Print
أشرف الحساني

برهان علويّة.. سينما الألم والتمزّق الاجتماعي

12 سبتمبر 2021
سينما

برحيل المُخرج اللبناني برهان علويّة (1941 ـ 2021) في منفاه البلجيكي، تكون الساحة السينمائية العربيّة فقدت قامة في صناعة سينمائية جعلت من الإنسان العربي مركزًا في تحوّلات سياسيّة واجتماعية وثقافيّة شهدتها الساحة العربيّة منذ ستينيات القرن المنصرم. ورغم صغر فيلموغرافيا برهان علويّة الوثائقيّة والروائيّة من حيث الكمّ، بالنظر إلى بعض الأسماء العربيّة، إلاّ أنّ الرجل لم يكُن من الذين ينجزون أفلامًا للتّباهي بها داخل مهرجانات عالمية، أو حتّى الركوب واستغلال موجات القهر والعذاب التي تطال الفرد العربي في علاقته بالسياسة والآخر الأجنبي، بل إنّ أفلامه ظلّت بمثابة مُختبر بصريّ لبلورة أفكار ورؤى وأحلام وتطلّعات وهزائم وانتصارات وإعادة تدويرها وتوليفها في فضاء سينمائيّ، بما يجعلها مُؤثّرة وذات حساسية بالنسبة للأنظمة داخل العالم العربي. لا شك في أنّ القليل من المخرجين العرب يتوفّرون على هذه القدرة في جعل الفيلم ينضح بأسئلة مُؤرقّة حول مصير مُجتمع في مرحلة زمنيّة مُعيّنة، لأنّ الفيلم وبسبب سيرته اللامرئية، يظلّ أكثر وسيلة إبداعية/ فنيّة، لا تقف عند حدود وسياجات ترسمها المجتمعات العربيّة وعاداتها وتقاليدها وتاريخها وذاكرتها ودينها وسياستها، إنّها تتنطّع دومًا إلى البحث عن الهَجين والمُدهش في اجتماعنا العربي، عبر طرح أسئلة شائكة تتعلّق بالمكان والوجود والجسد والهويّة والأرض. كل هذا ساهم في جعل سينما علويّة تفتح طريقًا لكثير من الأفلام داخل سوريّة والمغرب ومصر والجزائر، ورغم أنّ كثيرًا من المُخرجين لا يعترفون بدرس علويّة في السينما العربيّة، إلاّ أنّه بقي واضح المعالم البصريّة والرؤى الفنيّة والمُنطلقات الجماليّة، خاصّة داخل المُنجز الوثائقيّ العربي، حيث كان سبّاقًا للتجريب البصريّ القائم على مزج الصورة بالصوت، والصورة الفوتوغرافية بالسينمائية، والتاريخ بالذاكرة والوثيقة. ولم تكُن هذه الاكتشافات المُذهلة مُجرّد بذخ جماليّ لدى علويّة، وإنّما جاءت كتجريب سينمائيّ لبناني جديد يبحث له عن خصوصيات بصريّة داخل السينما العربيّة إبان السبعينيات. استطاعت سينما علويّة أنْ تُوجّه أفلامًا عديدة إلى ضرورة الانفتاح على الجسد الإنساني لحظة التشظّي الذي يطبع حياته داخل الحرب.




بهذه الطريقة يُعيد علويّة إحياء الإنسان داخل السينما العربيّة بعد الخطاب البصريّ الغنائي الخشبي، الذي رافقها في رومانسية مُصطنعة وساذجة خلال الخمسينيات، حيث شكّلت السينما مادّة ترفيهية وملاذًا آمنًا يرنو إليه المُشاهد. صحيح أنّ هذه المنطقة شكّلت بداية حقيقية للسينما العربيّة المُنفتحة على نماذج وأشكال وتصوّرات وأساليب ومدراس، لكنها تبقَى البداية الحقيقية للسينما، لحظة رهانها على الإنسان العربي وجسده وأفكاره وتطلّعاته وأحلامه إبان السبعينيات، حيث ستُوقع هذه السينما بيانًا قويًّا في لبنان عُرف بـ"السينما البديلة"، التي كان علويّة أحد رموزها وروّادها الذين سيفتحون قارة مجهولة داخل سينما نازلة من سماء الأحلام والرومانسية واليوتوبيا، التي بلورتها السينما المصرية، صوب جحيم العَالم الأرضي وعذاباته وما يعيشه الناس داخله من شقاء وألم ومعاناة وتنكيل وتهجير وإبادة وإجرام. لقد بدت هذه السينما وهي تنحت أوّل مفاهيمها الفيلموغرافية في علاقتها بالواقع العيني المُباشر وكأنّها تُغيّر بشكل كلّي مفهوم السينما، باعتبارها وسيطا بصريًّا ترفيهيًا إلى كونها مُختبرًا للتحليل والتفكير والتوعية والأسئلة والتخييل والالتحام مع الواقع. لكن هذا الانتقال في البداية ظلّ حقيقة مُلتصقًا أكثر بمفهوم "الصورة" التي غدت اجتماعية وسياسيّة، يرصد عبرها علويّة سيرة قصص وحكايات في علاقتها بالجسد والسياسة والفضاء ومعنى الانتماء إلى الجغرافيا العربيّة خلال مرحلة تُهدي سياسيًا واجتماعيًا.



إبداع بصريّ و"سينما بديلة"

المخرج برهان علوية وراء الكاميرا


لكن داخل السينما اللبنانية يعثر المُشاهد والمُتتبّع لأطوار نشوء هذ النموذج السينمائي على صورة أكبر وأعمق لبرهان علويّة، لأنّها غير بعيدة عن أصلها وعائلتها وسياقها التاريخيّ الذي ساهم في إبرازها وبلورتها. هنا نجد علويّة مُلتحمًا بعائلته السينمائية، مثل هيني سرور، وجان شمعون، ومارون بغدادي، ورندة الشهّال، وجوسلين صعب، حيث للصورة السينمائية مناخات شاسعة من الحكي والرصد والتحليل والتخييل والتوثيق للواقع اللبناني، بكل حمولاته وأعطابه وزلاّته وأحلامه ومآسيه على حافّة حرب أهليّة لبنانية (1975 ـ 1990) لم يندمل جُرحها إلى حدود اليوم. ورغم المَشاغل نفسها التي شكّلت مُنطلق هذه التجربة السينمائية البديلة، إلاّ أنّ الأعمال ظلّت تختلف فنيًّا وجماليًا من فيلم إلى آخر، تارة عن طريق واقعية سحرية، أو شعرية، وتارة أخرى عن طريق صورة واقعية ضاربة في جذور الاجتماع السياسي اللبناني، ولكنّها تلتقي جميعها في خاصيّة الابداع البصريّ القائم على انزلاق الواقع المُزري وتاريخه داخل الصورة. عند علويّة يظل الفعل السينمائيّ أكثر تفكيرًا، ليس فقط في التجريب والتوليف والتوثيق والتخييل، وإنّما في أسئلته المُعلّقة، وما تنحته من أبعاد فكريّة في وجدان المُشاهد. إنّها تستبدل مفاهيم التذوّق والحدس والمُتعة والتلقّي والتخييل، بأخرى تتّصل بالتفكير والخرق والتصوّر والخلق. وهي مفاهيم فكريّة مأخوذة من حقول اجتماعية وإنسانية، يتم توظيفها في حقل الصورة السينمائية، بحكم نجاعتها وقدرتها على تقديم متن بصريّ مُغاير ومُخلخل وأكثر حدّة في تشابكه مع السياسة داخل الاجتماع اللبناني، حيث الصّورة اجتماعية وسياسية أكثر منها فنيّة وجمالية، وتبني خطابها بجعل الصورة وثيقة تاريخيّة عن وطن جريح على أهبة الرحيل.




وكما صاغ روّاد الشعر العربي الحديث بيانًا قويًّا يثور على التقاليد الشعريّة الكلاسيكية، عمل أصدقاء السينما اللبنانية على صياغة بيان سينمائيّ رمزيّ لسينما بديلة/ مُستقلّة قادرة على فهم تطلّعات الفرد اللبناني ومعاناته تجاه واقعه وبلده. الرغبة في تجاوز القديم، عاملٌ مُؤسّس في تشريح "البديل/ المُستقّل" لأنّه يُضمر في طيّاته ثورة داخلية على كل الأشكال السينمائية السابقة، لا كمفهوم الثورة على الأب، وإنّما بسبب تحوّلات الواقع الذي يجعل من النصّ السينمائيّ لا يُراعي خصوصيات هذا الواقع وميكانيزماته سريعة التحوّل والتبدّل، أمام واقع حرب أهليّة تفرض استبدال قديم بجديد. رغم أنّ الأوّل مُلتصق بعادات وأفكار ومسام عيش الثاني، لكنّه في لحظة الصراع والمُقاومة تحلّ مفاهيم البرغماتية/المنفعة وتسقط القيم الأخلاقية والدينية والإثنية والقبلية. إنّ مفهوم البديل في سينما برهان علويّة أعمق ممّا نعتقد، ويُمكن تناوله دلالاته بالفحص والنقد وفق ثلاثة مستويات تتعلّق بالواقع والتاريخ والصورة. بما أنّ الواقع مُعطى فيزيقي مُجرّد لا يُمكن القبض عليه، أو إعداده وصياغته، إذْ تتدخّل في عملية تشكيله دوافع سياسية واجتماعية، فإنّ علويّة يقوم باستبداله بواقع آخر "بديل" أكثر التحامًا بهذه الدوافع، فهو لا ينأى عنها سينمائيًا، بقدر ما يقبض على مُتخيّلها اليوميّ داخل سلط ومؤسّسات وتاريخ وأفكار وتصوّرات ومشاغل. إنّه بطريقة ما يهدم الواقع المُجرّد الخالي الذي لا يُعوّل عليه. وذلك بجعل الكاميرا تدخل بيوت الناس وترصد قلقها من السياسة والاجتماع. وهو ما يُمكن تسميته بـ"الواقع البديل" الرافض للوضع الأوّل والسُلطة القائمة لصالح آخر جديد، رغم أنّه يظلّ مُتخيّلًا فقط، لأنّه في الحقيقة لا وجود لواقع/ مجتمع مُكتمل يعيش في حريّة وأمان. وحتّى داخل المجتمعات الغربية دائمًا ما نعثر على واقع مترد ومُرتبك ومُتأزّم بفعل عوامل داخلية أو خارجية.
فطنة برهان علويّة بأنّ الواقع اللبناني يحتاج إلى ثورة داخلية جعله يستبدل الواقع الحقيقيّ بعدّة "وقائع" سينمائية. لأنّ المُتخيّل هنا يغدو واقعًا، أو وطنًا يحتمي به الإنسان من أعاصير الحياة اليوميّة ومطبّاتها. أما في الصورة فإنّنا نعثر على تأكيد قويّ لهذا البديل المُستقّل على مستوى النسق والموضوع والشكل والأسلوب والكاميرا والإنتاج. إنّه يُحوّل الظاهرة السينمائية إلى بُعد سياسيّ، حيث الموضوع ثائرًا، والشكّل مُكسّرًا، والأسلوب إبداعيًا دفاعيًا، والإنتاج رافضًا لكل دعم رسميّ. في هذه الخصائص والمُكوّنات الجامعة يبرز وعي علويّة بمفهوم سينما جديدة بديلة تأخذ على عاتقها إمكانية الاستقلال عن السُلطة والعشيرة والوزارة، حتّى تُبدع وتكتب وتُصوّر ما لا ترغب فيه السُلطة أنْ يكون في حيّزها الجغرافي (الوطن). على هذا الأساس، جاءت سينما علويّة ثائرة في مضامينها وقوالبها، ومُخلخلة للأفكار القديمة، ومُكسّرة لأفق وتطلّعات المُشاهد، فـ"البطل" في سينماه هو إنسان لبناني، أو فلسطينيّ عادي، لا تحده الحدود والمرافئ لتحقيق حلمه، أو مقاومته، أو دفاعه عن قضية، سياسية كانت أم اجتماعية، ما يُعطي لسينما علويّة بُعدًا حقيقيًا في نسج علاقة مع الذات والواقع والذاكرة والتاريخ. إذْ تنتقل الكاميرا ببطء من الواقع وسيكولوجية الشخصيات إلى نظرة عامّة تُدين التاريخ وجُرحه. لأنّه إطار جامع للتفكير السينمائيّ لدى علويّة، بل إنّه يُوجّه أفق الكاميرا ويجعلها تخترق بنية مكبوت الاجتماع اللبناني وتُعرّيه وتجهر بحقائقه وخفاياه. كما أنّه يستبدل صورة التاريخ الرومانسية النوسطالجية التي نعثر عليها داخل السينما المَغاربيّة (المغربيّة والتونسية على الخصوص) بأخرى مُستفزّة ومحمومة بنوع من الإسقاط والزئبقيّة تجاه الحاضر.



مؤرّخ الصورة

من فيلم "بيروت اللقاء" للمخرج الراحل برهان علوية 


نظرًا لهذا التعلّق الأنطولوجي للتاريخ في سينما برهان علويّة، فإنّ العديد من النقّاد انتبهوا إلى كونه مُؤرّخًا للصورة، بحيث إنّ أنماط صوره تبدو كأنّها وعاء سينمائيّ استوعب تحوّلات التاريخ، ومقالب الذاكرة. لكنّه لا يتعامل مع التاريخ كباقي المُؤرّخين، فهو يرصد الهَامشي والعَابر والمَنفيّ والمُنفلت من قبضة التفكير. فإذا كان المُؤرّخ يتعامل مع مادّة الواقع بشكل رسمي من خلال إعطاء الأهميّة للوثائق الماديّة والتأريخ من خلالها لتاريخ سياسيّ مُفتعل، فإنّ علويّة وبارتكازه على هذه الوثائق مكتوبة وبصريّة منها، ينأى عن التاريخ السياسيّ الرسمي بالاعتماد على الواقع العيني المُباشر لسيرة الأمكنة والفضاءات والناس ومشاغلهم البسيطة على درب الألم. ففي فيلمه الروائي "كفر قاسم" (1974) حيث يُوثّق المذبحة الإسرائيلية لعمال قرية كفر قاسم عام 1956 عشية العدوان الثلاثي، وبالرغم من أنّ الحادثة شغلت الرأيّ العالمي في ذلك الإبان، إلاّ أنّها بقيت منسّية داخل المُنجز السينمائي العربي، حتّى عمل برهان علويّة بشجاعة على إدانة هذا الفعل الإجرامي وتوثيق جزئيات صورة ترصد أوجاع القرية الفلسطينيّة من خلال متن سرديّ بصريّ مُكثّف يحتفي نقديًا بالتفاصيل، ويُعيد تطويعها داخل قالب حكائي، حيث الواقع سيّد الصورة، رغم أنّه لم يكتف بنقله، لأنّ طبيعة السيناريو السينمائيّ تجعل الذات المُبدعة تتدخّل في حيثيات الواقع، لا سيما حين يتعلّق الأمر بالقضية الفلسطينيّة، وفي مرحلة هامّة من تاريخ العرب الحديث، فإنّ علويّة يُراكم نقدًا لاذعًا للاحتلال الإسرائيليّ الغاشم حول هذه المذبحة العصيّة على النّسيان داخل التاريخ الحديث.




إنّ الصورة هي ما يُحرّض النصّ، ويجعله يتشعّب ويتجاوز مَلامحه الأولى، لأنّه بقدر ما يتلاحم النصّ والصورة في العمل السينمائي، فإنّهما يفترقان ويتباعدان في لحظة التصوير، ثم المونتاج. في "كفر قاسم" ـ العمل الأذكى والأشهر عند علويّة ـ يمزج الصورة السينمائية والفوتوغرافية بالوثائق المادية، عبر معلومات مُضمرة في السياق البصريّ للصورة. أليس هذا بمثابة ذكاء سينمائي بالنسبة لعام 1974، والحداثة السينمائية بدأت مسارها أدبيًّا، ولم تتبلور بعد سينمائيًا؟ رغم أنّ هواجسها التجريبيّة ستبدأ بالتشكّل آنذاك. قدّم علويّة في فيلمه المُبكّر هذا درسًا سينمائيًا بليغًا، لا ينصاع للخطاب السياسي، وإنّما يعمل على تذويبه داخل صورة تتعاكس مع ما يُحيط بها من تقنيات ووسائط فطن إلى أهميّتها في إضاءة الفيلم السينمائي وجعله وسيطًا بصريًا، يقوم على تكريس التفكير والتجريب، بدل أنْ يغدو مادّة للترفيه.