Print
عبد الكريم قادري

"كودا".. مدخل سينمائي لمعرفة عوالم الصم المجهولة

24 أغسطس 2021
سينما

 

يوجد في العالم أكثر من 72 مليون أصم حسب الأرقام التي قدّمتها هيئة الأمم المتحدة، استنادًا لإحصائيات الاتحاد العالمي للصم، يستخدمون في تواصلهم أكثر من 300 لغة إشارة، ويعيش 80 بالمائة منهم في الدول النامية، وانطلاقًا من هذه الأرقام وجب طرح العديد من الأسئلة حول حقّ هؤلاء في التعليم والتثقيف والترفيه والاستمتاع بالفنون التي تناسبهم، مثل السينما التي تتعالى عليهم وتتجاهلهم في الكثير من الأفلام، ولهذا باتوا غير معنيين بها وبتفاصيلها رغم أن حواسهم مهيأة ومستعدة لها، ليس مثل الموسيقى التي يتعاملون بها داخليًا وبشكل غير محسوس. ورغم هذا الاستعداد غير أن الفن السابع لم يطرق أبوابهم، ولم يقدم لهم أفلامًا تستعمل فيها لغة الإشارة التي يفهمونها ويستوعبون إشاراتها، لأنها غير مجدية اقتصاديًا حسب منطق شركات الإنتاج السينمائي الكبرى، أو بسبب التعقيدات وصعوبة إنجاز عمل يحاكي ويتواصل مع هذه الفئة المهمة، وأكثر من هذا كله ربما قلة الوعي والحديث والتعريف بأحقية هؤلاء في الترفيه والتعليم والتثقيف وفهم الأشياء التي يستوعبها الكل، وهي المطالب المشروعة التي وجب التعاطي معها بجدية بالغة وتقديم حتى تنازلات لجعل هذه الفئة تحس بإنسانيتها.

ساهم الفيلم الأميركي "كودا" (CODA)، (111 دقيقة، 2021)، الذي كتبته وأخرجته سيان هيدر، في كسر هذا الحاجز وتعبيد الطريق أمام توظيف لغة الإشارة في السينما وباقي الفنون، وكأن المخرجة أو الجهة المنتجة للفيلم استجابت لنداء الجمعية العامة لهيئة الأمم المتحدة التي حثّت في بيان لها على "ضرورة الاستفادة المبكرة من لغة الإشارة والخدمات المقدمة بها، بما في ذلك التعليم الجيد بلغة الإشارة، الذي يعد أمرًا حيويًا لنمو أبناء فئة الصم ونمائهم ومطلبًا بالغ الأهمية لتحقيق الأهداف الإنمائية المتفق عليها دوليًا، وبما يضمن العمل مع فئة الصم من باب الأخذ بمبدأ (لا غنى عن رأينا في أي شأن يخصنا)"، كما صرح أمينها العام عام 2020 بقوله "إن استراتيجية الأمم المتحدة لإدماج منظور الإعاقة التي دُشنت في العام الماضي تهدف إلى تعزيز جهودنا من أجل ضمان المشاركة المجدية للأشخاص ذوي الإعاقة وإدماجهم الكامل في كل ما نقوم به من أنشطة، بما في ذلك في أوقات الأزمات. فهذا هو السبيل الوحيد إلى الوفاء بالعهد الذي يتبوأ موقعَ الصدارة من خطة عام 2030، ألا وهو عدم ترك أحد خلف الركب".

كاتبة الفيلم ومخرجته سيان هيدر (getty, 30//7/2021)

البحث عن أبجدية اللغة في السينما

كثيرة هي الأفلام التي حٌقّقت انطلاقًا من توليد لغة سينمائية خاصة بها، تحولت فيها الصورة أو بعض موجوداتها إلى أبجدية تواصل غير منطوقة، توصل المعنى لكل فئات المجتمع، من بينها فئة الصم، مثل الأفلام الصامتة التي كانت تحتاج إلى مفسرين يشرحون ما فيها في قاعات السينما خلال عروض الأفلام، وقد كانت مهنة تفسير وشرح الأفلام شائعة في تلك الحقبة، وربما الصم وحدهم لم يكونوا بحاجة لهم، انطلاقًا من خصوصيتهم وذكائهم في فهم لغة الإشارة، هذه اللغة التي نادى بها المخرج والمنظر بيير باولو بازوليني في نظريته الشهيرة حول "سينما الشعر"، ودعا من خلالها إلى خلق لغة قواعدية عن طريق الصورة، أي تأسيس أبجدية سيميولوجية تنطلق من الصور المنوعة، مثل لغة إشارات المرور التي تحولت إلى لغة منتشرة يفهمها كل العالم، لهذا تتكئ فئة الصم على متن كلاسيكي تجسده السينما الصامتة، وتيار فئوي تمثله السينما المثقفة التي تنطلق من خلق اللغة والفهم عن طريق الصورة، وفئة ثالثة وهي نادرة وقليلة جدًا، تنطلق من التوظيف المباشر للغة الإشارة الخاصة بفئة الصم والبكم، وفيلم "كودا" يدخل في باب اهتمام هذه الفئة التي استقبلت أو ستستقبل هذا العمل الذي عرض أول مرة في مهرجان "سندانس" السينمائي الذي جرت فعالياته من 28 يناير/ كانون الثاني إلى 03 فبراير/ شباط 2021، نال وقتها العديد من الجوائز المهمة، إضافة إلى الإشادة الواسعة من النقاد والجمهور.

شكّل فيلم "كودا" تجربة سينمائية فريدة في طريقة معالجته وتعاطيه مع الموضوع الذي تناوله، خاصة وأنه قدّم أدوات فهم مهمة بعد أن استعمل لغة الإشارة الخاصة بالصم والبكم ووظفها استجابة لقصة الفيلم ودور أبطاله، ولقد جاءت القصة متينة ومتماسكة ومليئة بالإحساس والأمل والحزن والخوف من المستقبل الذي لا يقدم أملًا ملموسًا يحاكي ما يحلم به الصم، وسلطت الضوء بشكل استثنائي على المشاكل والمعوقات التي تواجه أفراد هذه الفئة في الأسرة والمجتمع والعالم الذي يعيشون فيه، يأملون حسب منطقهم أن يتم التعامل معهم مثل غيرهم ويحترمون إنسانيتهم، أن ينظر لهم على أنهم بشر عاديون، فقط حرموا من حاسة ما، وعليهم البحث عن سبل لتعويضها بدل النط حولها والنظر لهم بانتقاص، وأكثر من هذا يتعاملون معهم بدونية، لا على أساس الندية والتساوي، بل كعبء عليهم وعلى الحكومات التي لم تقدم لهم الآليات الضرورية للاندماج بشكل كلي في المجتمع، وكأنها محاولة مفتعلة من الكل لتهميش هذه الفئة وجعلها غير مرئية تمامًا.

لقطة من الفيلم


حارب "كودا" هذه النظرة القاصرة وواجهها فنيًا بعد أن شرّح الألم الداخلي الذي يحسون به، انتزعه منهم ورماه في قلوب المتلقين ليحسّوا به، وهذا عن طريق قصة المراهقة روبي روسي (إميليا جونز) التي تحب الغناء وتجيده وتعيش عالم الموسيقى، لكن ظروف الحياة المرهقة والتزامات العائلة جعلتها تتراجع في الكثير من الأحيان عن هذا الحلم، بسبب أنها تنتمي لعائلة من الصم هي الحلقة التي تربطهم بالعالم الخارجي، وهم الأب فرانك (تروي كوتسور) والأم جاكي (ماري ماتلن) والأخ ليو (دانيال دورنت)، تعمل مع والدها وأخيها في مهنة الصيد المتعبة، حيث تستيقظ كل يوم في الثالثة صباحا، ثم تنتقل بعدها للدراسة حين تنتهي من عملها وبيع ما تم الحصول عليه، وفي قلب هذه الالتزامات تقرر أن تشارك في الفرقة الموسيقية عند الأستاذ بيرناردو (يوجينيو ديربيز) الذي وجد فيها مشروع مغنية لصوتها المميز عن الكل، لهذا قرر أن يخصص لها وقتًا إضافيًا في بيته ليدربها حتى تستطيع الدخول إلى معهد الموسيقى، لكن هذا الوقت الإضافي لم يكن متوفرًا لروبي التي تأتي دائمًا متأخرة، خاصة وأن عائلتها ترفض هذا لأنها مترجمتهم الوحيدة ومعينتهم على الكثير من معطيات الحياة، لا يريدون أن تبتعد عنهم لأنهم لا يعرفون الموسيقى وقوتها ولا يحسون بها، وفي ظل هذه المعطيات المحفوفة بالإثارة يتم عرض العديد من المشاكل التي تواجه فئة الصم، خاصة عندما كان الأب وابنه  في عرض البحر، أين اقترب منهما خفر السواحل ونبههما عن طريق الصوت والمنبهات، لكن لا أحد منهما استمع، لهذا سحبوا منهما الرخصة وعاقبوهما بغرامة مالية مرتفعة، كما أظهر الفيلم نظرة المجتمع وتنمره على هذه الفئة، خاصة روبي التي انطوت على نفسها ولا تريد الانخراط أكثر، لهذا صنعت عزلتها الخاصة في قلب الطبيعة، تذهب لها كلما أحست بالضيق والتهميش والخوف والمحاصرة، وكذلك كانت تفعل أمها التي لم تندمج مع أترابها من النسوة، حيث ذكرت بأنهن يرفضنها ويتعالين عليها لأنهن لا يستطعن التواصل معها بشكل عادي.

ما بعد الفيلم وقبله

استطاعت المخرجة سيان هيدر أن تنسج قصة غاية في الحبكة والجمال، زرعت فيها شحنة متقدمة من الأحاسيس والعواطف النشطة التي جعلت كل من يقف على تفاصيله يتفاعل ويتوحد مع شخصياته إلى درجة كبيرة، ويعود كل هذا إلى طريقة المعالجة وفريق الممثلين الذين عاشوا القصة وتجاوبوا معها، وصلوا من خلالها إلى الأداء المثالي الذي أذاب المساحة بين التمثيل الواقع، اندمجوا في تلك التفاصيل وأحسوا بها، تعاملوا مع كل جزء بمسؤولية فنية وأخلاقية، خاصة الممثلة البريطانية إميليا جونز (19 عامًا)، التي قدّمت جهدًا كبيرًا، خاصة وأن دورها مركب يستند بالأساس إلى المزاج والانفعالات النفسية، أين جسدت دور المراهقة المعقدة والمنطوية على نفسها، التي تملك عقدًا أخلاقيًا مع أسرتها ولا تريد أن تتخلى عنهم، وفي نفس الوقت تريد أن تبحث عن مساحة لها ولنفسها حتى تعانق أحلامها وطموحها بعيدًا عن عائلتها، تريد أن تحب وتغني وتحلق عاليًا، لكنها تصطدم في الكثير من المرات بصخر الواقع الصلد. وقد أثار هذا الدور فضولي لدرجة أنني بحثت عن كيفية تعاملها مع الفيلم، خاصة وأنها رغم عمرها الصغير لديها تجربة سينمائية محترمة، وفي نفس الوقت تملك طموحًا فنيًا كبيرًا، لهذا وجدت بأنها خصصت حوالي تسعة أشهر من وقتها لتعلم لغة الإشارة، كما أنها تلقت دروسًا مكثفة في الغناء وعوالم الموسيقى، وأكثر من هذا تمرنت وتعلمت الصيد على المراكب، لهذا استطاعت أن تتوحد بشكل واسع مع الدور. أما مارلي ماتلن التي أدت دور الأم الأنانية التي لا تفكر سوى في مصلحتها، فلا تريد أن تتخلى عن ابنتها لأنها بحاجة لمن يترجم لها، وقد عكست هذا الدور بتلك الاحترافية لأنها بالأساس ممثلة من فئة الصم، لديها تجارب مختلفة، وقد سبق أن نالت أوسكار أفضل ممثلة عن فيلم "أبناء الصمت" 1985 للمخرجة راندا هاينيس، إضافة إلى حصولها على جائزة الجولدن غلوب، وهذا ما ينطبق على كل الممثلين تقريبًا الذين عكسوا أدوارهم بمسؤولية كبيرة، ويعود كل هذا إلى حسن إدارة الممثلين من قبل المخرجة.

لقطة من الفيلم


يحسّ المتلقي وهو يشاهد فيلم "كودا" بأنه أمام عمل ناضج وواع ويملك مرجعية ليكون من الأفلام المهمة التي سيكون لها شأن عظيم في جوائز الأوسكار، خاصة وأنه يملك العديد من المعطيات المهمة التي تؤهله لهذا، وأهمها القصة الناضجة والمهمة التي تطرقت لها، وتحمل وعيًا إنسانيًا ومسؤولية جماعية، لأن هذه الفئة بحاجة ماسة لهذا الدعم للدفع بها إلى الأمام، وهي من "الثيمات" التي يحبها أعضاء أكاديمية فنون وعلوم الصورة، إضافة إلى العديد من المهرجانات الأخرى، كما أن القصة متماسكة واعتنت بكل الجزئيات، سارت بشكل مستقيم ولم تنقص من سرعتها وقوتها في كل فصول الفيلم، بررت أفعال الأبطال والأحداث دراميا، خاطبت العقل والقلب معًا، ولذا كان تأثير الفيلم مضاعفًا، فتح بابًا على حياة فئة من البشر يعيشون بيننا لكن لا نعرف شيئًا عنهم وعن عالمهم.