Print
عبد الكريم قادري

"البحر الأخضر".. حين تواجه الكاتبة شخصيات روايتها في الواقع

9 أغسطس 2021
سينما
ارتبطت السينما منذ نشأتها إلى اليوم، وبشكل وثيق، بالفنون والآداب الأخرى، بل ذوّبتها وأعادت تشكيلها في متونها بقوالب عدة، لتعيد تقديمها للمتلقّي في ثوب جديد غير الذي ألفه أو وقف عليه، ومن أكثر هذه العلاقات قربًا وانسجامًا، وفي أحيان كثيرة يُعد تكاملًا فنيًا، علاقة السينما بالأدب، أو علاقة السينما بالرواية تحديدًا، إذ استطاعت السينما أن ترتبط مهنيًا بالرواية منذ بداية عهد السينما غير التسجيلية، ولم أشأ أن أقول في هذا السياق مصطلح (السينما الروائية)، لأن هنالك فئة واسعة غير مختصة تربط هذا المفهوم بالأفلام التي تعتمد على الرواية، لكن الأصح ـ الكلام موجّه لهذه الفئة ـ بأن كل فيلم غير تسجيلي يطلق عليه فيلم روائي، أو خيالي.
تجلّت علاقة الفيلم بالرواية في العديد من المظاهر، من بينها مثلًا أن يقتبس السيناريست، أو المخرج، نصًا روائيًا ويحوله إلى فيلم سينمائي، سواء بشكل جزئي، أو كلي، أو انطلاقًا من زاوية منه، يحافظ فيها على الأحداث، أو يغيّر مسارها، يحتفظ بأسماء الشخصيات، أو يستبدلها، المهم أن المنطلق الأساسي للفيلم هو من الرواية، وهذه التفاصيل، أو الجزئيات، كانت دائمًا محل خلاف كبير بين المخرج والكاتب، كل جهة تدافع عن نفسها، وعن أحقيتها في الحفاظ، أو تغيير ما يناسب توجه الفيلم ورؤى المخرج. في المقابل، يرى الكاتب أنه ليس من حق المخرج أن يعبث بأحداث الرواية، أو توجهها، وبالتالي يقضي على القصة، ورؤى الروائي، لتنتهي هذه الشراكات إلى طريق مسدود، ليجهض المشروع. وفي كثير من الأحيان، يتم التنازل بين الطرفين، وتحدث مصالحة فنية. كما أن هناك فئة من الروائيين تتعامل مع الأمر بشكل احترافي، إذ ترى أن من حق المخرج أن يحذف، أو يضيف، ما يراه مناسبًا في فيلمه، لأن الفيلم سيحمل في الأخير توجه المخرج، وكل تقصير أو فشل سيتحمله هو وحده. وعطفًا على كل هذا، هناك فئة من كتاب الرواية امتنعوا عن تحويل بعض أعمالهم الى أفلام، مثل الروائي غابرييل غارسيا ماركيز، الذي فشلت معه كثير من الصفقات لتحويل روايته الأشهر "مئة عام من العزلة" إلى فيلم سينمائي، بسبب صعوبة الرواية، وتداخل أحداثها وشخصياتها، أو لعوائق إنتاجية أخرى، حتى أن الممثل الكبير أنتوني كوين قدّم لماركيز عرضًا بقيمة مليون دولار لتحويل الرواية إلى فيلم، لكن الأخير رفض، وقال "لا أريد أن أجد الكولونيل أورليانو يتحول إلى صورة أنتوني كوين على أغلفة الرواية". هنالك من يقول بأن هذا الأمر تزمت من ماركيز، لكن يجب الإشارة إلى أن ماركيز سيناريست، ولديه علاقة قوية مع السينما، حتى أنه أصدر كتابًا تحت عنوان "كيف تحكي الحكاية"، انطلاقًا من ورشة كتابة السيناريو التي كان يقدمها. كما تم نقل العديد من رواياته إلى السينما، مثل "وقائع موت معلن" 1987، التي أخرجها الإيطالي، فرانسيسكو روزي، و"ليس لدى لكولونيل من يكاتبه" 1999، التي أخرجها المكسيكي، أرتورو ريبستين، ورواية "الحب في زمن الكوليرا" 2007، التي تحولت إلى ملحمة سينمائية من إخراج مايك نيويل.
إضافة إلى ماركيز، رفض ألبير كامو هو الآخر العديد من العروض السينمائية لتحويل روايته "الغريب" 1942 الى فيلم سينمائي، لكن بعد وفاته تم تحويلها إلى فيلم عن طريق المخرج الإيطالي، لوتشينو فيسكونتي، 1967.




هناك العديد من الكتاب ممن رفضوا تحويل أعمالهم إلى أفلام، بحجة أن الكتابة مادة تعتمد على خيال القارئ لصناعة الأحداث، وبالتالي تكثر التأويلات، وتصنع جمالياتها من هذا المعطى المهم، لكن الفيلم هو صورة مباشرة للأحداث التي يقف عليها المشاهد في شكلها النهائي، وبالتالي يعطل عملية التأويل، ويقتل العمل الروائي في شقه التفسيري المتعدد، من هنا يقضي على الجمالية، وانطلاقًا من هذا يرفض بعض الروائيين أن تتحول أعمالهم إلى السينما، فحسب منطقهم، ستتغير وتفقد روحها ومنطلقها الأدبي.



الكاتب كبطل في السينما

لقطة من الفيام الإيرلندي "البحر الأخضر" 


تجاوزت العلاقة بين السينما والرواية الاقتباس والنقل، ووصلت حد أن يكون الروائي بطلا تتلاعب به أحداث الفيلم، ترسم أحلامه وكوابيسه واتجاهاته وفلسفته في الحياة، إضافة إلى تعامله مع مبدأ السرد ورسم القصة ونحت الشخصيات فيها. والفيلم الإيرلندي "البحر الأخضر" (the green sea) (2021 ـ 144 دقيقة) ينحو هذا النحو، أي ألبس المخرج وكاتب السيناريو، راندال بلونكيت، بطلة عمله "سيمون" (كاثرين إيزابيل) ثوب الروائية، وانطلق من خلالها في رسم الأحداث الدرامية والمثيرة حول هوس هذه الكاتبة، من خلال تداخل أحلامها وكوابيسها، لدرجة لم تعد تفرق فيها بين الواقع والخيال، أو بين منطلق القص عندها، وبين منطلق أحداث الماضي التي وقعت لها.




وكل هذه المنعرجات تذوب في محيطها الرمادي والغامض، وكأن المخرج يحاول أن يرسم ملامح وأبعادًا معيّنة للروائي من خلال تعامله مع الكتابة. هذا المبدأ، وإن كان مبالغًا فيه في كثير من المنعرجات، غير أنه لامس روح الكاتبة، بواسطة القلق الكبير الذي يحيط بها مع انطلاقها في كتابة عمل روائي جديد، ضغط الشخصيات التي ترسمها وتتأثر بها، لدرجة أن المخرج صنع شخصية حقيقية، وهي بطلة رواية الكاتبة، وجعلها في مواجهة مباشرة معها، رسم حدثًا معينًا انعكس في الحادث الذي ارتكبته سيمون التي كانت تقود سيارتها وهي في حالة متقدمة من السكر، حين صدمت فتاة لا تعرف عنها شيئًا، وأخذتها إلى البيت وعالجتها وتركتها تبيت عندها، لكنها لا تعرف إن كانت تلك الفتاة ستكون موضوعًا رئيسيًا لروايتها، حتى أن المخرج لم يقدم لنا التفسير المنطقي والواقعي لها، فجعلها حاضرة معها، لا تحمل اسمًا، ولا هوية، ولا مكان سكن، ولا أقارب، فقط قالت بأنها ستبحث لنفسها عن اسم، وقد استعمل المخرج وكاتب السيناريو ذكاءه في هذا الأمر حتى يترك أبواب التأويل مشرعة، مع أنه ألمح في كثير من المرات بأنها بطلة رواية سيمون المطاردة من قبل الأشرار، تركها في مواجهة مباشرة من الفتاة التي خلقتها ورسمت ملامحها، هذه المواجهة لم تكن قط ودية في بداية الأمر، لأن سيمون الروائية كانت شرسة وفظة معها، غير اجتماعية وتتعامل معها من مبدأ الخوف من العقاب جراء الحادث الذي ارتكبته في حقها، وهي في حالة سكر، لكن الأخيرة كانت فتاة لطيفة، حين أزالت القذارة التي كانت متراكمة في مطبخها، ونظّفت أكوام الأواني القذرة، وهذا ما أثار حفيظة سيمون التي ثارت عليها بالقول بأنها راضية بقذارتها، وهو الأمر الذي اظهر شراسة الروائية وتعاملها مع الموقف المستحدث، كما أظهر حجم الضغط الذي تمر به الروائية جراء دخولها في عمل روائي جديد.



مراجع شخصية الروائية القاسية

من فيلم "البحر الأخضر / The green sea"


رسم المخرج وكاتب السيناريو، راندال بلونكيت، مرجعية قاسية ومحزنة لسيمون، التي كانت موسيقية في عهد ما من حياتها، قبل أن تختار طريق الكتابة، لكن أكثر الصور الماضية قسوة هي الجراح العميقة التي مرت فيها، الجراح التي حوّلتها إلى امرأة عدوانية لدرجة كبيرة. يعود هذا إلى الشجار الذي وقع بينها وبين زوجها في المطبخ في فترة ما من الماضي، حيث سقط على الأرض، وخرجت الدماء من خلف رأسه. دخلت ابنتهما المراهقة فوجدت أباها على ذلك الشكل، فاعتقدت بأن أمها سيمون هي من قتلت والدها، ولهذا خرجت إلى الشارع ورمت بنفسها أمام سيارة، فصدمتها وماتت على الفور. لحقتها والدتها ووالدها ووقفا على هذا المنظر القاسي، وهو المشهد الذي انطبع في ذاكرة سيمون وحوّلها إلى شخص غير اجتماعي، يراها المجتمع بأنها امرأة غير عادية، تعبد الشيطان ولا تأبه لشيء، خاصة وأنها استباحت جسدها في فترة ما، بعد أن فقدت روحها ومنطلق الحياة، وقد فسر المخرج هذه المشاهد من خلال بعض المقاطع التي كانت عبارة عن هلاوس تراودها، تربطها أحيانًا بالواقع الذي تعيش فيه عن طريق تلك الفتاة. ومن أجل خلق مشاهد أكثر ترابطًا وتفسيرًا لمزاجها المتغير، نقل عن طريق التلفزيون المنزلي طريقة عيش السلاحف البحرية، إذ يبث كل مرة مقطعًا يعكس حياتها، ويفسر غريزتها، إذ أن هذه السلاحف لا تخرج من البحر سوى عندما تضع بيوضها على الشاطئ، حيث تتركها وتعود من حيث أتت، وعندما تفقس تلك البيوض تخرج السلاحف الصغيرة وتتجه إلى البحر مباشرة، تتبع دورة الحياة وغريزتها. لقد فهمت سيمون هذا المنطلق، حتى أن الطفلة التي كانت معها عكست ولادة وانطلاق السلحفاة، حيث وجدت بأن هناك مجموعة من الأطفال ينتظرونها على الشاطئ، فذهبت إليهم، وانطلقت معهم في اتجاه البحر، وهو معادل موضوعي بين حياة البشر وحياة السلاحف. من هنا تجاوزت سيمون جرحها، وانطلقت في مشروع كتابة الرواية، بعد أن توقفت عن ذلك، رغم ضغط الناشر، وضغط البنك، الذي لم تؤد فيه أقساطها، وقد ساهمت هذه الضغوط، وتجلي بعض الحقائق في الدفع بمشروع الرواية إلى الأمام، بعد انقطاع دام حوالي خمس سنوات عن الكتابة.



أسئلة الكاتب والكتابة والجمهور

من فيلم "البحر الأخضر / The green sea"


حُمّل فيلم "البحر الأخضر" بكثير من الأسئلة حول جدوى الكتابة وطقوسها والهالات التي تحيط بالكاتب عند ممارستها، خاصة في الشق النفسي والمزاجي عند الكاتب. وفي حالة سيمون، بطلة الفيلم، فإن الأمر يتعلق بالماضي المشبع بصدمة كبرى، عاشتها وحاصرتها بهالة الفقد، ما جعلها تنطلق في الكتابة حتى تدون جراحها، أي أن منطلقها هو الهروب من واقعها البشع إلى مساحة غير واقعية، تعيد من خلالها إنتاج آلامها العظام وجلد ذاتها. ومن هنا يفهم المتلقي بأن الكتابة، أو الإبداع، هو احتراق وذوبان وتماهٍ مع الألم، كل صفحة يكتبها الروائي تحرق جزءًا من ماضيه وتحييه، أو تلتهم جرحًا من تلك الجراح، وهناك من يكتب حتى يحافظ على تلك الجراح كحال سيمون، لا تريدها أن تنتهي وتبتعد عنها، تدونها وتحيط حياتها بتلك الشخصيات التي تأخذ من واقعها مظاهر حقيقية وسلوكات بشرية قريبة منها ومن عالمها، ووسط كل هذا سيحتفظ الجمهور بمجموعة من المعطيات حول هذا السلوك الذي يحيط بالكاتب، وربما سيعتقد بأن كل الكتاب، مثل سيمون، عدوانيون وغاضبون وحزاني حيارى، يكتبون حتى لا يتجاوزون جراحهم، لكن أسئلة الكتابة مختلفة كليًا، أي أن كل كاتب ينطلق من عالمه الخاص، من المحطات التي مر عليها، من الموهبة التي يمتلكها، من الممارسة التي عوّد قلمه حولها، بمعنى أن الطقوس تختلف من كاتب لآخر.




لم يغفل راندال بلونكيت الجوانب الجمالية التي صنعت فيلمه السينمائي، منها الاشتغال الجيد على الصور واللغة السينمائية، فقد نقل العديد من المشاهد التي عكست المناظر الطبيعية الساحرة، منها الأشجار وانسجامها وتناسقها (تحبها بطلة الفيلم سيمون)، وهي المعطى الذي يوحي بالسكينة والبحث عن الهدوء، امتداد الشاطئ الذي عكس معاني سيميولوجية كثيفة ودقيقة في الفيلم، المساحات المعشوشبة والمتداخلة التي تتراقص من خلال رياح الشتاء، أي نقل جزءًا كبيرًا من جماليات الريف، أو العزلة الإيرلندية الجميلة، وهي المعطيات الجمالية التي تتشابك مع جمالية الأحداث، ودقة البناء والسرد الذي نسجه راندال حتى يخرج عمله بهذا الشكل.