رائدات الفن الفلسطيني بين الأصالة والمعاصَرة
مليحة مسلماني
حضرت المرأة فاعلًا مؤثرًا في مسيرة الحركة التشكيلية الفلسطينية منذ ما قبل النكبة، ولعل المعرض الفردي الذي أقامته الفنانة زلفة السعدي، في قاعات المجلس الإسلامي الأعلى بالقدس عام 1933، يُعدّ مؤشرًا جليًا على هذا الحضور المبكر للمرأة في المشهد الثقافي بعامّة والتشكيلي بخاصة، وذلك على من الرغم من واقع المرأة الفلسطينية، والذي يتقاطع مع واقع المرأة العربية، من حيث محدودية فرص استكمال مسيرتها التعليمية والمهنية، والبقاء أسيرة الصور النمطية عنها، إضافة إلى واقعها الاستثنائي الذي تمثّل في النكبة، وما نتج عنها من فقدان الكيانية الفلسطينية والمراكز المدينية والثقافية، وما تبعها من واقع الاحتلال في داخل الوطن والشتات في خارجه.
يأتي هذا المقال، في شهر آذار الذي يحتفي بالمرأة، استرجاعًا لتجارب ثلاث رائدات في الفن التشكيلي الفلسطيني، تميزت كل منهن بأسلوبها الخاص وتنوعت أدواتهن في التعبير البصري بين الرسم والتشكيل بالفخار وتعدّد الوسائط والإنشاء والفيديو وغيرها من أشكال الفن المعاصر. هؤلاء الرائدات هنّ الفنانات فيرا تماري، وتمام الأكحل، ومنى حاطوم. وقد كانت الهوية وإرثها، والقضية الفلسطينية وتمثلاتها، وانعكاساتها على الذات الجمعية والفردية الفلسطينية، والاشتغال بين الخاص والعام، محاور جامعة بين هؤلاء الفنانات، وذلك على الرغم من اختلاف أمكنتهن، وبيئات التأثير على تجاربهن الفنية، بين الوطن والشتات.
فيرا تماري.. من الفخّار إلى تعدّد الوسائط
تشكل أعمال الفنانة فيرا تماري تجربة فريدة بحكم نشوء الفنانة في الوطن واستقرارها فيه، ومعايشتها بالتالي المراحل المختلفة التي مرت بها فلسطين بعد النكبة. عملت الفنانة مع أبناء جيلها من الفنانين، مثل سليمان منصور ونبيل عناني وغيرهما، على خلق حراك تشكيلي ينسجم مع واقع الحياة تحت الاحتلال. كان من بين تلك المساعي تأسيس "جماعة التجريب والإبداع" التي سعت لإنتاج أعمال إبداعية باستخدام مواد طبيعية من الأرض، كالتراب والنباتات والحنّاء، وجاء تأسيس هذه الجماعة دعمًا وتحقيقًا لما أعلنته الانتفاضة الفلسطينية الأولى من شعارات حول الاعتماد على الذات، ومقاطعة المنتجات الإسرائيلية، والعودة إلى الأرض لإنتاج ما يسد احتياجات الإنسان الفلسطيني، وتحقيق الاكتفاء الذاتي، في ظل حصار الاقتصاد الفلسطيني ومحاولات تدميره على يد الاحتلال.
من الجدير ذكره هنا أن أدوات إنتاج الفن في فلسطين، من ألوان وغيرها، كان من غير الممكن توفيرها في تلك الفترة إلا عن طريق دولة الاحتلال، وذلك بسبب سيطرة الاقتصاد الإسرائيلي على الاقتصاد الفلسطيني، واحتكاره إنتاج واستيراد الغالبية العظمى من السلع والخدمات.
تتميز أعمال تماري بتنوع الأساليب والوسائط، فأعمالها الفنية تشمل اللوحات والأعمال الإنشائية بالإضافة إلى أعمالها من الفخّار، وللفنانة علاقة حّسية خاصة مع مادة الفخار. تقول تماري: "لجأت إلى الفن بحثًا عن وساطة، أستطيع من خلالها التعبير عن نفسي، وبدأ فني ينمو ويتطور، بينما كان يتزايد الوعي بالقضية الفلسطينية". وتكمل: "أعتقد أن أسلوبي ونظرتي إلى السيراميك اختلفت عن النمط التقليدي في استعمال السيراميك في فلسطين. أشعر أن عملي هو شيء خاص جدًا. إنه يقدم ما يشبه التفهم الصحيح لشعبي الفلسطيني.. علاقتي بالفخار أصبحت أقوى. أستطيع الآن أن أوصل رؤيتي وأحلامي التشكيلية من خلال الفخار الفني إلى الجمهور".
تحتلّ المرأة، وبشكل خاص الأم، مكانة مركزية في أعمال تماري، ويصف النقّاد أعمال الفنانة بأنها تمثل "دراسة لعالم المرأة في المجتمع الفلسطيني"، ففي أعمال الفنانة المبكرة تقوم المرأة بأدوار مختلفة، فهي تعمل في الحقول، وتصون التراث الشعبي وتمثله، ويشكل جسدها رمزًا للأمومة واحتضان الوطن.
في أحد أعمال تماري اللاحقة، وهو عمل إنشائي بعنوان "رثاء صامت"، تغيّر شكل المرأة وهرم الوجه لتكتسي ملامحه بتعابير الحزن والتعب الشديديْن، في دلالة على توالي الأحداث المأساوية على الشعب الفلسطيني. جاء هذا العمل تكريمًا وتذكارًا لأمهات الشهداء من خلال مجموعة ثلاثية التكوين. وتلعب الحجب الشعبية التي تدخل في تصميم هذه المجموعة دور الحامي من الأذى والمرض والموت.
من أعمال الفنانة المميزة الأخرى عملها الإنشائي "ماشيين" ـ "Going for a Ride"، والذي نفّذته عام 2002 مستخدمة سيارات تم تدميرها على أيدي قوات الاحتلال الإسرائيلي بعد اجتياح مدينة رام الله في ذلك العام، حيث قامت بفرض الحصار وقتل المدنيين بالإضافة إلى تدمير مئات السيارات التابعة لسكان المدينة باستخدام الدبابات العسكرية. نظّمت الفنانة مجموعة من السيارات المدمرة على مساحة من الإسفلت في ملعب لكرة القدم تابع لمدرسة "الفريندز للأولاد" في رام الله.
تظهر من موقع العرض مستوطنة "بسجوت" المقامة على قمة جبل الطويل والمطلّة على مدينتي رام الله والبيرة، وهي إذ تهيمن على الفضاء المكاني تبدو كخلفية استيطانية استعمارية لموقع العرض. يُسمع صوت موسيقى من داخل السيارات، والتي عُلّقت داخلها وعلى مرآة الرؤية الخلفية عناصر من التراث البصري: مثل العين الزرقاء، والكفّ، والمسبحة، والتي تشغل جميعها في الثقافة الفلسطينية والعربية دور الحماية والحفظ من الأذى والحسد. ينطوي عمل "ماشيين" على رسائل تتحدى الحصار وآلة الدمار الاستعمارية، إذ هو يحول ما هو مُدَمَّر إلى مشهدية جماليّة تستمد وجودها من فعل الحياة، والرغبة في الإصرار والحفاظ عليها والمضيّ قدمًا فيها.
تمام الأكحل.. بين يافا والمخيم
سعت الفنانة تمام الأكحل إلى تأكيد الهوية والتراث الفلسطيني في أعمالها ضمن معالجات بصرية أبرزت فيها العناصر المميزة لهذا التراث من خلال إعادة الاشتغال على جمالياته اللونية والتكوينية، وبما يتضمنه من المطرّزات والزخارف والبيوت المقبّبة والبلدات القديمة وغيرها من مكونات تراثية عربية ـ فلسطينية. كما يظهر الحصان في العديد من أعمال الفنانة كرمز دالّ على الأصالة والإرث العربي في الهوية الفلسطينية، في محاولة تشكيلية تصل بها الفنانة الماضي بالحاضر. والحصان رمزٌ متعدد الدلالات يُشار به في الآداب والفنون الفلسطينية والعربية إلى معاني الفداء والتضحية والوفاء والجمال والقوة والثورة.
كما يبدو المكان موضوعًا مسيطرًا في أعمال الفنانة، والتي تقوم بتمثيل العناصر المكانية التي تميز التجربة الفلسطينية، سواء في الوطن أو في المنفى، ضمن علاقة ارتباط وانتماء يتماهى فيها الإنسان الفلسطيني مع مكانه الأول ــ الوطن، بينما يضعه المكان الثاني ــ المخيم والمنفى، على حافّة غربة واغتراب تقف عند عام 1948، لكنها حافّة ليست ساكنة، إذ تتأرجح تعبيرًا عن بقاء الفلسطيني على أهبّة كارثة أخرى.
لم تغب مشهديّة المخيم بتفاصيله اليومية وشخوصه المهجّرين عن أعمال تمام الأكحل؛ في مجموعة من تلك الأعمال يظهر المخيم بمساكنه التي تبدو أشباهَ بيوت تكاد تأوي اللاجئين، فهي ليست بيوتًا تمامًا إذ لا توفر الحماية لهم، وهي ليست راسخةً في منفاها في دلالة على بقاء الفلسطيني في منطقة بيْنية؛ فهو ليس متجذّرًا في هذا المنفى ولكنه لا يغادره، وهو غير حاضر في الوطن لكنه لا يغيب عنه حِسًّا وذاكرة. تخيم روح الفقر وثقل المـأساة على المكان في تلك الأعمال، في حين تتخفّى روح الثورة بين أزقّة المخيم وفي ملامح قاطنية دلالةً على ما هو مختزَلٌ في التجربة الفلسطينية من غضبٍ يتصاعد وتوقٍ مستمرٍّ إلى العودة والاستقرار.
أما يافا، عروس البحر في الأدب والفنون والثقافة الفلسطينية، ومسقط رأس الفنانة التي هُجّرت منها وعائلتها إبان النكبة لتستقر في بيروت، فتظهر في مجموعة من الأعمال ذات الحجم الكبير زاخرةً بدراما لونيّة مَلِكَتُها زرقةُ البحر، وسرّها الذاكرةُ القابضةُ على ذاتها برتقالةً مضيئة. تشكّل مجموعة الفنانة تمام الأكحل عن يافا سرديّةً بصريةً لهوية المدينة قبل النكبة وخلالها وما بعدها؛ ففي لوحة بعنوان "يافا عروس البحر"، يظهر المكان بطبيعته وبرتقاله وبحره وشخوصه في وضعية من الهدوء والسلام لا تحيل إلى أزمة، فالفلاحون يقومون بقطف البرتقال والأطفال يلعبون على شاطئ البحر والصيادون يبحرون فيه. غير أن الأزمة تظهر من موضعة اللوحة ضمن لوحات أخرى موضوعها يافا، المدينة التي تحتفظ في الذاكرة الجمعية الفلسطينية بمكانة راسخة تتراوح بين الحنين والألم، والجمال والقسوة، وغيرها من تضادات الشعور الإنساني حول المكان ومجمل حدث النكبة.
تصل الأزمة ذروتها في لوحة أخرى بعنوان "الاقتلاع من يافا"، إذ يتحول المشهد ذاته في اللوحة السابقة الى حالة من الهلع والفزع، فالبحر لم يعد ساكنًا وهادئًا، والشخوص في حالة من الفجيعة يظهرون في تماهٍ مع الأمواج الهائجة، وكجماعات تركب البحر خلاصًا من حرب لم يخططوا أو يستعدوا لها. توثق تلك اللوحة للحظةٍ فارقةٍ في الوعي الجمعي الفلسطيني، وهي اللحظة التي تجرّع فيها الفلسطينيون مرارةَ الصدمة التي حملتهم على أمواج البحر إلى المجهول في المنافي.
منى حاطوم .. منطق الأضداد
من بين الفنانين الفلسطينيين في الشتات في أوروبا تبرز الفنانة منى حاطوم التي تمتاز أعمالها بالجرأة والعمق والتحدي لكافة أنماط الحصار المفروضة، السياسية والاجتماعية. وتستخدم حاطوم أساليب فنية معاصرة في تكوين رؤيتها البصرية حول مختلف المواضيع، فتأتي أعمالها في قوالب من فنون الفيديو Video Art، والأداء Performance، والإنشاء Installation، وغيرها من الأساليب التي تطرح الفنانة من خلالها العلاقة بين الخاص والعام، وبين الذاتي والسياسي. تستخدم حاطوم جسدها في أعمالها الفنية ليكون مسرحًا للأحداث وموضوع الرسالة البصرية ـ المضامينية ولتطرح من خلاله التداخلات بين الخاص والعام.
في عملها "طاولة المحادثات"، والذي عُرض في أعقاب الغزو الإسرائيلي لبيروت، وفي العام الذي تلا مجزرة صبرا وشاتيلا التي جرت في أيلول/ سبتمبر عام 1982، ظهر جسد الفنانة ممددًّا على طاولة تحيط بها ثلاثة مقاعد فارغة، وفي فضاء مظلم يخترقه ضوء مسلّط على الطاولة حيث الجسد المُمدّد. استمر العرض مدة ثلاث ساعات بقي فيها الجسد ممددًا كجثة بلا حركة، ويرى المتفرج عن قرب أن الجسد قد رُبط بالحبال ووضع بكامله داخل كيس بلاستيكي، في حين حُجب الوجه والرأس بشاش طبي، كما يرى المشاهد من خلال شفافية الكيس لفائف الجسد مخضبة بالدماء بينما يكتسي البطن بكيس شفاف مليء بالأمعاء والدماء. رافق هذا العرض تسجيل صوتيّ تكرر طوال مدة الثلاث ساعات لمقتطفات من نشرات إخبارية حول الحرب الأهلية في لبنان وتصريحات لرؤساء الدول الغربية حول السلام في الشرق الأوسط.
يصف إدوارد سعيد أعمال منى حاطوم بـ "منطق الأضدّاد"، إذ هي تستند إلى ما يسميه بـ"ذاكرة التحدي"، يقول سعيد: "في عصر المهاجرين، واللاجئين، والمنفيين، وهروب المدنيين، عصر المذابح والمخيمات، ومنع التجوّل، وإبراز بطاقات الهوية، تُعتبر (أعمال حاطوم الفنية) بصفتها الأدوات العرَضيّة غير القابلة للمصالحة في علاقتها بذاكرة التحدي، هذه الذاكرة التي تواجه الذات دون هوادة وبالعناد نفسه الذي تواجه فيه الآخر الذي يطاردها ويقمعها، ولئن اتسمت (هذه الأعمال) بالتغيير المستديم إلا أنها ترفض لنفسها التفريط بالماضي الذي تكمن عليه بحيث تبدو في ذلك وكأنها كارثة مغفلة يتواصل حدوثها دون توقف ودون تملّق أو تبجّج أو عصف خطابي".
ويرى كمال بُلّاطة أن عمل منى حاطوم "يعيد تعريف العالم من خلال جسد الفنانة، وذلك بالوصول إلى جسد مشاهدها. وفي مجرى التواصل هذا، يخلق عملها الفني لغة مجازية في الأضداد تعبّر في الآن الواحد عن الهوية والمنفى، وعن القمع والمقاومة، وعن الأسر والحرية".
في عملها التركيبي "حكم مُخفّف" استخدمت منى حاطوم خزائن من الأسلاك كتلك التي تُرى في السجون، حيث يشكل العمل بغرفه المكونة من الأسلاك شكل الحرف الإنجليزي "U". تحيل الخزائن إلى الأقفاص التي توضع بها الحيوانات، وتشير الفنانة بهذا العمل إلى النمطية العالمية التي تميز مساكن وأسلوب حياة الإنسان في هذا العصر، والتي تصبح أسيرة سجون صغيرة تشكل في مجموعها سجنًا كبيرًا. وبتدلّي مصباحٍ من مركز سقف فضاء العمل، يتحرك ببطء إلى الأعلى والأسفل، تتشكّل ظلالٌ للخزائن والأسلاك على الأرضية والجدران، ما يعطي شعورًا بالاضطراب والزعزعة وسط بيئة متغيرة، رغم النمطية الثابتة كسجونٍ صغيرة يتجمّد فيها الزمن.
في عمل آخر بعنوان "نقطة ساخنة"، وهو عبارة عن تركيب للكرة الأرضية يشبه القفص، تستخدم منى حاطوم خطوط النيون لرسم حدود خارطة العالم؛ يصدر عن العمل طنين مكثف في حين يتوهج محيطه بأنوار حمراء. لا يشير العمل إلى مناطق النزاع السياسي أو الحدود المتنازع عليها فحسب، بل إلى مجمل الوضع العالمي المشتعل بالصراعات والنزاعات.
مراجع
تينا شيرويل وآخرون، ألوان الحرية والحياة، (فلسطين: وزارة الثقافة، 2004).
عز الدين المناصرة، موسوعة الفن التشكيلي الفلسطيني في القرن العشرين: قراءات تاريخية توثيقية نقدية، مجلّدان، (عمّان: دار مجدلاوي للنشر والتوزيع، 2003).
طال بن تسفي وآخرون، صور ذاتية: فن نساء فلسطينيات، (تل أبيب: دار أندلس للنشر، 2001).
إسماعيل شموط، الفن التشكيلي في فلسطين، (الكويت: مطابع القبس، 1989).
Edward W. Said, "The Art of Displacement: Mona Hatoum’s Logic of Irreconcilables", European Institute of the Mediterranean IEMed., at:
https://www.iemed.org/wp-content/uploads/2011/09/The-Art-of-Displacement.pdf
**********
المرأة في الفن الفلسطيني.. لغة المكان والجسد
تغريد عبد العال
لا تغيب صورة تلك المرأة الفلسطينية التي تلبس الزي التقليدي مُحاطة بالأشجار عن أذهاننا، فهكذا ظهرت في الفنون الفلسطينية وفي أعمال الفنانين في حقبة الستينيات والسبعينيات واستمر حضورها حتى اليوم. نقارن أنفسنا اليوم بتلك المرأة، فهل تشبهنا، وكم ابتعدنا عنها أو كم اقتربنا؟ لا شك في أنها امرأة تلك الجذور التي لا نحب الابتعاد عن روحها ولكننا صرنا نبحث عن الصور الأخرى، صورة المتعبة والضحية والعاملة والمثقفة والفنانة والقارئة، ولكن السؤال هل حضرت في الفن كرمز للوطن؟ لأنها دلالة على الهوية خصوصًا وجودها الذي أكدته التضحيات والنضالات التي خاضتها هذه المرأة. في تلك الصورة تحضر أم سعد، المرأة والأم التي كتب غسان كنفاني عنها في روايته المعروفة، وتحضر نساء أخريات نشعر أننا قرأنا عنهن أو عشنا معهن. في القصائد والأشعار التي كتبها شعراء المقاومة، تحضر فلسطين كحبيبة، ففضلًا عن كون فلسطين كلمة مؤنثة، كتب الشعراء عنها قصائد حبّ يصعب حصرها.
في رواية "أم سعد"، المرأة التي تلد الأولاد فيصيروا فدائيين، كما يقول كنفاني عنها، تبدو صورة المرأة كأم وإنسانة بسيطة وراقية، جعل غسان صوتها مسموعًا على حساب صوته، فيستمع إليها وإلى وجهة نظرها في الثورة والحياة والمخيم وهي التي أخبرته أنّ "خيمة عن خيمة تفرق"، وأن "كل شيء حبس، المخيم حبس والجريدة والمدرسة حبس والباص حبس والشارع وعيون الناس وأعمارنا حبس". رأى غسان في تلك المرأة مشاركة حقيقية في النضال اليومي والوطني، وفي ذلك ما يقف بوجه الصورة النمطية التي ينقلها الغرب عنها كامرأة ضحية أو مكسورة. ومن هنا ربما يرتسم سؤال آخر عن مشاعرها ووجودها وعالمها الداخلي المليء بالحياة. كانت هذه المرأة موجودة في الواقع وتشارك في رؤيتها للواقع، وما زالت موجودة حتى الآن، بقرب الصور الأخرى التي ظهرت فيما بعد، وحين كونت المرأة صورتها بنفسها وعبرت عنها بلغتها.
ربما كنا نفتقد صوتها المشارك في كل شيء وصرنا نشتاق لرؤيتها كحالمة وحبيبة وعاشقة ومقاتلة في الحيز الاجتماعي أيضًا، وبقيت تلك الصورة داخل إطار رمزي، ورغم قوته لكنه يخفي الصور الأخرى المهمة التي بدأت بالظهور في وقت لاحق وفي يومنا الحاضر في أعمال فنانين معاصرين، ومن هنا يأتي السؤال: كيف بدأت الصور الأخرى للمرأة بالحضور؟ وهل حقًا خرجت من الإطار؟ أم رسمت بمحاذاته صور أخرى مقابلة للصورة الأساسية؟ كيف اندمجت تفاصيل وجودها مع المكان فصارت جزءًا منه وربما تفصيلًا آخر من تفاصيله حتى إذا قلنا فلسطين تخيلنا تلك المرأة.
حضور كمرادف للوطن
حقًا ظلت المرأة الفلسطينية كاستعارة لفلسطين، فلوحة "سلمى" التي رسمها الفنان سليمان منصور، طبعت ووزعت على بوستر لمنظمة التحرير تحت عنوان "فلسطين" فأصبحت سلمى مرادفة لفلسطين.
ربما استلهم فنانو التحرير تلك الصورة من الأدب بالإضافة لاستلهامهم ذلك من الواقع الذي حاول الفن أن يقف ضد محاولات محو الهوية أو نسيانها، وفي زمن كان فيه الفن ممثلًا شرعيًا للتراث والثقافة والمأساة الفلسطينية.
ففي كتاب "الفن الفلسطيني المعاصر، الأصول والقومية والهوية" يكتب الأكاديمي والفنان بشير مخول وغوردون هون، عن تأثر الفن التشكيلي الفلسطيني باللغة والأدب، لأن الفن كما يعبر الباحثان متورط في إنتاج السياق الخاص به، ولأن معظم الدراسات عن الفن الفلسطيني كتبها فنانون فلسطينيون، وكما أن اللوحات حملت بعض الكلمات والحروفيات. ففي لوحات مصطفى الحلاج مثلًا نرى بصريًا حضور التاريخ والنصوص الكنعانية والسومرية.
هكذا ربما بدأت تظهر في لوحات إسماعيل شموط وسليمان منصور وتمام الأكحل تلك الصور التي قرأناها في الأدب كـ"أم سعد" مثلًا. ولكن الملفت أيضًا هو أن حضور المرأة في هذه الأعمال مرافق لحضور المكان كخلفية، فحضر المكان في هذا الزمن ممثلًا بالأرض كطبيعة وأشجار وأحيانًا مع الحشود كجزء هام ورمزي للنضال الشعبي والوطني، وفي لوحة سليمان منصور "قطف الزيتون" يبدو حضور المرأة مرافقًا لحضور الرجل بينما هما يقطفان الزيتون، المرأة هناك تأخذ نفس الحيز وتقابل الرجل بينما هي مشغولة بالقطاف ولا تنظر إلى الرجل. لكن الجدير بالاهتمام أن هؤلاء الفنانين الذين عملوا على هذه الأعمال في أثناء هذه الفترة هم أيضًا فنانون معاصرون لأنهم حدثوا من أساليبهم التي حاولت بدورها الاقتراب من الأسئلة المعاصرة للحياة والفن.
ففي لوحة "حرية" التي رسمها سليمان منصور عام 2020، نرى تلك المرأة تقف في منتصف اللوحة، وتحمل على رأسها كلمة حرية، ربما كأيقونة أو كإشارة إلى أن وجودها مرتبط بتلك الكلمة، بينما يلوح في الخلف ظل لرجل يبدو أنه يغادر تلك المشهد. هذه اللوحة تطلق الخيال للتفكير بوجود وحياة هذه المرأة التي تشبه المرأة في أعمال سليمان منصور السابقة، لكنها رغم ذلك تعود بأسئلة أخرى مختلفة اليوم، هي لوحة تبدو فيها المرأة مستعدة لكل أنواع المعارك لكي تجد نفسها. وواضح هنا علاقة الفن باللغة، ففضل الفنان كتابة كلمة حرية داخل اللوحة وكأنه يعطيها مكانها الحقيقي دون أن يرسم أي شيء يدل عليها. هذه اللوحة تعطي ملامح جديدة لهذه المرأة التي تعيش عالمها الداخلي وحضورها الخاص الى جانب تمسكها بهويتها.
حضور بلغة خاصة
في لوحات جوليانا ساروفيم (يافا 1934) يمتزج المكان مع الجسد، وكما يقول الفنان كمال بلاطة عن أعمالها التي تمتزج فيها المرأة الفلسطينية مع المدينة الفلسطينية: "ومن خلال التداعي الحرّ بين المستذكرات والذات، تزاوجت تفاصيل المكان المفقود مع ثنايا الجسد الحميم، فمن خلال هذه الكائنات في لوحاتها، كثيرًا ما أطل علينا من وراء حجاب الزفاف الأبيض وجه عروس وكأنه يذكرنا بصورة يافا التي صورت في الفنون الكلامية كعروس غراء، وفي تمتعنا بالملامح البلورية لهذا الوجه المكلل بالنور، يلوح لنا للمرة تلو الأخرى وجه ساروفيم".
حاولت ساروفيم اكتشاف الذات من خلال الفن، فكانت محاولة الدخول الى أعماق المرأة من خلال انصهارها مع المكان ومع عناصر الوجود وبطريقة مختلفة عن صورتها التقليدية، ففي لوحة "امرأة الورود" تبدو تلك المرأة متمازجة مع الورود وكأنهما عالم واحد لا ينفصلان. هذا الانصهار يجعلنا نطل على عالمها الداخلي الذي هو الحلم والرغبة وربما الحب. عاشت جوليانا ساروفيم في لبنان وتزاملت مع فنانين لبنانيين، ولكن بقي المكان في لوحاتها حاضرًا وكأنه ذاكرة مدمجة مع المشاعر والعواطف.
وفي أعمال الفنانة المعاصرة رائدة سعادة يحضر الجسد الشخصي وهو يواجه سلطتين، الاحتلال والسلطة الذكورية. هنا يبدو الجسد وكأنه يتحرك في مكان محاصر وفي حالة تناقض مع الواقع كونها ولدت في أم الفحم وتلقت تعليما بالعبرية، ولقد كانت شخصيتها محور الكثير من أعمالها حيث عبرت عن أفكار تتعلق بوضعها كامرأة تعيش تحت الاحتلال في تماس واضح مع السياسي والشخصي.
في صورة "بينيلوب"، وهي شخصية من الأساطير اليونانية، تجلس لتغزل الصوف من أجل أن تتفادى اختيار زوج، تجلس رائدة فوق مبنى متهدم، لكن بكرة غزلها كبيرة جدا، مما يشير إلى عظمة الوقت الطويل أمامها لتنهي غزلها. والمكان التي تجلس فيه يوحي بدمار واحتلال حولها. وتحضر شخصيات أخرى في نفس المجموعة مثل "ذات الرداء الأحمر" و"سندريلا" وغيرهما. تبدو هنا الرغبة في التماس مع الحكاية الأخرى واللغة الأخرى لكن أيضًا قدرة الفنانة في خلق لغتها الخاصة بجسدها الشخصي، فنقرأ حكاية مختلفة يحضر فيها واقع مختلف هو الاحتلال والقمع.
ربما تحضر المرأة في سياقات أخرى مختلفة مستلهمة نصوصًا مختلفة كما في عمل الفنانة منى حاطوم (1952) "لدي الكثير لأقوله"، وهو فيديو أنتجته الفنانة مستلهمة ميدوسا، التي هي أيضًا لوحة للفنان الايطالي كارافاجيو وقد استبدل وجهها بوجهه، وميدوسا هي إلهة يونانية كانت فتاة جميلة، قادها جمالها لارتكاب الخطيئة فحُوّلت الى امرأة قبيحة، رسمها كارافاجيو وهي تصرخ. يذكرنا عمل حاطوم بميدوسا كارافاجيو وخصوصًا أنها استبدلته بوجهها ولكن ثمة يد تمتد على فمها فتغلقه في وضعيات مختلفة. ما يثير الاهتمام هنا هو الصمت الذي يقابل صورة ميدوسا الصارخة والمحتجة أيضًا بفعل الأيدي الذكورية. ذلك الصمت ربما يحتاج إلى لغة مختلفة تجدها المرأة بنفسها.
مراجع:
- MuseumBerzeit.edu: Framed/Unframed: Women representations in Palestinian art practice.
- الفن الفلسطيني المعاصر: الأصول، القومية والهوية، بشير مخول وغوردن هون، مؤسسة الدراسات الفلسطينية.
- النكبة في الخطاب الثقافي الفلسطيني، الفن التشكيلي نموذجًا، مليحة مسلماني، بديل/ المركز الفلسطيني لمصادر حقوق المواطنة واللاجئين.