Print
محمد بنعزيز

"بيت غوتشي".. كيف يدير العرّاب بيت الأناقة الإيطالية؟

12 يناير 2022
سينما

 

اقتحم المخرج ريدلي سكوت عالم الموضة بعد أن حصل على تمويل نادر ليحكي سيرة شخصية حقيقية عاشت في مجال ذي جاذبية رهيبة، شخصية ماوريسيو غوتشي (أداء آدام درايفر). وكعادته ينتقي المخرج الإنكليزي سير شخصيات معروفة للمتفرج ليقتبسها للسينما كما في أفلامه غلادياتور، 2000 وروبين هود، 2010. وهنا يتناول حياة غوتشي، وهو شخصية قوية ورمز الأناقة الإيطالية، بل والعالمية.
يدخل المتفرج عوالم شركة موضة راقية تخضع لنمط تسيير شخصية العراب المهيمنة. تجري إدارة ثروة العائلة بقواعد فيودالية وقبل رأسمالية، وهذا تصوير لإيقاع عيش نخبة مصابة بهوس الثراء والترقي الاجتماعي ومراكمة المال والنفوذ القابل للتوريث للأولاد، وفجأة تدخل شخصية جديدة هذا العالم الغريب عنها.
وصلت الشابة باتريسيا (أداء الليدي غاغا) محملة بأمنية وتناضل لتحقيقها. من الجيد حكي سيرة شخصية فقيرة طموحة، تتحرك في القاع لتصعد إلى السطح، لكي يصيبها الضوء. وضع الشخصية تحت أضواء الكاميرا هو وضعها تحت اختبار النار.

صارت الزوجة أكثر حضورًا في فيلم يفترض أن يحكي سيرة زوجها، وهي تبحث عن نفوذ أكبر. تم تطوير الشخصية بأفعالها وهي تتفاعل مع شخصيات مختلفة في السلوك والمعجم مما يتسبب في مصادمات بسبب الأهواء والمخاوف والمصالح الضيقة... نتابع شخصيات تحرّكها نوازع الجشع والخوف والطموح والثأر... نتابع استدارة الشخصية وهي تنقلب على تحالفاتها بحثًا عن مصالحها... الإغراء المالي يُعمي.
كان العراب يقدّس العائلة، لكنها تحطمت بسبب الأنانية، وحين تواجه مؤسسة العراب صعوبات في الاستمرار تفتح رأسمالها لمساهمين غرباء عن العائلة يفرضون تغيير قواعد التسيير... هذا يحطم صورة العراب.
لا تعمل الشركة بسلاسة حين يغيب المالك المدير العراب. كان الوريث ماوريسيو في مواجهة الأعداء الأجانب والأعداء الداخليين... يناور ماوريسيو ويتقدم، هناك كائن معاد كامن يحاول القضاء على البطل.

الليدي غاغا بدور الشابة باتريسيا


من هذا المعادي؟
كان الأعداء الداخليون هم من أضرّوا بصورة شركة غوتشي. هكذا نكتشف في النصف الثاني من الفيلم الجانب المظلم في الشخصية الرئيسية، إنه نسخة من أهله. هنا الجميع أوغاد بالفعل أو بالتواطؤ. هذا مشوق. قال ماركيز في كتابه ورشة سيناريو "إن المتفرجين يحبون حكايات الأوغاد"، لذا لا مكان للبشر الملائكة في الأفلام.
تأسست دار غوتشي في 1921 من طرف مبدع تصاميم... وصارت حقائب الدار وملابسها أشهر من مؤسسها، ملابس رمز للرقي والذوق. من يلبس من بيت غوتشي برجوازي متفوق. تمثل عارضة الأزياء نموذجًا لجمال المرأة المطلق المتفوق في الاستعراض بفضل أزياء مبتكرة... أزياء شكلت ذوق شابات القرن العشرين اللاتي ارتدين ملابس مستوحاة من اللوحات الجديدة وصارت هؤلاء الشابات معجبات بالفنانين أكثر من إعجابهن بضباط الجيش، حسب إريك هوبسباوم في كتابه "عصر التطرفات"، وهذا الإعجاب بعيد عن ذوق آنا كارينينا 1877م، والتي كانت معجبة بالضباط الوسيمين وبذلاتهم الزاهية.


يحكي سكوت سيرة واحد من رواد الموضة، وهم نخبة مجهرية ذات نفوذ هائل. يمثل مجال الفن والموضة أرستقراطية العصر الحديث التي تسْحر العامّة.
يحكي الفيلم صراع الحب والمال في سيرة عائلة، مؤامرات الورثة ضد بعضهم، وشايات عن مبيعات غير مصرح بها... الميكيافيلية في عالم الأعمال... الأناقة والرفاهية، القيم التي صارت تنمّط أحلام البشر. قيم الاستهلاك تجعل من حب الثراء والأنانية سلمًا للوصول حتى بدوس رقاب الأخرين؛ أنا أملك وألبس غوتشي إذًا أنا موجود.
يسيّر العرّاب شركة العائلة كمزرعة. وحين يرثها أبناؤه المرفهون أكثر مما يجب فإن الغرباء يفترسون الإرث الجمالي لمنزل غوتشي house of gucci، وهكذا يتبدد مجد السلالة.
يحكي سكوت هنا قصة شخصية معروفة وتستغرق زمنًا طويلًا وتجري في أمكنة متعددة متباعدة مما يجعل السرد مملًا. توجد الكاميرا في المكان التقليدي المتوقع على علو قامة إنسان. ولقد تجنب المخرج كل مغامرة أسلوبية واتبع إخراجًا عضويًا أكثر منه إخراجًا فنيًا.
يحكي فيلم "بيت غوتشي" تطورات الحب المتبادل بين باتريسيا وماوريسيو غوتشي في سرد خطي متسلسل ذي إيقاع رتيب، بما أن أحداث حياة الشخصية الرئيسية معروفة فإن المتعة لا تنبع من التشويق بل من تخيل المتفرج لنفسه وهو يعيش في تلك الفيلات ويقود تلك السيارات صحبة عارضات الأزياء الفاتنات... ولقد أنقذ الكاستينغ الفيلم، فكانت الليدي غاغا في النصف الثاني أكثر حضورًا... آل باتشينو في موقع غير قابل للاستبدال في الكاستينغ... أداء آدام درايفر مقنع وهو يقدم شخصية مترددة تبحث عن الهدوء ثم تتحول إلى الهوس بالسلطة الثراء... غطى الشعر المسدل والنظارات الكبيرة وجه آدام درايفر مما قلل من ظهور حركات وجهه في أدائه... كان حضور الزوجة أقوى منه، كانت حوافزها أكثر وضوحًا، لكن الزوجة القادمة من بيئة بسيطة لم تتحمل ضغط الشهرة فانهارت.

بلغت دار غوتشي أوجها في منتصف القرن العشرين، وحين حاول غوتشي الابن إدخال تغييرات في تصاميم الفساتين وألوانها مثّل ذلك صراع أجيال على مستوى الذوق وطرق التسيير، كانت تلك الملابس جزءًا أساسيًا من التاريخ الثقافي والطبقي للقرن العشرين. بعد منتصف القرن قوّض البوب أرت pop art الصادم الفاقع والهجين طبقيًا وعرقيًا ذوق النخبة وفتح آفاقًا أرحب للجمال... للجماهير وليس للنخب فقط. وعبّر المؤرخ إريك هوبسباوم في كتابه "عصر التطرفات" عن دهشته من الحس الفني لمصممي الأزياء ورجال الموضة الذين يتنبؤون بمستقبل الذوق رغم أنهم لا يعرفون التحليل ويعترف بتواضع أنهم يتجاوزون توقعات مؤرخي الثقافة في معرفة الأشياء الآتية واستباق الموجات الطليعية الفنية ومطالب الجمهور.