Print
سمير رمان

"كيف قتلوا جون كينيدي": وثائقي في ذكرى اغتياله

25 ديسمبر 2022
سينما

بمناسبة مرور 59 عامًا على اغتيال الرئيس الأميركي جون كينيدي في مدينة دالاس، عرض للمرة الأولى الفيلم الوثائقي "كيف قتلوا جون كينيدي" القائم على كتاب "القدر المخدوع... جون كينيدي: كوبا وقضية هاريسون". الفيلم ليس الأوّل المكرِّس لمقتل الرئيس جون فيتزجيرالد كينيدي. ففي عام 1991، أخرج أوليفر ستون/ Oliver Stone فيلم "JFK... رصاص في دالاس".
في هذا الفيلم الأول، البطل هو المدعي العام في نيو أورليانز جيم هاريسون (كيفين كوستنر). يقوم هاريسون بتحقيق خاص في مقتل كينيدي، ينتهى بمحاكمةٍ قضائية، وجهت خلالها إلى رجل الأعمال كليو شو تهمة التآمر في مؤامرة اغتيال الرئيس، في حين اتهمت عصابات كوبية بالتنفيذ. أمّا وكالتا الاستخبارات الأميركية (سي. آي. إي ومكتب التحقيقات الفيدرالي) فقد اتهمها الفيلم بدعم العصابات الكوبية، وتأمين غطاء لها، بسبب هذا العمل الشرير غير المسبوق.
بينت دراساتٌ متخصصة أنّ أكثر من 80 في المئة من المجتمع الأميركي لم تصدّق النتائج التي توصلت إليها لجنة التحقيق الاتحادية، وطالبت بالكشف عن الوثائق السرية. ووجد الكونغرس الأميركي نفسه مضطرًا تحت ضغط الرأي العام الأميركي إلى تشكيل هيئةٍ جديدة لإعادة النظر بوثائق قضية مقتل جون كينيدي. على الرغم من تلف كثير من الملفات والوثائق، واصلت الهيئة عملها لمدة أربع سنوات، قامت خلالها بقراءة 2 مليون صفحة من النصوص السريّة. حاز الفيلم على اهتمام كبير، وأثار بعد عرضه للمرة الأولى في مايو/ أيار 2021، ضمن فعاليات مهرجان كان السينمائي، على ردود فعلٍ سياسية قوية، ورشّح لثماني جوائز أوسكار.
لاحظ أوليفر ستون في واحدةٍ من مقابلاته: "بعد الفيلم الأول عام 1991، رفعت السرية عن كثير من المعطياتٍ الجديدة، ولكنّ غالبية الناس لم تعرف بالأمر. في وقتٍ تلاشى اهتمام وسائل الإعلام الجماهيرية، فإنّ هنالك ثقبًا أسود في ذاكرتنا الجماعية بخصوص هذه القضية، التي ما زالت تحظى بنوعٍ من الاهتمام في المجتمع. يثير هذا الوضع التعجب فعلًا، ففي عام 2013 حلت الذكرى 49 للمأساة، وأصبت بالمرارة عندما لاحظت أنّ كبريات القنوات التلفزيونية والصحف الرئيسية قد أوردت بصوتٍ واحدٍ فقط النتائج التي توصلت إليها اللجنة الاتحادية، على الرغم من تشكيل لجانٍ أخرى أجرت تحقيقات، وتوصلت إلى نتائج تعرفها تلك الوسائل الإعلامية، وظهرت كثير من المعلومات الجديدة. فيلمي هو ردّ فعلٍ على هذه الممارسات الغريبة. إنّه فيلمٌ غاضب، ولكنّه مترفّع. لقد قمنا بعملٍ جبار، وكشفنا الحقائق الموجودة كما هي".




تضمّن الفيلم لقاءً مع روبرت كينيدي الابن (روبرت كينيدي الأب شقيق جون كينيدي)، ولقاء مع ب. تونهايم، رئيس مجلس إعادة النظر بمواد قضية مقتل كينيدي، وكذلك الصحافي والمؤرّخ ديفيد تالبوت، وخبير الجرائم، هنري لو، وغيرهم من الخبراء. يتذكر روبرت كينيدي والده، الذي كان وقتها يشغل منصب مدعي عام الولايات المتحدة الأميركية (الذي قتل على يد متآمرين من المخابرات المركزية)، والذي فهم كلّ شيءٍ فور تلقيه خبر مقتل أخيه، فاتصل بـ(لانغلي) في مقر الـ"سي آي إي"، وسأل الضابط المناوب: "هل جماعتكم هي من رتّبت هذا الكابوس؟". وضع هذا السؤال النابع من قلبٍ ممزق حدًّا لمسيرة وحياة روبرت كينيدي، الأب المرشّح لمنصب الرئيس، والذي كان سيفوز فيه بلا ريب. والآن، ها هو يرقد في قبرٍ يزينه صليب من المرمر على بعد خمسة أمتار من ضريح أخيه جون كينيدي. وبالمناسبة، ينتمي آل كينيدي إلى الكنيسة الكاثوليكية، وكان جون أوّل رئيسٍ كاثوليكيٍّ أميركي، بينما كان بقية الرؤساء الأميركيين من البروتستانت.
تناول فيلم "كيف قتلوا جون كينيدي" بالتفصيل مقولة "الرصاصة السحرية" الكاذبة، التي زعم أنّها أصابت الرئيس المغدور في ظهره، وخرجت من صدره، لتصيب حاكم ولاية تكساس الجالس في المقعد الأمامي في ظهره، وأصبحت من ثمّ حرّةً من جديد لتعود وتصيب الحاكم من جديد في خاصرته. يتم الحديث أيضًا عن تزييفات قام بها سبعة من أعضاء اللجنة الاتحادية، الذي كان من بينهم آلان دالاس، العدو الشرس للرئيس كينيدي (والذي سبق لكينيدي أن عزله من منصب مدير وكالة الاستخبارات المركزية قبل عامين من المأساة). أُدخل آلان دالاس في قوام اللجنة من قبل ليندون جونسون، نائب الرئيس كينيدي، الذي تولى الرئاسة بعد مقتل كينيدي. قبل أن تجفّ دماء الرئيس المقتول، لم يتأخر جونسون كثيرًا في أداء القسم رئيسًا. تتكشف في الفيلم بدقةٍ فاضحة آليات التلاعب في تشريح جثة الرئيس، التي اتجهت كلّها لتجعل من هارفي أوزوالد كبش فداءٍ، وهو الذي لم يلمس بندقية القنص المرمية في مستودع للكتب في دالاس، التي انطلقت منها (ومنها فقط) الرصاصة التي قتلت الرئيس. يورد الفيلم محاولةً مشابهة تقريبًا لمحاولة اغتيال جون كينيدي التي جرت في الثاني من نوفمبر/ تشرين الثاني  في شيكاغو (كشفها أحد حرّاس الرئيس السود، وسجن في ما بعد سنواتٍ طويلة بتهمٍ جنائية فبركها مكتب التحقيقات الفيدرالي. في العام نفسه). كانت (إف. بي. آي) تعدّ لاغتيال الرئيس في فلوريدا، ولكنّ الرئيس غيّر رأيه، ورفض القيام بالرحلة.

لماذا كرهت الوكالات الاستخباراتية جون كينيدي إلى هذا الحد؟
كان آلان دالاس نقيض جون كينيدي، هو نفسه الذي كان مديرًا لوكالة المخابرات الأميركية من عام 1953، وحتى عام 1961، وهو نفسه الذي ظهر في فيلم "سبع عشرة لحظة من الربيع/ Seventeen Moments of Spring"، عندما كان يقيم في أوروبا عام 1945، وهو من ابتكر خطة Dulles لتفكيك الاتحاد السوفياتي أخلاقيًا، والتي أدّت في النهاية إلى انهيار الاتحاد السوفياتي عام 1991. وقف دالاس بقوة لصالح إرسال القوات الأميركية إلى فييتنام، في حين كان كينيدي معارضًا (وكان إرسال القوات من أوّل قرارات جونسون بعد جلوسه على كرسيّ الرئاسة). كما أنّ دالاس كان هو من أصدر الأمر بقتل باتريس لومومبا، في حين أراد كينيدي أن يكون صديقًا للزعيم الكونغولي. بعد انفراج أزمة الصواريخ في كوبا عام 1962، أراد كينيدي تحقيق تقدمٍ في العلاقات السوفياتية ـ الأميركية، بينما كان دالاس عدوًا شرسًا للشيوعية التي كان يشعر بالرهاب منها. نجح دالاس في توريط كينيدي في مقامرة إنزال مجموعة صغيرة من الكونترا في خليج الخنازير على السواحل الكوبية، الأمر الذي أدى فشلها إلى إقالة دالاس من منصبه. بعدها، قال كينيدي: "سأمزّق وكالة المخابرات الأميركية إلى أشلاء أبعثرها في مهبّ الريح". بعد كلّ هذا، أعمى الحقد قلب دالاس على الرئيس. في عام 1965، اعترف دالاس قائلًا: "ظنّ بعضهم أنّ جون كينيدي إله". يتحدث فيلم أوليفر ستون عن كلّ هذا مدعومًا بالوثائق، وجاء بلغةٍ تحمل كثيرًا من المشاعر والمغازي، وبكثيرٍ من التسلسل المنطقي. جاء هذا الفيلم مثيرًا للاهتمام أكثر بكثيرٍ من بقية الأفلام، والأهمّ من ذلك أكثر فائدةً منها كلّها.




خلال حياته، كان جون كينيدي الشخصيةً الأكثر شهرةً في العالم، وخاصّةً بعد حلّ المشكلة الكوبية. يذكّر الفيلم أنّ أيّ شخصٍية حكومية في العالم لم تنل مثلما نال جون كينيدي من شواهد مادية تدلّ على المحبة التي حظي به على مستوى العالم: تماثيل، شوارع تحمل اسمه، مطارات... وغيرها. وكيف يمكن ألا يكون محبوبًا ضابط عسكري حارب الفاشية خلال الحرب العالمية الثانية، والذي ألّف كتاب "ملامح الشجعان" وفاءً وتكريمًا لذكرى رفاقه الذين سقطوا. في تلك الحرب، أصيب كينيدي بجروحٍ خطيرة، اضطر بعدها إلى حمل صليبٍ على ظهره لتدعيم عموده الفقري، وإلى لبس حذاءٍ خاصّ مقوّس ليخفي عرجه.
جون كينيدي الابن الذي كان في الثانية من عمره وقت اغتيال والده غدا بطل المشهد الأكثر تأثيرًا من الناحية العاطفية خلال الجنازة. بعد خروج التابوت من الكاتدرائية الكاثوليكية، وعندما كانت الأوركسترا تعزف للمرة الأخيرة ترنيمة "المجد للقائد"، رفع الطفل يده الصغيرة بحزم تحيةً للراحل. تمّ عرض هذا المشهد مئات المرات على شاشات التلفاز، وفي مئات الآلاف من الصور. طفلٌ صغير يرتدي معطفًا خفيفًا قصيرًا، وجوارب بيضاء ممزقة، يحيي والده المتوفى. خلفه مباشرة كان يقف عابسًا، كما لو كان يعاني آلامًا رهيبة في أسنانه، عمّه روبرت كينيدي، الذي ستطلق عليه النار من مسافةٍ قريبة، ليسقط قتيلًا بعد خمس سنوات فقط من مقتل أخيه الرئيس. عائلةٌ تعيسة بالفعل، وبلدٌ قد يستحق الشفقة، خاصّة بعد أن أظهر اغتيال جون كينيدي للعالم إمكانية إفلات المجرم الحقيقي من العقاب. أصبح من المألوف اليوم أن توصف حالةٌ استثنائية بعبارة أنّ العالم انقسم إلى "قبل" و"بعد"، الأمر الذي شهدناه في 11 من سبتمبر في حادثة برجي نيويورك، وفي الحرب الأوكرانية. سيكون هنالك مزيد من الأحداث والاضطرابات التي من شأنها "تغيير" سلسلة لانهائية من جميع أنواع الاضطرابات التي قدّمتها السلطات ووسائل الإعلام بمهارة وحرفية قد أدّت بالفعل إلى انقسام وعي الناس، وإلى تبلّد التعاطف الصادق بين الشعوب، وزرع بذور الشرّ الذي يسهم في تفريق البشر.