Print
وائل سعيد

عن سينما رضوان الكاشف.. كيف تنحاز لـ"جماهير تستحق القتل"!

21 يونيو 2022
سينما


في أواخر التسعينيات، كنت أعمل بأحد مقاهي وسط البلد، وكان من ضمن مهامي، شراء "باكتة" سكر كل يومين أو ثلاثة. كان يتوجب عليَّ قبل لفعها على كتفي أن أشمر بنطالي بعض الشيء خشية التعثر تحت وطأة الحمل. ولما كان من الأفضل اختيار أقرب مكان لشراء تلك الأكياس، لم أجد أفضل من جمعية شارع شمبليون على بعد أمتار من العمارة التي يسكنها المخرج الكبير يوسف شاهين ويتخذ من شقتين متتاليتين بها، مقرًا لشركة مصر العالمية.

في إحدى المرات وأنا خارج من الجمعية، لمحته يسير حاملًا بعض الكتب والمجلات في يد وفي الأخرى يعلق حقيبة جلدية صغيرة. استوقفته لأخبره - كأي سينيفلي- بإعجابي بأفلامه وأثناء حوارنا القصير عرف مني أني كاتب قصة صدرت لي مجموعة واحدة، لعل وعسى أن يجد فيها فكرة يبحث عنها، هذا ما دار بخلد الشاب الذي كنته حينها، ولكن ما الذي كان يدور في ذهن الرجل الواقف قبالته يرد بمنتهى الهدوء والمحبة فيما عيناه تنتقلان خلسة من تحت نظارته بين باكتة السكر على كتفي و"الشبشب" أسفل بنطالٍ مُشمر!

لقد ذكرته - بلا شك - بشخصياته المهمشة التي تتبعها في أفلامه؛ الرحلة المضنية للمهمشين والمعدومين - سواء في الجنوب أو في الأحياء الشعبية- وهو ما ميز إحساسه في هذه الأفلام بنقل عالم الحرافيش الجُدد؛ فنحن أمام مطحونين في صورة جديدة لم تعد عناصر تكوينها تعتمد على النبوت والفتوة بل ذهبت بمنتهى الإخلاص للفقر والقمع. رغم ذلك أبى المخرج أن يغلف شخصياته بالعويل الميلودرامي؛ فنظرية البهجة كما يطرحها في "الساحر 2001" تنصحهم بأن يمروا على الحزن مرور الكرام؛ "خطف" ولا يمكثوا لديه وقتًا أطول!

لم تمض أيام على لقائنا حتى سمعت الخبر المؤسف؛ رحيل المخرج رضوان الكاشف في الخامس من يونيو/حزيران سنة 2002، برصيد ثلاثة أفلام فقط ومسيرة سينمائية قصيرة وضعته ضمن أهم مخرجي السينما المصرية.   

  

"شلة المنيل".. وخيانة الذاكرة

ولد رضوان الكاشف في 6 أغسطس/آب 1952 بحي السيدة زينب بالقاهرة لأسرة ترجع جذورها إلى قرية "كوم أشقاو" بمحافظة سوهاج، وفي حي المنيل المجاور للنيل عاش طفولته وشبابه. التحق بكلية الآداب قسم فلسفة بجامعة القاهرة وخلال هذه الفترة المحتشدة بآمال وتطلعات الشباب، انضم لحركات المعارضة الطلابية المُناهضة لتغول السلطة على الطبقات المعدومة، فاعتقل في القضية الشهيرة "انتفاضة الخبز 1977" وهي مجموعة من المظاهرات وأعمال الشغب خرجت علي مدار يومين 18 و19 يناير/كانون الثاني ضد موجة من القرارات تسببت في غلاء أسعار السلع الأساسية، وعلى الرغم من تنديد الرئيس أنور السادات بما فعلوه ووصفه بـ "انتفاضة حرامية" فقد اضطر للتراجع عن قراراته أمام شراسة تلك الانتفاضة.

في المنيل أيضًا، اجتمع بعض الشباب مع الكاشف فيما أطلق عليه "شلة المنيل" وهم مجموعة من الأسماء الواعدة من بينهم المخرج مجدي أحمد علي، السيناريست الكبير محمد حلمي هلال، الناقد السينمائي محسن ويفي، والفنان التشكيلي عادل السيوي. بالإضافة إلى السيناريست سامي السيوي، مؤلف فيلمي البداية والنهاية لرضوان الكاشف.

ترك التحول الرهيب الذي حدث للمصريين في السبعينيات أثرًا كبيرًا في نفوس المثقفين والفنانين والمخلصين من أبناء الوطن، فقد انحرفت الهوية المصرية عن مسارها التاريخي مُفسحة المجال لانفتاح عشوائي أخذ في اللهاث وراء أحلام الجنة الموعودة في دول الخليج، حيث براميل البترول الضخمة تتحول في لمح البصر إلى ملايين من الدولارات، ومن ثم تفشت الهجرات الجماعية، ما حدا بالإعلام والصحافة لإطلاق نواقيس الخطر وكان للأغنية المصرية دور لا يستهان به في تلك المعركة، لعل أشهرها "خلاص مسافر" للفنانة الرقيقة شادية.

خلفت تلك المرحلة مرارتها في حلق رضوان الكاشف وهيجت الكثير من الأسئلة، "هل كانت الهجرة التي لم يعرف الشعب المصري مثلها من قبل، إحدى الإفرازات الضرورية لعملية الإبدال هذه؟ أم كانت إحدى نتائجها، أم هو شكل من أشكال الرد على – خيانة الذاكرة- وهي أقسى تجربة يمكن أن يمر بها شعب، والتي تقترب من إعلان موته"، وهو ما يؤكده فيما بعد في أغنية عرق البلح "بيبه أخر الصعيد، بيبه والصعيد مات..".
 

رضوان الكاشف خلال تصوير أحد أفلامه وملصق فيلم "ليه يا بنفسج"




العودة من جديد.. متاهة لا تنتهي

في فيلم "الجنوبية – مشروع تخرج الكاشف 1988" يعود الراوي إلى قريته بعد غياب طويل بغرض تسجيل فيلم عنها، فيثير سخط الأهالي "عايز مننا ايه.. إنت مصراوي.. نسيتنا في شقانا.. متقلقش ميتينا.."- هكذا يحذروه بعد أن أصبح "مصراوي"، أي قاهري، وبذلك لم يعد منهم، حتى الحبيبة التي هجرها تلومه وتتهمه "طول عمرك خواف.. راجع تاكل الميتين.. عايز تعرف سرهم". يمثل هذا الصراع إدانه الكاشف لنفسه، فهو المُخرج العائد من رغد العيش بالقاهرة ليستفيد من رفات أجداده.

إلى الجنوب أيضًا يعود الفتى إلى قريته في "عرق البلح" وقد أضحت أطلالًا خاوية ترتع فيها الأشباح، فتتهمه جدته بأنه ليس منهم تمامًا "وكأن أمك الغريبة لم تُشارك في صنعك" لندرك أن أباه من قبله كان مهووسًا بالترحال، تزوج أمه وهي ليست من بنات القرية، رغم ذلك كانت الغلبة لعِرقه الأصيل..، فقد "ورثتَ تضاريسنا" تؤكد الجدة، الغريب أن الفيلم لم يمكث في السينما سوى أسبوع لكنه حصد العديد من الجوائز الدولية. وفي أولى أفلامه "ليه يا بنفسج 1993" يعود أحمد- فاروق الفيشاوي مهزومًا ولكن هذه المرة إلى الحارة وليس إلى القرية.

حتى في فيلم "الساحر" نرى في المشهد الافتتاحي عودة منصور بهجت- محمود عبد العزيز وابنته لبيتهما بعد انتهاء حفلة من حفلاته السحرية، وبعد أن يتم اعتراضهم نكتشف أنه كان يحلم. على المستوى النفسي تحمل هذه العودة المُتكررة عدة دلالات، كالحنين للطفولة والبدايات حيث أمان الأسرة ورفاهية عدم المسؤولية، وقد تكون مبعثها الشعور باقتراف الذنب، الجريمة في شكل التخلي عن العائلة والجذور والهجرة إلى القاهرة.

الغناء أيضًا من التيمات المتكررة، تنتقل أغاني الأفلام بين الموروثين الجنوبي والشعبي، فهو ابن شرعي لثقافتي القرية والحارة، والأغنية في الفيلم حين توظف دراميًا ضمن بقية العناصر تخلق سحرها الخاص، وتعبر في الوقت نفسه عن مدلولات بلاغية للشخصية أو الظرف – الزماني/المكاني- للحدث. في "عرق البلح" تقدم أغنية الفيلم مرثية لما ولى، عدودة صعيدية تبكي أطلال الظل المفتقد للنخلات العاليات، فيما تجنح أغنية الزفة بفيلم "ليه يا بنفسج" إلى لغة "الكار" وهى لغة موضوعة لا يعلمها سوى أبناء المهنة الواحدة "سلاتي نم للعروتي نوسة.. سلاتي نم للعريتي نيس - سلام للعروسة.. سلام للعريس"، وتشبه اللغة الجديدة لجيل الشباب في فيلم "الساحر"، فحازم حفيد المليونير يُخبر "نور" بأن موسيقاهم الحديثة تعتمد على الكلمات الـ"ركيكة". 


نظرية البهجة والحرافيش الجُدد

في كتابه "كيف تكسر الإيهام في الأفلام" يتعارض د. مدكور ثابت مع المذهب البريختي الذي يفترض إمكانية الالغاء التام للإيهام في العمل الفني بكسره، حيث يرى ثابت أن طبيعة العمل السينمائي تمكنه من الجمع بين "الإيهام واللا إيهام" في ذات الوقت، "بما يعبر عن استحالة أن يكون العمل الفني واقعيًا أو معاشًا، إلا في حدود كونه - صورة مفترضة- للواقع المادي المعاش".    

وبالمثل، نجد أن سينما الكاشف تراوحت بين الحقيقي والخيالي فعدّها البعض سينما واقعية فيما استقبلها البعض الآخر كأحد تمثلات الواقعية السحرية، وهي الاثنتان معًا وما بينهما أيضًا؛ بحكيها عن أُناس نعرفهم علم اليقين إلا أن وقع حيواتهم حين يُحركها البؤس وقلة الحيلة وضيق ذات اليد، يعطي من الغرائبية ما يفوق الخيال وتبقى شاعرية المُخرج في لغته السينمائية هي رمانة الاتزان لكلتا الحالتين.
 

رضوان الكاشف وشيريهان في كواليس فيلم "عرق البلح" (1998) ولقطة من الفيلم



الغواية بالأمر المُحال

مارس عدد من السينمائيين عبر التاريخ السينمائي سياسة ما يُسمى بنظرية "سينما المؤلف" من قبل التنظير لها علي أيدي الموجة الفرنسية الجديدة، فمنذ شابلن وحتى هيتشكوك -على سبيل المثال- اتبعت مجموعة من المخرجين التعريف الذي وضعه جان بول سارتر لتحديد ماهية الكاتب، فهو لن يكون مؤلفًا لانتقائه أشياء معينة للحديث عنها؛ بل بالكيفية التي يقول بها، ومن هنا تتولد أسلوبية المخرج التي تميزه عن غيره.

تحركت سينما الكاشف في هذا الإطار بتميز، لكنها اختلفت قليلًا لتقدّم بُعدًا آخر حول التأليف، حين تتصدر هوية الكاتب لغة المشهد لتزيح هيمنة المخرج بعناصره البصرية وتفسح المجال للغة الكتابية، الأمر حينئذ أشبه برواية مكتوبة سواء على مستوى الجمل أو الحوار أو التوظيف لكليهما. ويظهر هذا جليا في فيلم "عرق البلح" وهو من تأليف المخرج نفسه، بداية من طيف الكاتب الراحل يحي الطاهر عبد الله، الذي يصبغ مشاهد السيناريو من حيث الوصف أو الحوار؛ خصوصًا وهو صاحب رائعة من روائع السرد العربي الحديث "الطوق والأسورة" ومدى تقارب العوالم في الحكايتين، لا سيما وأن الاثنين - الكاشف والطاهر- أبناء نفس الجنوب القصي.

يتبع الكاشف في تترات أفلامه منهج الرواية، حيث يُدرج الإهداءات الافتتاحية، "ليه يا بنفسج.. إهداء الي كُتاب الستينيات، والفرح بالكتابة"؛ لاحظ الاحتفاء بكُتاب الستينيات تحديدًا الذين صنعوا مفترقًا هامًا للطرق في تاريخ الرواية المصرية الحديثة. وفي "عرق البلح.. إهداء إلى الجنوبي المطارد بخبيئته، سلامًا إليك يوم تموت.. وسلامًا إليك يوم تبعث حيًّا"، وحتى في الساحر هناك عنوان جانبي يُخبر عن "نظرية البهجة".

حين نتأمل سرد الأحداث في سيناريو فيلم "عرق البلح"، نصطدم بلغة مشتبكة حكائية تخص الروايات وتبتعد كثيرًا عن اللغة الخبرية الوصفية لكتابة السيناريو..، "الحصان يستدير منصرفًا من ذات الاتجاه الذي أتى منه، الشاب يحمل حقيبة ويركض لاحقًا بالحصان يخترقان دروب القرية حتى يصلا إلى دار تبدو أكثر الدور قدمًا وأكثرها ضخامة بحوائطها العالية، وبوابتها الضخمة المهيبة". على جانب آخر نجد أن الكاشف مارس كتابة المقالات بالإضافة إلى الكتابة البحثية أيضًا، فأثناء دراسته الجامعية كتب في التصوف والفلسفة الإسلامية عند "ابن عربي وابن الفارض"، كما صدر له كتابان بعد التخرج عن عبد الله النديم ود. زكي نجيب محمود.

كذلك يُدرج الكاشف رباعية صلاح جاهين حين اغتوى بمرأى القمر..، "نطيت لفوق في الهوا طلته مطلتوش - إيه أنا يهمني؟ وليه ما دام بالنشوى قلبي ارتوى، عجبي". إنها الغواية بالحياة التي اتبعها المخرج في أفلامه رغم إدانته لشخصياتها، الساحر الذي عفا عليه الزمن وباتت خدعه فكاهية في مقابل القانون الجديد للشباب، صراع السحرة هنا كان لصالح الشباب؛ الجيل الجديد. فسحرهم لا يعتمد على الفهلوة وفقط.  

لم يمنع ذلك أن ترجح كفة العِرق الجنوبي عند الكاشف – حتى وإن ولد وعاش في القاهرة- خصوصًا في اطار أيديولوجية الذكورة؛ فثمة هوية تقبع في اللاوعي عند كل منا، تنتقل عبر موروث كبير من الجينات والتقاليد، لذلك نرى الأنثى في أفلامه الثلاثة تأتي في المرتبة الثانية بعد الذكر كتابع أو مكفول، المرأة المتصارع عليها في "ليه يا بنفسج" أو الفتاة المغرمة بالبطل في نفس الفيلم. وفي الساحر فإن معضلة "منصور" الاساسية هي ابنته، التي لن يطمئن عليها إلا بعد الزواج فتنتقل ملكيتها لذكر آخر، وهو ما تؤكده جملة جاره في المنزل حين يطلب ابنته لابنه حموده "انت بتخاف عليها.. اديها لحموده واخلص".

رغم هذه الإدانة لم يتخل الكاشف عن أبطاله وكثيرًا ما تصارع لصالحهم، كتب عن الصعوبة التي واجهته في فيلم "عرق البلح": "كانت الصعوبة الحقيقية تأتي من كونه فيلمًا يتحدث عن أناس، الجميع يطالبون بنسيانهم.. لقد قال لي أحد رجالات البيزنس السينمائي بمصر: إن فيلمك يتحدث عن أناس يستحقون القتل، لا عمل فيلم عنهم".

وحين صعد الكاشف إلى المسرح لأول مرة ليتسلم جائزة عن أول أفلامه كان يحمل بداخله الإرث الأكبر منه للجنوب، أحزنه أن يرى الفيلم وقد حرم من مشاهد ولقطات طالتها أيدي الرقيب، وبدأ يشعر بالتخوف على الفيلم القادم..، "لأن معركة فيلمي القادم أكثر صعوبة، فمحظوراته كثيرة" وهو مشروعه الأثير "عرق البلح"..، "هذا الفيلم لا بد أن يموت بين ضفتي الغلاف، لا بد أن يختنق على الورق لأنه يفتح ملف الجنوب حيث طقوس الدم والنار والموت".