Print
أسعد عرابي

معرض استعادي لمايول.. رمز فرنسا الفني

31 مايو 2022
تشكيل

 

تتألق الصالات الرحبة في متحف أورسي (الذي يحتل قلب عاصمة النور والتنوير التشكيلي) بمعرض استعادي لعبقري النحت آريستيد مايول، وذلك ما بين 21 نيسان/ أبريل و21 آب/ أغسطس من العام الراهن 2022 مـ. هو فنان فرنسي مولود في أحد مرافئ البحر الأبيض المتوسط في الجنوب عام 1861 مـ وتوفي في محترفه في ظاهر باريس عام 1944 مـ. متزامنًا مع منافسه أوغست رودان (1840 - 1917 مـ).

تعاونت عدة متاحف لتحقيق شمولية العرض ابتداء من متحف اللوفر وانتهاء بمتحفه الباريسي الخاص مرورًا بمؤسسة دينا فيرني ومتحف الفنون الجميلة في ليون.

يواكب "سينوغرافية" المعرض البانورامي التطور الأسلوبي المتعدد الوجوه والذي قاد إلى اتفاق النقاد والفنانين على اعتبار هذا العملاق الرمز الأول لازدهار محترف التحول من الانطباعية إلى الحداثة في مونوبول باريس قبل نهاية الحرب العالمية الثانية وانتقال هذه المونوبولية إلى مدرسة نيويورك، وذلك بما يتجاوز أهمية عبقرية أوغست رودان ومستقبلية قسطنطين برانكوسي. يكشف تقسيم العرض إذًا أسرار المفاصل النخبوية في تحولات المعلم آريستيد مايول الثورية.
 

آريستيد مايول في محترفه



تبتدئ موسوعية العرض من استهلالاته الانطباعية خلال التزام موهبته اللونية الاستثنائية إلى المجموعة (التي تمثل البوابة إلى شتى تيارات الحداثة). لا تقارن رهافته اللونية المنطلقة من الواقع إلا بمستوى مؤسس المجموعة كلود مونيه ويتفوق على كل ما عداه داخلها. نجده مهتمًا بما واكبها من اتجاهات واقعية تمهيدية. واحد من الأوتوبورتريه (تصوير الفنان لوجهه عن المرآة) مستلهم من منهج غوستاف كوربيه السابق على الانطباعية، ثم سرعان ما انحاز إلى الثوار على المنهج الانطباعي، خاصة بول غوغان الذي أسس قبل ارتحاله النهائي إلى الثقافة البولينيزية في تاهيتي وسواها وهي جماعة "بول آفين" في مقاطعة بروتون، ينتقد غوغان المجموعة بتهمته الخالدة "إنهم يبحثون حول العين وليس في المركز الخفي للفكر"، أيده سوريزييه وفالاتون عندما كشف أبرز أسراره الفردوسية التي التزمت بها انطباعية فناننا مايول في المعرض حين كتب غوغان من جديد "عندما نصوّر شجرة عن الطبيعة علينا أن نختار أجمل الألوان الخضراء على الباليتا ".

تعانق استهلالات المعرض أيضًا مختارات من ثلاثة مصنفات من الرسم بالخط تعرض لأول مرة، يبدو فيها انحيازه الحاسم إلى الثوري الثاني الذي تحول بتجديداته إلى مناقضة ضبابية الانطباعية وتراكب ألوانها الجزيئية والتوليف البصري (الذي بشر به قبل نصف قرن عالم البصريات الفرنسي شيفرول) وهو بول سيزان.

يتحول مع هذه الرسوم جذريًا من التصوير الموهوب إلى النحت الأشد عبقرية، يعانق المعرض العديد من أشهر أعماله النصبية، هي التي جعلت منه رمزًا للحركة الباريسية الناهضة.

 التحول من الرسم إلى النحت/ النحت بمواد معدنية قاتمة


اهتدى عن طريق بول سيزان إلى بنائية الشكل الديكارتي المكوّر أو المهندس معماريًا، فوصل بالكتلة إلى حدودها القصوى ليصبح مرجعًا جديدًا لتكعيبية بابلو بيكاسو التحليلية وأصبحت منحوتاته الأنثوية العارية متوسطة الحلول بين رومانسية أوغست رودان ونحته الضوئي من جهة ومستقبلية حداثة قسطنطين برانكوسي؛ مما قاده إلى ديكارتية حسيّة ومعمارية نصبية، بمعنى أن بنائية أجساده المكتنزة (بسبب ذائقته المتوسطية) أوصلته إلى هذه الروح التي تجعل من المنحوتة قياسًا عملاقًا (لا علاقة له بالقياس الحقيقي). يصل بالتعبير عن الكتلة في التشريح الأنثوي إلى حدودها القصوى بحيث يوهم تكور الورك مثلًا أنه أشد غورًا وأشد تقدمًا، والمسافة البنائية بين الحدين تمثل خصائص عبقريته النحتية، التي تؤسلب شتى تماثيله الثمانية عشر، وقد تضاعفت نجوميته عندما قرر وزير الثقافة، الروائي والناقد الفني الأكبر (في عهد شارل ديغول) أندريه مالرو، إخراج تماثيله من عتمات متحف اللوفر وزرعها في الضوء الطبيعي في الخارج، أي في ساحة حدائق التويلري المتاخمة لهذا المتحف الأسطوري في أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، اعترض في ذلك الحين النحات الوجودي الشامخ ألبرتو جياكوميتي بسبب عناية مالرو المبالغة ببيكاسو ومايول وإهماله لنحته الوجودي والمناقض في أفضلية الفراغ العدمي على الامتلاء النحتي.

يدافع الوزير أندريه مالرو عن نخبوية منهج مايول بأنه أقرب إلى روح الحضارات الكبرى ما بين الرافدية (الممثلة بتماثيل غوديا وحمورابي) والشوامخ الفرعونية مثل المسلة المصرية الماثلة على مقربة منها في ساحة الكونكورد والتي تستحضر عمالقة معبد الكرنك.

تقع أهمية أسلوب المعلم مايول في خلودية زمان أعماله، ورسوخها مثل أبي الهول في وجه عوامل الحت والشيخوخة ومدافع بونابرت أثناء حملته.
 

التصوير الانطباعي لدى أريستيد مايول 



نعثر هنا على سر آخر من مفاتيح عبقريته النحتية متمثلة في تعددية مواد الأداء، وذلك بتأثير منحوتات الكاتدرائيات الغوطية وبدائية "الكواتروشنيتو" (في القرن الرابع عشر).

تبتدئ من النحت المباشر بأنواع الخشب منذ 1890 مـ لتنتهي بالمنحوتات السيراميكية، عبورًا "بالمودلاج" بالطين الأبيض أو أنواع الحجر والمرمر والرخام الوضاء الفاتح إلى مصبوبات البرونز والرصاص القاتمة. نشهد هذا التناقض رغم وحدة الأسلوب البنائي في مجموعة التماثيل الأنثوية العارية المزروعة في حديقة التويلري ومعرض متحف أورسي الراهن. يبدو الفنان وكأنه يداعب لمسية وحسية الكتلة بأنامله الحاذقة الفنانة وليس الجنسية متفوقًا على نحاتي عصره قاطبة وبخلود سرمدي لا ينازعه في أشواقه أحدًا. قد يكون مايول من أبرز المعالم النخبوية والسياحية في باريس بما يتفوق على سلطة برج إيفل وقصر اللوفر نفسه، والرمز الأوحد على تفوق التشكيل في مونوبولية باريس قبل منتصف القرن العشرين.