Print
هاني حوراني

شرقي الأردن مطلع القرن العشرين عبر عدسة خليل رعد

13 سبتمبر 2021
فوتوغراف

لمن لا يعرف من هو خليل رعد (1854 ـ 1957) نقول بأنه أول عربي احترف التصوير الفوتوغرافي في فلسطين، حين كانت مهنة التصوير في فلسطين، مثل كثير من البلدان العربية الأخرى، حكرًا على الأجانب، أو الإثنيات الأخرى، ولا سيما الأرمن.
ولد خليل رعد في بحمدون، شمال بيروت، في العام 1854. انتقل وهو طفل مع والدته وشقيقته سارة إلى القدس، بعد وفاة والده أنيس رعد. وفي القدس التحق بمدرسة الأسقف جوبات. وثمة من يقول إن خليل رعد تعلم مهنة التصوير الفوتوغرافي بنفسه، وعن طريق الصدفة، في حين يقول رواة آخرون إن رعد تعلم التصوير حينما التحق باستوديو جاربيد كريكوريان (كربيت كريكوريان)، الذي كان من أوائل المصورين المحليين، وكان قد تدرب في المحترف الأرمني للتصوير الذي كان قد أسسه المصور الأرمني يساي غارابيديان (يساي كربيتيان) في مجمع كنيسة القديس يعقوب في حي الأرمن بالقدس، قبل أن يعين بطريركًا لأرمن القدس.
وبعد أن عمل خليل رعد في استوديو كريكوريان، الذي يعود تاريخه إلى 1885، انفصل عنه، لينشئ بعد خمس سنوات استوديو تصوير خاصًا به في شارع حيفا، بالقرب من باب الخليل، وذلك في الجهة المقابلة لاستوديو كريكوريان.
خلال وقت قصير من مسيرته كمصور فوتوغرافي مستقل، حقق خليل رعد نجاحًا كبيرًا، ما سمح باختياره مصورًا رسميًا للسلطات العثمانية، حيث كان مقربًا من محمد جمال باشا، الحاكم العسكري لولاية سورية. وقد تنقل بحرية ما بين مصر وسورية ولبنان وفلسطين، خلال الفترة التي سبقت الحرب العالمية الأولى، ولا سيما الحرب على الجبهة المصرية ـ الفلسطينية.
كان رعد قد سافر إلى سويسرا عشية الحرب العالمية الأولى، حيث تلقى تدريبًا احترافيًا على التصوير الفوتوغرافي، على يد المصور السويسري كيلر في مدينة بازل. وفضلًا عن الدروس التي تلقاها هناك، فقد تزوج خليل رعد من مساعدة المصور ميلر، آن مولير، وعاد بها إلى فلسطين حيث استقرا في الطالبية، أحد أحياء القدس الغربية الحديثة.




عاصر خليل رعد، كمصور فوتوغرافي، نهاية العهد العثماني في فلسطين، ولا سيما العقدين الأولين من القرن العشرين، واللذين انتهيا باندلاع الحرب العالمية الأولى وهزيمة العثمانيين وانسحابهم من فلسطين وبلاد الشام. كما عاصر حقبة الانتداب البريطاني على فلسطين بكاملها، وهي الحقبة التي صعدت فيها شهرته، وازدهرت أعماله، كأهم مصور فوتوغرافي محلي في فلسطين.
ومع انفجار الصراع الفلسطيني ـ الصهيوني، تعرض استوديو خليل رعد للخراب، لكن أرشيفه الضخم من الصور أمكن إنقاذه، ونقله إلى مكان آمن. وفي مطلع أيار/ مايو 1948 غادر رعد مع زوجته القدس إلى أريحا، وبعد ذلك عاد إلى مسقط رأسه في بحمدون، لبنان، حيث توفي عام 1975.
وبالعودة إلى موضوعنا، أي صور شرقي الأردن كما التقطت بعدسة خليل رعد، فإن أهم المعلومات المتوفرة عنها موجودة في قائمة كتالوغ الصور الذي أصدره خليل رعد في عام 1933. وكانت د. رونا سيلع، الباحثة التقدمية الإسرائيلية، والخبيرة في التاريخ البصري، قد نشرت نسخة عنها في كتابها الصادر باللغة العبرية، عام 2010، تحت عنوان "خليل رعد، صور فوتوغرافية 1891/1948"(1).




إن أهمية محتويات صور كتالوغ رعد المشار إليها أنفًا أنه يصف، أو يعرف بمجموعة ضخمة من الصور التي كان قد التقطها حتى مطلع الثلاثينيات، وهي قائمة صور تعكس التنوع الشديد لاهتمامات خليل رعد، وللموضوعات التي اشتغل عليها حتى ذلك الحين. وهناك اعتقاد بأن هذا الكتالوغ لصوره حتى عام 1933 قد يكون الوحيد الذي كان قد أصدره عن أعماله في حياته.

غلاف كتالوغ صور خليل رعد لعام 1933


فما الذي يتضمنه هذا الكتالوج الذي بلغ عدد صفحات قائمة عناوين صوره 56 صفحة، من المعلومات عن صور خليل رعد الفوتوغرافية، والخاصة بشرقي الأردن حتى ثلاثينيات القرن الماضي؟!



أكثر من 200 صورة لشرقي الأردن
من ناحية أولى، نجد أن عدد الصور الملتقطة في شرقي الأردن قد بلغ 208 صور، من أصل 1380 صورة هي مجموع الصور المذكورة في كتالوغ 1933. أي أنها تمثل 15% من إجمالي الصور الوارد ذكرها في الكتالوغ. وعمومًا تمثل مجموعة صور شرقي الأردن ثالث أكبر مجموعة لخليل رعد، حسب قائمة الكتالوغ المذكور، مما يشير إلى مكانة شرقي الأردن الهامة كموضوع للتصوير الفوتوغرافي حينذاك. أما المجموعة الأولى والأكبر من الصور التي تضمنها الكتالوغ المذكور فهي لمدينة القدس ومحيطها، إذ بلغت 303 صور فوتوغرافية، وتليها كمجموعة ثانية، صور الأشخاص، أو البورتريهات، التي وثقها خليل رعد، وكذلك صور عامة عن الأزياء والاحتفالات في فلسطين، وقد بلغت 277 صورة. هذا وتحتل مجموعة صور الحفريات والآثار المرتبة الرابعة (بعد مجموعة صور شرقي الأردن) بعدد يصل إلى 146 صورة. ويذكر هنا أن رعد كان من أبرز المصورين المحليين الذين اشتهروا بتصوير المواقع الأثرية في فلسطين، وقد لجأت إليه البعثات الأثرية الغربية مرارًا للاستعانة بخبرته بالتصوير الأركيولوجي.



موضوعات وأماكن صور خليل رعد في شرقي الأردن

صورة للسلط من مجموعة رعد                                                    عمان في الثلاثينيات من مجموعة رعد


غطت صور خليل رعد الفوتوغرافية معظم مناطق شرقي الأردن، ولا سيما حواضرها الرئيسية، مثل عمان، والسلط، والكرك، ومأدبا، وكذلك مواقعها التاريخية والأثرية، مثل البتراء، وجرش، وقصر المشتى، وغيرها. وبشيء من التفصيل، فقد شملت صور رعد في شرقي الأردن مشاهد عامة لجسر أللنبي على نهر الأردن، وادي شعيب، والجسر الخشبي المقام على ذلك الوادي، إضافة إلى ثلاث صور تمثل مشاهد عامة للسلط. كذلك التقط صورة لوادي الزرقاء، وأخرى لمشهد السيارات وهي تعبر جسرًا خشبيًا مقامًا على نهر الزرقاء، هناك صور أخرى لقرية شركسية لم يسمها تقع في الطريق لعمان، وقد تكون وادي السير. لقد حظيت عمان بعدة صور شملت وسط المدينة، المسرح (المدرج) الروماني، وصورًا لقصر الملك الحسين الأول، وصورة ثانية لقصر الأمير عبد الله الأول، وأخرى لشخص الأمير نفسه.




ضم الكتالوغ أيضًا عددًا كبيرًا من الصور لجرش يصل إلى 28 صورة، أكثرها للمدينة الرومانية في جرش. والتقط رعد 13 صورة لبلدتي الكرك ومأدبا، منها صورتان عامتان للكرك، وأخرى لقلعة الكرك من بعيد، القلاع الصليبية، وادي الموجب. وفي مأدبا التقط صورًا عامة للبلدة، وأخرى لخريطة فلسطين الفسيفسائية الشهيرة والمنفذة على أرضية الكنيسة اليونانية.
حظيت آثار قصر المشتى الذي بناه الأمويون، الذي يقع على أطراف البادية، إلى جنوب شرق مدينة عمان، بعشر صور فوتوغرافية. فيما حظيت الطريق إلى البتراء عبر صحراء سيناء بأربع عشرة صورة، لكن حصة الأسد من صور شرقي الأردن كانت من نصيب البتراء، إذ بلغت ثمانين صورة.
وعلى الرغم من أن قائمة صور كتالوغ خليل رعد ضمت بالأساس صورًا عن القدس، ومن داخل أسوارها وما حولها، وكذلك صورًا ليافا ومحيطها وبيارتها ومناظر عامة لنابلس والجليل والمناطق الشمالية من فلسطين، فقد ضم الكتالوغ أيضًا صورًا أخرى من خارج فلسطين، احتوت على مشاهد لدمشق وبعلبك وسيناء وأهرامات القاهرة.

عمارة البتراء في صورتين من مجموعة صور رعد


اهتمام بتصوير شرقي الأردن
بينما حصلت المناطق المحيطة بفلسطين بعدد رمزي من الصور، فإن حصة شرقي الأردن جاءت في المرتبة الثالثة، بعد صور القدس والصور العامة عن فلسطين. فلماذا حظيت شرقي الأردن بتلك الكمية الكبيرة من الصور الفوتوغرافية.




الجواب على ذلك السؤال يكمن في النظرة السائدة في أوروبا والعالم المسيحي عمومًا إلى شرقي الأردن، باعتباره جزءًا من "البلاد المقدسة"، أو "أرض التوراة والإنجيل"، شأنه شأن فلسطين ذاتها. ولذلك اهتمت بعثات الاستكشاف البريطانية (والأوروبية والأميركية عمومًا بإجراء سلسلة من الأعمال الاستكشافية والحفريات في أرجاء مختلفة من شرقي الأردن)، والتي جاءت بدورها كحلقات مكملة للأعمال الاستكشافية التي قام بها "صندوق استكشاف فلسطين" خلال السنوات 1872/1880. ومن المعروف أن اختراع آلة التصوير الفوتوغرافي في نهاية ثلاثينيات القرن التاسع عشر، جاء ليقدم خدمة كبيرة لعمليات البحث والتنقيب الأوروبية، سواء تلك التي توجهت نحو مصر لاستجلاء وفك رموز الحضارة المصرية القديمة، أو تلك التي تحركت بدوافع استعمارية، مغلفة بغشاء ديني، للبحث عن مبررات وذرائع لاستعمار المنطقة وربطها بأوروبا والحضارة الغربية، مثل تلك التي توجهت إلى فلسطين وشرقي الأردن ومناطق أخرى من جنوب سورية.



تأثيرات استشراقية وتوراتية
بحكم التربية الدينية التي تلقاها رعد في مدرسة الأسقف جوبات بالقدس، وكذلك لإتباعه الخط العام للمصورين الفوتوغرافيين الأوروبيين، والغربيين عمومًا، في نظرتهم إلى فلسطين ومحيطها من منظار ديني واستشراقي، فقد كان يشاطر هؤلاء في موضوعات تصويرهم، والمستمدة عادة من القصص والأحداث الواردة في الإنجيل. وهكذا فإن الاهتمام بتصوير شرقي الأردن كان نابعًا من الاعتقاد بأنه جزء لا يتجزأ من "البلاد المقدسة". وكان رعد يطلق على نفسه في بطاقاته التعريفية، وفي كتالوغاته المنشورة بالإنكليزية وغيرها، بأنه "مصور شخصيات من بلاد التوراة"، أو "مصور مواقع تاريخية"... إلخ.
لكن خلفية خليل رعد الدينية ومعتقداته الشخصية لم تفقده انحيازه للمجتمع الفلسطيني الذي نشأ وترعرع فيه. ولذلك احتلت حياة الفلسطينيين اليومية ونشاطاتهم الاقتصادية وعاداتهم وثقافتهم وأزيائهم مكانة رئيسية في أعماله الفوتوغرافية.
أخيرًا، يبقى أن نتساءل عن مصير صور خليل رعد "الأردنية" أو تلك الملتقطة في الأردن، وأين يمكن أن نجدها، وهل من سبيل لاستعادتها، أو الحصول على نسخة رقمية عنها، لتتمكن الأجيال الحالية من الأردنيين والأردنيات من مشاهدتها؟

إعلان عن استوديو رعد في القدس

بطاقة عن استوديو رعد في القدس


نحن نعلم أن قائمة كتالوغ صور خليل رعد، الصادر عام 1933 باللغة الإنكليزية، تشير إلى وجود نحو أكثر من مئتي صورة لشرقي الأردن، فماذا عن السنوات اللاحقة لعام 1933؟ وهل زار خليل رعد شرقي الأردن بعد ذلك التاريخ، وإذا ما كان قد زاره خلال العقود اللاحقة (وهو أمر مرجح بحكم المهنة)، فأين هي الصور التي التقطها في شرقي الأردن، خلال الثلاثينيات والأربعينيات من القرن العشرين؟
قد يكون الجواب عند د. وليد الخالدي، مؤسس مؤسسة الدراسات الفلسطينية، حيث تحتفظ هذه المؤسسة بأكبر مجموعة معروفة من الصور الفوتوغرافية المقتناة لأعماله من قبل مؤسسة عربية، إذ يصل عدد صور مجموعة خليل رعد في تلك المؤسسة إلى أكثر من ثلاثة آلاف صورة سالبة، والتي لا زالت تنتظر النشر والتعريف بها من خلال كتاب، أو أكثر، يعتني بتوثيقها وإتاحتها للمشاهدة والدراسة.



هامش:
(1) صدر كتالوغ د. رونا سيلع عن خليل رعد، لمناسبة المعرض الذي نظمته لأعماله في تل أبيب، عام 2010. وقد ضم 173 صفحة احتوت على مجموعة كبيرة من صور المعرض. وتضمن الكتالوغ أيضًا سردًا لسيرة خليل رعد، وقراءة مسهبة لأعماله وإرثه المصور.

*هاني حوراني: رسام ومصور فوتوغرافي، باحث في الفنون البصرية.