مريم والمسيح في الفن الفلسطيني.. درب الآلام الموعود بالخلاص

شكّلت رمزية السيدة مريم والسيد المسيح، بما تختزله من مفاهيم أهمها: المعجزة، والبشارة، واللجوء، والسلام، والألم، والصبر، رافدًا هامًا للحركة التشكيلية الفلسطينية على مدى مراحلها المختلفة منذ ما بعد النكبة. إذ كثيرًا ما استلهم الفنانون الفلسطينيون، الروّاد منهم بخاصة، شخصية السيد المسيح وأمّه السيدة العذراء، كل بأسلوبه الفني المميز، في أعمالهم.

وعلى الرغم من اختلاف الأساليب الفنية في تصوير المسيح وأمّه السيدة مريم في أعمال الفنانين الفلسطينيين، وتنوّع المعاني والمضامين المتعلقة بهما ضمن الواقع الفلسطيني المعاصر، إلا أن استلهامهم هذه الرمزية الدينية التاريخية يبقى يطوف حول العلاقة بين التاريخ والحاضر؛ من حيث توظيف التاريخ لخلق مقاربة بصرية معرفية مع الحاضر، كالمقاربة بين قصة لجوء السيدة مريم، وتهجير الفلسطينيين إبّان النكبة والنكسة، وكالمقاربة أيضًا بين صبرها، وقصة صلب المسيح، وتحمّلهما أعباء الرسالة وآلام الطريق الذي سلكوه من ناحية، وصمود الفلسطينيين من ناحية ثانية، ومعاناتهم وتحمّلهم أعباء مسار المقاومة الذي اختاروه.

يتناول هذا المقال رمزية السيدة العذراء والسيد المسيح في أعمال أربعة من رواد الفن الفلسطيني هم: الفنان الراحل إسماعيل شموط، والفنان الشهيد ناجي العلي، والفنانان سليمان منصور وعبد عابدي.

"فلسطين على الصليب"

تظهر المرأة كشخصية مركزية في أعمال شمّوط، يصورها مرتدية الزيّ الفلسطيني التقليدي ليختزل الفنان في حضورها عناصرَ من الهوية الثقافية ورموزًا من التراث الشعبي الفلسطيني. والتوظيف لصورة المرأة الفلسطينية كاستعارة للأرض والهوية الوطنية والثقافية والتراثية حضر في أعمال معظم روّاد الفن الفلسطيني. وتظهر المرأة في الكثير من أعمال شمّوط كأمّ قريبة في حضورها وحالتها العامة من السيدة العذراء، في محاولة من الفنان لخلق مقاربةٍ بين الحاضرِ ـ المنفى القسري ـ  والتاريخِ المتمثّل في قصة السيدة مريم العذراء والسيد المسيح، كإعادة اشتغال بصري لتاريخ اللجوء، وكتعبير بصري عن علاقة أمومة خاصة ـ عامة، يشبّه به الفنان العلاقة بين الطفل والأم بعلاقة الإنسان الفلسطيني مع الأرض.

من أعمال ناجي العلي

تلعب المرأة ـ التي تحضر غالبًا بهيئة قريبة من السيدة العذراء ـ أدوارًا مختلفة في لوحات شمّوط؛ فهي، إلى جانب الطفل، شاهدان على المأساة، وهي الأرض وحاملة شعلة النضال وممثلة الهوية، وهي أيضًا استعارة للعلاقة التاريخية بين الإنسان والأرض. تطلّ المرأة في اللوحة حزينة الملامح، لكن عمق ذاتها الذي يبدو في عينيها، يُظهر كبرياءً وثقةً بالنفس، وكأن الفنان يختزل في صورة المرأة الوطن بمختلف ألوانه وحالاته، فهي تمثل الحزن على ضياعه، والأمل في استعادته، وهي إشارة إلى المسؤولية تجاهه والمتمثلة في أمومة خاصة ـ عامة، وإلى الاستمرارية التاريخية ومسؤولية صون التراث والحفاظ على الهوية.

في لوحته "فلسطين على الصليب" تظهر شخصية المصلوب ضمن تكوين أقرب إلى التجريد يشبه شكل خارطة فلسطين، في مقاربة بين التاريخ، قصة صلب المسيح، والحاضر، حيث تصبح فلسطين بشموليتها، بأرضها وإنسانها وهويتها، هدفًا للاغتيال. يظهر في مقدمة اللوحة طفلٌ يحتضن حمامة ومن أمامه كتاب وسلاح، وفي الخلفية تظهر امرأة بالزي الفلسطيني التقليدي جالسة أمام خيمة. يختزل شموط في هذه اللوحة الواقع الفلسطيني بعد النكبة، حيث الشتات والإقامة في مخيمات اللجوء، وهو يشير إلى الخيارات الفلسطينية المتمثلة في السلام (رمزية الحمامة)، والمقاومة (رمزية السلاح) جنبًا إلى جنب مع الفكر (رمزية الكتاب) كأرضية هامة للنضال داعمة له. يقول شمّوط عن لوحته تلك بأنه أراد بها الجمع بين ثلاثة مسارات زمنية يمر بها الفلسطيني وهي: التشتت وفقدان الأرض ـ الماضي المتمثل في النكبة، والواقع الجديد ـ الحياة القاسية في المخيمات، وأخيرًا المستقبل الذي يجب النضال من أجله ومن أجل سلام وسعادة الأطفال.

"عائلة فلسطينية" و"مشهد الميلاد" لسليمان منصور

فاطمة المريميّة

لعل فاطمة هي الشخصية الرئيسية الثانية الأهم في أعمال الفنان الشهيد ناجي العلي، بعد شخصية حنظلة التي تظهر بدورها في كل أعماله. وبينما أشار العليّ بحنظلة إلى الطفل الفلسطيني اللاجئ، وإلى أطفال الفئات المهمشة والفقيرة، وإلى كونه الشاهد على المأساة، تشير فاطمة إلى المرأة الفلسطينية ومكانتها في المسيرة النضالية.

إضافة إلى تصوير شخصية المسيح مصلوبًا في العديد من أعماله، محيلًا بها إلى الفلسطيني اللاجئ والشهيد والمعتقل والجريح، استعار العليّ كذلك شخصية السيدة العذراء في الكثير من أعماله ليحيل بها إلى المرأة الفلسطينية وصمودها ودورها في المسيرة النضالية الفلسطينية. في أحد رسوماته تتشح فاطمة بالسواد في حالة من الفجيعة والمأساة، وتظهر في الخلفية العديد من الصلبان كُتب أسفل كل منها أسماء "فلسطين"، و"بيروت"، و"الجنوب" و"شاتيلا"، إشارة إلى الواقع المؤلم تحت الاحتلال، والمتمثل في استلاب الأرض وبالاجتياحات وارتكاب المجازر.

في أحد رسوم العليّ تظهر فاطمة كأيقونة مريميّة، تعلّق مفتاحًا (رمز حق العودة) على صدرها، وفي الخلفية تظهر الخريطة الفلسطينية مزينة بنقش الكوفية الفلسطينية. بينما تظهر مصلوبةً في رسم آخر، وهو خروج واضح من الفنان عن نمطية صورة الصلب الخاصة بالمسيح ـ الرجل، ليُدخل المرأة إلى مشهدية الصلب في العديد رسوماته. تعلّق فاطمة الصليب على صدرها، ويحتضنها حنظلة حبًا ودعمًا وإسنادًا، كُتب على ثوبها اسم فلسطين بالإنكليزية، وعلى الصليب اسم مدينة "الناصرة"؛ يشير ناجي العلي بهذا العمل إلى أن الصلب ـ المرادف للتهجير والقتل والاعتقال، يمارس بحق الفلسطينيين ككل، مسلمين ومسيحيين، كما لا يمارس بحق الفلسطيني الرجل فقط، بل هو أيضًا واقع على المرأة الفلسطينية بالمثل.

العائلة الفلسطينية كأيقونة

كثيرًا ما استعار الفنان سليمان منصور رمزية مريم والمسيح في أعماله بأسلوب يقترب من الأيقونة، إذ هو يركز على هندسة التكوين وصفاء الألوان وجمالياتها. في عملة "عائلة فلسطينية"، تظهر في اللوحة ثلاث شخصيات مستعارة من التاريخ الديني، وهي السيدة العذراء، وابنها المسيح، ويوسف النجار. وبتوظيفه للأيقونة المقدسة، يضفي الفنان على العائلة الفلسطينية هالة من القداسة، والتي تتأكد من خلال الهالات المحيطة برؤوس الشخصيات. ترتدي المرأة الزي الفلسطيني التقليدي، وكذلك الرجل في اللوحة يرتدي الزي التقليدي الفلاحي الفلسطيني. بينما يظهر الطفل ـ المسيح متشحًا بالكوفية الفلسطينية مشيرًا بيده بعلامة النصر، والتي تصبح اليوم رمزًا عالميًا يحيل إلى النضال الفلسطيني.  

في لوحة أخرى بعنوان "مشهد الميلاد"، يوظف منصور رمزية مريم والمسيح بشكل أكثر واقعية ضمن واقع فلسطين تحت الاحتلال؛ تظهر السيدة مريم في مركزية اللوحة ترضع طفلها، وفي الخلفية القرية الفلسطينية، بينما يسيطر على مقدمة اللوحة رسم لجدار الفصل العنصري ومن أمامه جنود الاحتلال. يحيل الفنان بهذا العمل إلى التاريخ الذي يتكرر في فلسطين، حيث يولد الأطفال الفلسطينيون تحت واقع الحصار والاشتباه بهم وقتلهم واعتقالهم؛ الطفل الفلسطيني هو المسيح المتهم والمشتبه به والمعرّض لاعتقال أو اغتيال تمامًا كما يذكر التاريخ الديني حول المسيح. يتحول المكان الفلسطيني في اللوحة إلى أشبه بسجن كبير، وهو كذلك على أرض الواقع، بعد أن سيطر الجدار الإسمنتي والحواجز العسكرية على المشهد المكاني في فلسطين.

"قيامة يسوع" و "من البير حتى جامع الرملة" لعبد عابدي

قيامة الفلسطيني

تظهر شخصية المسيح في أعمال عبد عابدي في حالة مغرقة بالآلام وبثقل وكآبة الواقع تحت الاحتلال. تجدر بالذكر هنا رسومات الفنان التي رافقت مجموعة قصص "وما نسينا" للكاتب سلمان ناطور، والتي هي عبارة عن قصص تسجيلية تسرد أحداث النكبة وحكايات تهجير الفلسطينيين إبّان حرب 1948. نشرت كل قصة من المجموعة يرافقها رسم لعبد عابدي تِباعًا في مجلة "الجديد" ما بين عاميْ 1980 و1982. وفي الرسومات التخطيطية التي رافقت المجموعة القصصية "وما نسينا"، تظهر شخوص اللاجئين، محور الرسومات، في حيّز جغرافيّ مجرّد، يرسمهم الفنان أحيانًا بشكل غرافيكيّ، بعدد من الخطوط فقط، بحيث تستمد تلك الشخصيات قوّتها من النص الأدبيّ، ما يضفي على هذه الرسومات الطابع السياسي المأساوي لحدث النكبة.

تُفتتح كل قصة من مجموعة "وما نسينا" برسم تخطيطيّ لعبد عابدي؛ يصور الرسم التخطيطي الذي يفتتح قصة بعنوان "من البئر حتى جامع الرملة"، رجلًا مسنًّا ـ وهو الذي يلعب دور الراوي في القصص ـ بوجهٍ مليء بالتجاعيد تبدو عليه ملامح حزنٍ ممزوج بغضب، يقف في وضعية المصلوب وإلى جانبه طفل في حالة فجيعة، وتظهر في الخلفية نساءٌ في حالة من الحزن وقد مُدِّد أمامهن جثمان الشهيد. أسفل الرسم التخطيطيّ، يصف الشيخ، الراوي، أحداث تفجير وقعت في سوق الأربعاء بين بسطات الخضار في مدينة الرملة عام 1948، وأدّت إلى استشهاد الكثيرين؛ وبينما يحدد النص مكان وزمان المأساة، فإن الرسم، برمزية المصلوب وبخطوطه التي تجرّد الحدث من مكان وزمانٍ معلوميْن، يجعل من النكبة قضية إنسانية ـ كونية جامعة، غير أنه في ذات الوقت لا يتجرد تمامًا من محلية الحدث، فالسياق النصّي، والراوي الذي يحيل بوضعيته كمصلوب إلى التاريخ في فلسطين، والنساء بالزيّ بالعربي، ومآذن المساجد في الخلفية، كلها إحالات محليّة إلى الحدث المتعلق بالمكان والزمان الفلسطينييْن.

وفي لوحته "قيامة يسوع" تظهر شخصية الفلسطيني بصورة أقرب إلى المسيح بينما يظهر المخيم الفلسطيني في خلفية العمل. يحيل عابدي بهذا العمل إلى قيامة الفلسطيني بعد النكبة، رغم دربها المعبّد بآلام الفقد والتهجير، ليشقّ طريقه نحو استرداد الحقوق.  

أخيرًا، تحضر كل من شخصية السيدة العذراء والسيد المسيح في أعمال رواد الفن الفلسطيني مرادفةً للإنسان الفلسطيني على اختلاف جنسه وعمره ومعتقده، طفلًا كان أو شابًا أو مسنًا، ذكرًا أو أنثى، مسيحيًا أو مسلمًا، ليحيل الرواد بهذا التصوير للإنسان الفلسطيني إلى تكرر التاريخ في فلسطين، وتجدّد دروب الآلام ـ التهجير والقتل والاعتقال والحصار ـ التي يسير فيها الفلسطينيون قسرًا في زمن الاحتلال. تنطوي رمزية مريم والمسيح في أعمال الروّاد على معاني الصمود، والتحمّل، ومواصلة النضال، والبشارة والأمل في الخلاص. كل أمّ فلسطينية هي مريم تحمل ببشارة، وكل طفل يولد هو مسيح يحمل راية البشارة في الخلاص.