Print
عبد الكريم قادري

الفن التشكيلي كآلية توثيق جمالي وتاريخي للمدن

12 أغسطس 2022
تشكيل
لعب الرسم عبر حقب زمنية مختلفة دورًا محوريًا ومهمًا في توثيق حياة البشر والفضاءات التي عاشوا فيها، وقد عرفنا من خلال الجداريات والرسومات الأثرية والفسيفساءات وغيرها من وسائل الرسم الأخرى العناصر الأساسية التي شكّلت حياة هؤلاء، بيوتهم وطريقة لباسهم ومأكلهم ومشربهم، والبيئة التي نشأوا فيها، ومعتقداتهم الدينية وغيرها من عناصر الحياة الأخرى. ويعود فضل هذه المعارف الى الأدوات البصرية التي استعملوها، وبالتالي تتجاوز أهميتها وصدقيتها حتى الكتابة، لأن الصورة هي البعد البصري النهائي فيما تتعدد التأويلات في النص المكتوب. وانطلاقا من هذه الخاصيات عرف الإنسان الحضارات القديمة، ووعى منطلقاتها الأساسية. ولم تخرج المدن العربية من هذا المنطق، سواء القديمة منها أو الحديثة، لهذا استطاع المتلقي مهما كانت جنسيته أو زمنه معرفة المنشأ العمراني والحضاري لتلك المدن، مثل مدن العراق ومصر والمغرب والجزائر وغيرها من البلدان الأخرى التي تم نقل معالمها العمرانية ومنطلقاتها التاريخية عن طريق الرسم، سواء بيد المحليين وهذا شائع بكثرة في العصر الحالي، أو عن طريق الفنانين الذين رافقوا الحملات الاستعمارية، من أجل نقل سحر الشرق، وهذا قبل اكتشاف الفوتوغراف كوسيلة توثيق حديثة، مثل اللوحات التي رسمها أوجين دولاكروا منذ المنتصف الأول من القرن التاسع عشر في الجزائر والمغرب، أو إرث الفنان إتيان ديني الذي عكس الحياة الجزائرية في كامل صورها، وهو الأمر الذي سبقه إليه فيفان دينون في مصر، لتتعدد مظاهر فتنة المدن العربية على المستشرقين بشكل خاص، وحتى على الفنانين المحليين بشكل عام، وهذا ما يحدث حاليًا.

لفهم هذا المعطى بطريقة جيدة طرحنا سؤالًا محوريًا على مجموعة من الفنانين ونقاد الفن التشكيلي، حول دور وأهمية الفن التشكيلي (المحلي والاستشراقي) في توثيق العمران والحياة في المدن العربية، وقد عكست الأجوبة منطلقات مختلفة لكنها ذهبت في مجملها صوب المحور الأساسي، انطلاقًا من تجربة كل فنان.

خليل قويعة 


خليل قويعة (باحث وتشكيلي تونسي):

عبقريّة الفضاء التّصويري وسحر الأمكنة

قد يبدو الأمر واضحًا بالنسبة إلى فنون التّصميم المعماري، حيث لا معنى للفضاء الذهني دون تحويله إلى مرفق وظيفي يصبح بمقتضاه مكانًا يقبل التّكيّف المتبادل بينه وبين الشخصيّة. قل لي كيف تختار فضاءاتك الوظيفيّة التي تحيا فيها، أقول لك من تكون وإلى أيّ عصر تنتمي. وليست سيميولوجيا الفضاء المعيش سوى مقاربة في تفسير التّكيّف السّلوكي المتبادل بين الشخصيّة والمكان. وفي هذا السّياق ظهرت أساليب التّحديث الاستعماري النّاعم في بعض المدن المغاربيّة الكبرى منذ أواخر القرن التاسع عشر وطيلة النّصف الأوّل من القرن العشرين، عندما وقع البحث عن طرق توسعة مركز الثقل الاجتماعي خارج أسوار المدينة القديمة بالإفادة من الأسلوب الجديد (Art Nouveau) وفن الدّيكو (Art Déco) والأسلوب الحديث (Style Moderne). وسواء استفادت هذه الإنشاءات من سيميولوجيّة العلامة المعماريّة بالمدن الأصليّة، فوظفت بعض القباب والمآذن والأقواس والأرابسك، أو كانت فرضًا لنمط جديد في العيش... فقد كان من دور الأمكنة الجديدة أن تفضي إلى نتائج ملحوظة في التّكيّف المتبادل بين الوافد والمحلّي تسهيلًا لعمليّات الاحتلال والتّوطين والإسكان.

وعلى مستوى اللّوحة الفنيّة العربيّة، إثر الاستقلال وعند بناء الدّولة الوطنيّة، وقع الرّجوع إلى مجد المدينة العربيّة، ولكن ضمن حنين جماليّ ينتعش في رؤية ماضويّة. فقد تعسّف الفنّان على الفضاء عندما اتّجه إلى تحقيق المعادلة المأمولة بين الفضاء (الذهني) والمكان (التاريخي) في المشهد السّردي البصري، على وجه الخصوص. لقد وقعت مقاومة الفضاء، ممارسة وتأويلا، بقدر مقاومة الرّسامين والمصوّرين لنزوع اللّغة التّشكيليّة (مسار تكوّن العلامة التّصويريّة) نحو الاستقلاليّة لفرض كلاكل العلامة السّرديّة (مسار تأكيد العلامة الأيقونيّة والمرجعيّة). وهو ما فسح المجال لنوع من القراءات المكانيّة التي قدّمها بعض الكتّاب وخاصّة المستشرقين مثل ريكاردو أفريني حول نجيب بالخوجة أو بول غيبار حول علي بن سالم. ومثل هذه المتون تُرجع عبقريّة الفضاء التّصويري إلى عبقريّة المكان و"سحر الأمكنة" بين ربوع المدينة (باب الجديد لدى بالخوجة، سيدي بوسعيد والحمّامات لدي بن سالم، تونس، غرداية، باب الدّيوان بصفاقس لدى السّهيلي)... إنّها لا ترى في الطّوباويّ إلاّ ما يعيد الفكر إلى موضوعه المتعيّن في المكان.

"حفل زفاف يهودي في المغرب" لدولاكروا 



وهكذا، تحتَ وطأة القراءات الآليّة والاستشراقيّة الفجّة، يتّجه الفضاء إلى الانتفاء في ذاكرة المكان المديني كملاذ أخير له. إذ لدى عديد الجماعات الفنيّة، ليس للفضاء من قيمة سوى أنّه يحيل على ما هو خارج اللّوحة، ذاكرة المدينة، شعريّة الأمكنة وحنينها، كمرجعيّة قصوى. وفي ظل هذا الوضع، يقع ارتهان الفضاء التّصويري بسلطة النّموذج الذوقي الذي يرى في السّرديّة الماضويّة جوهره الأوحد، فيما باتت اللّوحة الفنيّة إحياءً للذاكرة الجمعيّة، ذاكرة الطفولة والذاكرة الفطريّة... وعودة بالمدرك إلى القرار المكين، الرّحم التّاريخي. ومن خلال نافذة اللّوحة، يعود أبناء المدينة من جديد إلى "سحر الأمكنة" إشباعا لحنين إلى الماضي السّعيد (الحلفاوين، سيدي محرز، سيدي بوسعيد، باب سويقة، باب الدّيوان، باب الجديد...) إنّهم لا يرون اللّوحة لوحة بل يتحسّسون فيها عبق الأمكنة ويتحسّرون لبعد المسافة التي فصلتهم عنها في الزّمان والمكان... وقد يلعبون من خلالها دور السّائح المتلهّف وراء العجيب والغريب.

إذا كان الفضاء في الهندسة مذهِّنًا، مجرِّدًا، من طبيعة أكسيوميّة، فهو في الفنّ مدرَكًا ماديًّا من طبيعة إنشائيّة حيّة. كما أنّ كلّ الصّيغ التّعبيريّة التي يصطبغ بها المكان في اللّوحة الفنيّة ناتجة عن علاقته بالفضاء. فهو بالفضاء يرتجّ وينبض ويتألّم. إنّه يتأنسن داخل اللّوحة. فمثلما أنّه يفضي إلى مجال الذات، في الإدراك، فهو يمثّل طريقًا إلى المكان/ الحيّز... ولقد ارتبط المكان المديني بأبعاد قدسيّة وعقائديّة ونفسيّة ووطنيّة تطرح إشكاليّة الانتماء إلى الأرض، الوطن، المدينة، وله بعد حضاريّ، يتّسع ويضيق بحسب الآفاق التأويليّة التي يهديها لنا المكان وقد استحال إلى فضاء تصويريّ متخيّل منتجًا للهُوام قائمًا على الافتراض والإنشاء الحرّ. ولئن أفضى "الفضاء"، بما هو لازمة إدراكيّة لنا، إلى "المكان" بما هو تجسيد، وأفضى المكان إلى "فضاء تصويريّ إيهاميّ طوباوي"... كيف لهذا "الوهم" الطّوباويّ الجميل أن يشكّل عالمًا نسكنه؟ كيف له أن يحتضن ويشكّل "عمران الخليقة" بلغة ابن خلدون؟ كيف للطّوباويّ أن يؤسّس رؤيتنا للمكان المنشود ويسهم في إبداعيّة العالم وبناء مستقبلنا في المكان التّاريخي؟

هكذا يتأسّس موضوع المدينة في الفنّ على التّوترات الإشكاليّة ما بين تصوّرات الفضاء والمكان، حيث يعيش الفنّانون بينها أزمة تجاذب (Tiraillement) فهم أوّلًا، إمّا أن يكونوا حرّاسًا للمدينة/ المكان، كما في المعنى العسكري للكلمة (Lieu-Tenant)، فيما المدينة قوّة جاذبة (الفنان ممدوح قشلان، على سبيل المثال)، وإمّا أن يكونوا، ثانيًا، صانعين لصّورة المدينة تشكيليّا، حيث الفضاء مستطاع طوباويّ خارج ممكنات المكان (Ou-topos) وحيث المدينة قوّة مُولّدة لإحساسيّة الصّورة وللمعنى (الفنان محمود السهيلي). وإمّا أن يكونوا، ثالثًا، مخترعين لماهيّة المدينة من داخل المسار الإبداعي، وهي حالة المدينة بوصفها قوّة دافعة (الفنانان محمد المليحي ونجيب بالخوجة)، إذ أنّ من قوّة أيّ تراث عظيم أن يدفعك إلى تجاوزه دون نسيانه ويحثك على مواصلة نسغ الحياة فيه واستعادة لحظة إنشائه لمواصلة مساره إبداعيّا في الزّمن الإنشائيّ الحيّ... وفي هذه اللّحظة، إنّما يصبح إنشاء الفضاء الطّوباوي ضربا من ضروب الوجود على الأرض! وطريقة في الحياة.

على أنّ المدينة، بقدر ما هي قدرة استيعابيّة للإبداعيّة، بقدر ما هي أيضًا رحم ملائم لتشكيل الرّؤى الفنيّة وإعادة إنشاء صورتها إبداعيًّا على نحو متجدّد وفق ممكنات اللّغة التشكيليّة. وفي هذا الأفق الثالث، تكون المدينة قوّة دافعة إلى إعادة عمليّة اختراعها تشكيليّا ضمن فكر تشكيليّ صرف. فهي تقبل التّعدّد من جهة أننا نتحدّث عن مدينة نجيب بالخوجة، من تونس، أو عن مدينة محمد المليحي، من المغرب، مدينتي ومدينتك أنت بالذات. فقد عمل بالخوجة على اكتشاف المدينة من جديد من داخل مباحثته للعلامات التشكيليّة واختراعه لممكنات تجاورها وتراكبها وعلاقات القوّة بينها (Rapports de Force) وهو القائل سنة 2001 "أنا لا أرسم مدينة عربيّة، أنا أرسم لوحات زيتيّة". إنّه إنشاء مستمرّ للمدينة داخل مفهوم الاستقلاليّة الجماليّة للوحة  (Autonomie) من جهة، وتحويل قيم الوحدة والتّناسج والتّآلف (بنية العقل القيميّ...) إلى مفاعلات تشكيليّة ومقوّمات لبناء الفضاء الفنّي ومن ذلك نذكر كلاّ من الإيقاع والحركة والتّأليف، من جهة أخرى. إن الفضاء في هذا الأفق ليس ستاتيكيًّا بل هو متحرّك وذو متّجه يفضي إلى ما تنزع إليه الأشكال في العمليّة الإدراكيّة.

وفي هذا المستوى المتقدّم، يكون الفضاء وحدة متماسكة، إذ "الوجود غير خاضع للتّـشـتّت" بتعبير باشلار في جماليّات المكان. كأنّنا باللّوحة لم تعد تستعرض غير قصّة تكوّنها التشكيلي وما تكابده الأنا المبدعة وهي تنسج كيانها الإنسانيّ في الفضاء الفنّي خطًا خطًا، لمسة لمسة، باتجاه أن تكون اللّوحة انكشافًا متدرّجًا لأنطولوجيّة الذات ما بين الخطوط واللّمسات وترحالًا داخل المناطق المهجورة في قاع الرّؤية على نحو آخر. إذ الذات تنكشف وتنمو بين ما ترسم، كما تسكن داخل ما تبني. والفعل مستمرّ...

بنيونس عميروش 



بنيونس عميروش (ناقد وتشكيلي مغربي):

الاستشراق الذي كشف عن سحر البلدان المشرقية

بطبيعة الحال، كلما انحدر زمن إنجاز اللوحات الفنية التمثيلية في التاريخ، كلما اتسمت بحمولة توثيقية، تعكس التجمعات الشعبية (Scènes de genre) والحياة اليومية وطريقة اللباس ومظاهر الاحتفالات والمشاهد المعمارية في الحواضر العربية، وهي المَشْهَدِيَّة التي طالما طبعت أعمال الفنانين المستشرقين الذين قدموا من أوروبا بخاصة، إلى البلدان العربية في سياقات مختلفة قبل انتشار الفوتوغرافيا.

منذ المنتصف الأول من القرن التاسع عشر، مع أوجين دولاكروا Eugène Delacroix (1798-1863)، ظل المغرب الفضاء المدهش الذي يستدعي التنقيب والاستكناه من لدن الفنانين الأوروبيين التواقين لملامسة الاستشراق الذي كشف عن سحر البلدان المشرقية من ذي قبل، كما عند دينون Dominique Vivant Denon (1825-1747)  الذي رافق الحملة الفرنسية على مصر عام 1798، وكما عند غرو Jean Antoine Gros (1771-1835) الذي يعتبر من مؤسسي الاستشراق في فرنسا.

كان ساحل طنجة على موعد مع قدوم دولاكروا في 24 كانون الثاني/ يناير 1832 ضمن البعثة الفرنسية ذات الطابعين العسكري والدبلوماسي. بعد يوم واحد من وصوله إلى طنجة في 25 يناير 1832، كتب رسالة إلى بييري J.B.Pierret  يتحدث فيها عن انطباعاته وهو يجوب المدينة: "في هذه اللحظة، تجدني مثل الرجل الذي يشاهد الأشياء التي يخشى أن يراها تفلت منه". فيما ظلت الشخوص تمثل لديه اللغز البصري المُمتع من خلال اللباس الذي وصفه في سياقات مختلفة: "قبل كل شيء، كنت مندهشا من لباسهم البَسيط للغاية، وفي نفس الوقت، من التنوع الذي يعرفون منحه لترتيب القِطع التي يتألف منها"، مضيفًا أن "الرّداء منسَّق جدًا، وبسيط جدًا، غير أن بِطريقته المختلفة في التوضيب، فإنه يتّخذ خاصِّيَتَي الجمال والنبل اللَّذَيْن يُناسِبانه"، مِمّا يجعل "الجمال يجتمع في كل ما يفعلون". والشخوص ذاتها لا يمكن أن تُثير دلالاتها كاملة إلا من داخل فضاءاتها التي تؤثث المدينة بديكوراتها المعمارية التي لم يسلم من وقعها، إذ يرى أن "بمقدور المرء صنع لوحات في كل ركن من أركان الزُّقاق".

خَلّف دولاكروا العديد من الأعمال ذات الأبعاد التوثيقية الهامة التي تعكس حركة الناس الفطرية وتجمعاتهم في الأسواق، وأشكال مبانيهم الإسلامية، بينما رصد إيقاع الخيول وفرسانها، كما وثَّق موكب السلطان والحرس وصور الحريم والعبيد وبذخ القصور في مكناس (1932)، لينهي رحلته بزيارة وهران ثم الجزائر العاصمة في أواخر حزيران/ يونيو 1832.

فيصل لعيبي صاحي 



فيصل لعيبي صاحي (فنان تشكيلي عراقي مقيم في لندن):

محاورة البيوت القديمة واستنطاق جدرانها

كانت المدن مادة دسمة لعشرات المئات من الفنانين على مرّ التاريخ، وقد حظيت مدننا العربية باهتمام فائق من فناني أوروبا خاصة وبقية فناني العالم عمومًا وذلك بسبب تاريخها وحضاراتها المتنوعة والمتتالية لآلاف السنين، كما كان تاريخها الروحي والعلمي والتجاري قد اختصر تاريخ العالم تقريبًا. وقد حاول فنانو بلادنا العربية السير على منوال فناني أوروبا والعالم في تقصي ملامح مدننا الجميلة والتاريخية.

الملاحظ أن معظم فناني العالم كانوا يرسمون الأماكن القديمة بشكل خاص والتي لها علاقة بأحداث مهمة من تاريخ البشرية، مثل روما، بابل، مصر القديمة وقرطاج وآثار الحضارات عمومًا.

كانت فكرة رسم المدن أو الأماكن الأكثر شهرة منها دافعًا مهمًا للفنانين، خاصة وأن هذه الأماكن من خلال اللوحات التي صورتها تكشف عن تحولاتها من فترة زمنية الى أخرى وتحظى باهتمام العلماء والمؤرخين وتثير دهشة الزوار وتدخل في علاقة واضحة مع موضوع السياحة. فيقبل الزوار والمهتمون المتمكنون ماديًا للحصول على صور لها مهما كلفهم ذلك ولغرض الذكرى.

لقد رسمت العديد من المدن، وأنا عادة وفي كل زيارة لمدينة أضع في بالي ضرورة تسجيل بعض ملامحها من خلال الرسم، ولدي مئات التخطيطات لمدن مختلفة كنت قد عشت فيها أو زرتها وتمتعت بأجوائها وتعرفت على خصائصها.

قسنطينة والمدينة العتيقة بعنابة لفيصل لعيبي صاحي



كانت مدينتا البصرة وبغداد أولى المدن التي سجلت انطباعاتي عنهما، ولدي العديد من الرسوم لهما. كما أقمت معرضين في الجزائر عن مدينتين عريقتين من مدنها هما مدينتا عنابة وقسنطينة ولدي رسومات أولية لقصبة الجزائر العاصمة لم أتمكن من تنفيذها كلوحات للعرض حتى الآن مع الأسف.

في رسومي عن المدن كنت اختار المدن العتيقة وحتى المناطق المهدمة، لأني أعتقد أن في تلك الأماكن نوعًا من الحياة التي لا يدركها إلا من تمعن في دروبها وبيوتها وجدرانها وأبوابها وشبابيكها الآيلة للسقوط. فهي تحكي حكايات الناس الذين عاشوا فيها وتنعموا بدفئها وجمالها وتشربوا روحها الخفية.

في مدينة عنابة الساحلية الجميلة خصصت معرضا لملامح المدينة العتيقة Place d`armes، التي كانت يوما ما مركز المدينة وقلبها النابض. حيث الأفراح والمسرات وبيوت اللهو الطرب والفنون المختلفة وفيها مركزها التجاري وحاميتها العسكرية، وضمت بين جوانحها قصص العشاق وأسرار المحبين ولوعات المتيمين وأحزانهم الدفينة. كل هذا حاولت أن اظهره في ذلك المعرض والذي أثار إعجاب زواره، لأنه أول معرض في تاريخ مدينة عنابة يخصص للمدينة العتيقة فيها. ومن الجدير بالذكر أن تاريخ ولاية عنابة يرجع إلى العهد النوميدي والفينيقي والروماني، ناهيك عن الفترة الإسلامية. وتضم جثمان القديس أوغسطين الشخصية الأكثر شهرة في تاريخ المسيحية.

أما المعرض الثاني فقد كان عن المدينة العتيقة في ولاية قسنطينة ذات التاريخ المجيد والتي كانت عاصمة النوميديين وملكها الأشهر (ماسينيسا). فسجلت ملامحها التي تكشف عن أيامها الندية وخاصة الفترة العثمانية وطرز البناء الجميلة التي تتخللها. إذ تشعر بصدى المألوف القسنطيني العذب وأناشيد المطربين الذين ملأوا الساحات، إلى جانب الزوايا الصوفية ومراكز العلم والتدين الصادق، حيث يتصدر بن باديس موقعه الأبرز بين رجالاتها العظام.

كانت فكرة تسجيل ذلك التراث الزاهي والمجيد تدفعني إلى محاورة جدران تلك البيوت واستنطاق سكانها الذين ذهبوا وتركوا لنا حسرة الحاضر القاسي ولواعجه الحزينة وأرجو أن أكون قد وُفِقْتُ في ذلك.

محمد دميس 



محمد دميس (تشكيلي جزائري):

للفن التشكيلي أهمية في توثيق العمران والحياة

معروف أن التوثيق والتخطيط عنصران أساسيان في تاريخ الحضارات ولهما أهمية كبيرة في الحفاظ على الأعمال الفنية سواء كانت استشراقية أو محلية كاللوحات الزيتية والمنحوتات. والفن الحضري هو أسلوب فني متعلق بالمدن وحياة المدينة التي غالبًا ما يقوم بها الفنانون الذين يعيشون أو لديهم شغف بحياة المدينة على الرغم من أنه على مستوى الحي أصبح شكلًا فنيًا دوليًا وله أهمية في الفن التشكيلي وذلك عن طريق عملية تنشيط المساحات الحضرية على وظيفتها المحتملة.

وهذا الأمر متروك للفنانين التشكيليين (رسام أو نحات) حيث كل واحد منهم يحمل رؤية نوعية لهذا الفضاء لتنظيم مساحات متعددة الأبعاد للحياة الحضرية. إنه حوار مع التخصصات الأخرى مثل الهندسة المعمارية والتخطيط العمراني لأن الفضاء المعماري عرضة للتغيير ومرتبط بالحياة المعاصرة. ولطالما كان الفن التشكيلي عبر التاريخ نوعًا من المرآة الجمالية والاجتماعية وتعريف بهوية المدينة وتقييم تراثها الثقافي ويعبّر عن حقيقة التطور الإنساني ويساهم في الرقي بتذكير الناس وإلا فلا معنى لحياة إنسان بعيدًا عن سحر الفن وروعته؛ "الفن مقامات روحية ومتعة للعين واختلاف في الأشكال والألوان".

على الرغم من أن الفن الحضري في المدن العربية يتيح فرصة للأشخاص الذين لم يسبق لهم زيارة متاحف الفنون الجميلة أو أروقة المعارض، إلا أنه يوجد تقصير في ما يخص توثيق المعلومات: غياب المحفوظات (أرشيف) والمجلات المتخصصة في الفن الحضري مثل الجداريات والتركيبات الفنية والنقوش البارزة والمنحوتات، مع العلم بأن التوثيق يساعد على تحسين التعاون ويعزز تبدل الأفكار والإبداع والمعرفة. وفي الأخير تبقى المدن العربية مصدر إلهام مهم للفنانين التشكيليين.