُراكمة والتخطيط والتمحيص، يُحيلنا إلى فهم فارق الجهد والمُكابدة بين الثقافتين. وقد أوضح ذلك أدونيس تمامًا في فصله المُعنون "من الخطابة إلى الكتابة"، حيث يقول: "فالخطابة (الشعر) فطرية تقوم على البداهة والارتجال (العفويّة في الاصطلاح المحدث)، أما الكتابة فكسبيّة تقوم على المعاناة والمكابدة..." (أدونيس، الثابت والمتحول، بحث في الإبداع والاتباع عند العرب - الجزء الرابع، 2002، صفحة 21).

لكن، ثمة فرقٌ آخر هام هنا، يكمن في أن ثقافة السّماع تظلّ أقل قدرةً على "التحدُّث" بأكثر من صوت في آنٍ معًا، بينما تواكبت ثقافة التدوين مع الحاجة إلى تعدّد الأصوات داخل النصّ الواحد. هذا فارقٌ نوعيٌّ يُشكّل مفترق طرقٍ، ربما الأهم، بين طبائع الثقافتين.
من هنا، فإن ثقافة التدوين، حين تُخاطب "الغائب"، فهي تقوم على التّذكّر (الورقيّ) وعلى المُراكَمة، (وقد يحدث هذا أحيانًا في التأليف غير التدوينيّ حين تتوفر للمؤلِّف ذاكرة استثنائيّة تحلّ محلّ الورق، فيَلُوك الفكرةَ مُطوّلًا ويُعيد صياغتها مرارًا، وعلى مستوى الأداء، فقد يتم تخزين النصّ، بدلًا من الورق، في استعاداتٍ طقوسيّةٍ وشعائريّةٍ متكررة، لكن، ما يتداعى عن ذلك، هو أن هذه الخاصيّة تتطلّب، بل وتخلق، جمهورًا يختلف عن جمهورٍ يتلقّى سريعًا ويبتلع سريعًا ويهضم سريعًا ضمن اللحظة العابرة؛ جمهورًا يجتهد: يقرأ ويسمع على نحوٍ تراكُميٍّ كذلك، وعلى امتداد الزمن، ليكتشف طبقات النص وخفاياه وتعدّد أصواته ومقولاته شيئًا فشيئا.
إن "الموسيقى العربيّة"، ورُغم اعتمادها على ذاكرة البشر أوّلًا وأخيرًا، لا ذاكرة الورق (أو التسجيلات الصوتيّة، كما هو الحال منذ نهاية القرن التاسع عشر وحتى يومنا)، هي "ثقافةُ نِسْيانٍ وَرَقيّ"، في الوقت الذي يُجسِّدُ فيه التّدوين الموسيقي ثقافةً "تُقاوم" النِّسيان، أي "ثقافة ذاكرةٍ ورقيّة". ولكن، هذا "النسيان" الورقيّ، يُشير إلى أن "التذكّر" "الشّفويّ/ السّمعيّ"، غير المضبوط أو الموثوق، والمنحرف باستمرار عن الأصل، هو، على نحوٍ واضحٍ، ابن "الخطّيّة اللّحنيّة" التي تُسهّل التذكّر السّمْعيّ. ولو كانت الموسيقى العربيّة، أو بالأحرى الغناء العربي، لو كان متعدّد الأصوات ومُعقّد البناء، لما تكيّفت الذاكرة الشفويّة مع هذا التّعقيد، الذي كان سببًا، كما يبدو، في تطور التدوين الموسيقي في الثقافات الموسيقية الأوروبيّة والغربية في طور متأخر من الحضارات.


*مؤلف موسيقي وشاعر- الناصرة. درس التأليف الموسيقي في موسكو وبرلين وعواصم أخرى وحاز على الدرجة الأكاديمية الثالثة.

هوامش:

1. Gioachino Antonio Rossini(1792-1868). مؤلف موسيقي إيطالي.
2. أي رواية فلان عن فلان بالعنعنة، ولفظ (عن) لا يقتضي الاتصال ولا يقتضي الانقطاع بذاته.
3. أستعير هذا الاصطلاح من حقل الفيزياء الكمومية، وأتصرف به بما يخدم موضوعنا. أنظر: (انهيار الدالة الموجية – Wave function collapse).
4. يُميّز هوسّرل بلغته الألمانية بين Sagen بمعنى "قَوْل"، وبين Aus-sagen بمعنى التَّبْيان.
5. في الموسيقى الحديثة، قد لا نجد أحيانًا "جملًا موسيقيّة" بمفهومها الكلاسيكي، فثمة أبجديات جديدة في عدد من المدارس والتجارب الموسيقيّة الحديثة لا يستقيم معها مفهوم "الجملة"، لكن، وبدلًا عن ذلك، لا بدّ، دائمًا، من توفّر بُنية صغيرة تُشكّل مقولةً أو مومنتوم موسيقي ذا دلالة.
6. Gyِorgy Kurtag (1926) مؤلف موسيقي هنغاري.

7. انظر: (أدونيس، الثابت والمتحول، بحث في الإبداع والاتباع عند العرب - الجزء الرابع، 2002، صفحة 27)
8. كان الفيلسوف كارل بوبر أول من قدّم مفهوم "قابليّة الدّحض" Falsifiability، إذ اعتقد بأن هذه القابلية تشكّل الجزء المنطقي وحجر الأساس لنظرية المعرفة العلمية، وأنها ترسم حدود البحث العلمي، فاقترح أن الافتراضات والنظريات غير القابلة للتّكذيب أو الدّحض تعتبر لا علمية، وإن اعتُبرت عكس ذلك فهي إذًا .8 علم زائف.
9. ونقصد هنا بالخطاب، أي مُجمل المكوّنات التي تُشكّل الحدث الموسيقي، وهي لا تقتصر على "النصّ الموسيقي" وحده، بل تتجاوزه إلى المركب الاجتماعي، ظروف الحدث الموسيقي، لغة الجسد الخ.
10. Gustav Mahler (1860-1911) مؤلف موسيقي وقائد أوركسترالي نمساوي.
11. Gennady Nikolayevich Rozhdestvensky (1931-2018) قائد أوركسترا روسي.
12. Alfred Schnittke (1934-1998) مؤلف موسيقي روسي، وأحد أساتذتي في التأليف الموسيقي.
13. Glenn Herbert Gould (1932-1982) عازف بيانو كندي اشتُهر بتأويلاته الفريدة لمؤلفات جوهان سبستيان باخ.
14. ملحن غنائي مصري (1884-1927).
15. هي المغنية المصرية فاطمة بنت الشيخ المؤذن إبراهيم السيد البلتاجي وتعرف أيضًا بكُنيتها المشهورة أُم كَلثوم، (1889-1975).
16. Mazurka, Waltz, fuege, Suite
17. Helmut Friedrich Lachenmann (1935) مؤلف موسيقي ألماني.
18. (Touma, Maqam Bayati in the arabian Taqsim, a study in the Phenomenology of the Maqam, 1980, p. 63)
19. أي "معالم طرُقٍ جديدة للوجود في العالم".

مراجع
1. أدونيس. (2002). الثابت والمتحول، بحث في الإبداع والاتباع عند العرب - الجزء الرابع (المجلد 4). بيروت، لبنان: دار الساقي.
2. بول ريكور. (2006). نظريّة التأويل، الخطاب وفائض المعنى. (سعيد الغانمي، المترجمون) الدار البيضاء، المغرب: المركز الثقافي العربي.
3. جاك دريدا. (2005). الصوت والظاهرة، مدخل إلى مسألة العلامة في فينومينولوجيا هوسّرل. (فتحي إنقزو، المترجمون) الدار البيضاء، المغرب: المركز الثقافي العربي.