Print
عبد الكريم قادري

جان لوك غودار.. روح "الموجة الجديدة" وأحد أعمدة السينما

15 سبتمبر 2022
سينما

 

رحل المخرج الفرنسي/ السويسري جان لوك غودار Jean-Luc Godard (1930-2022) عن عمر يناهز (91 عامًا)، بعد أن عاش حياة عريضة أنفق معظمها على تأثيث عوالم السينما بأساليب جديدة ومبتكرة لإحداث قطيعة مع الماضي، وهذا ما فعله انطلاقًا من حركة "الموجة الجديدة" التي أسّسها رفقة مجموعة من أصدقائه الذين تقاسم معهم نفس الحلم والرؤيا. وعندما نتحدث عن هذا المبدع الكبير لا بد من أن نُعرّج أولا على أهم حركة سينمائية في العالم، وهي "الموجة الجديدة La Nouvelle Vague" التي كان أحد أعمدتها، بعد أن تشبع بأفكارها، وأهدافها، وطريقة صناعتها للسينما، ووجد بأنها تتناسب معه إلى حد بعيد، وتحاكي متطلباته الفنية والتقنية، وقد جاءت هذه الموجة التي لا يمكن أن نفصلها عن الأوضاع السياسية والاقتصادية والثقافية والمجتمعية للبلاد، كنتيجة أساسية ومُحاكاة مباشرة لنفسية وطموحات الشاب الفرنسي، الذي ضاق ذرعًا بالموروث والتقليد الذي لم يعد يلبي حاجياته، لهذا بات يبحث عن كل جديد، يُحرره من الماضي دون أن يتخلى عنه، ويرسم طريقا للمستقبل، وقد انعكس هذا الطموح على مجموعة من الشباب الذين يعشقون السينما وعوالمها، لكنهم لا يَجيدون الدعم لصناعة أفلامهم وإبراز مواهبهم، بحكم الأوضاع الاقتصادية المتردية، وهيمنة السينما الكلاسيكية على الساحة، وما تقوم به الأخيرة من ضخ أغلفة مالية ضخمة لصنع أفلامها، وهذا ما لا يساعد على تطوير السينما والدفع بها إلى الأمام، وعلى ضوء هذه المعطيات تلقّف السينمائيون الشباب تعبير "الموجة الجديدة" وأطلقوه على حركتهم الثورية، التي يدعون من خلالها إلى ضرورة كسر العادات السينمائية التقليدية.

جاء الوعي والشغف الكبيرين بالسينما عن طريق الاستعداد النفسي والإيمان بالموهبة، ناهيك عن ظهور المجلات السينمائية، التي انطلقت في تخصيص مساحات وصفحات لمناقشة الأفلام التي تنجز وتعرض النظريات السينمائية بعد الحرب العالمة الأولى، من بينها مجلات الشاشة الفرنسية (L’Ecran Francai) والمطالعة السينمائية (Revue du Cinema)، لتنتقل الحماسة بعدها إلى تأسيس النوادي السينمائية، أكبرها وأشهرها نادي (السينماتيك الفرنسي Cinematheque Française) الذي تأسس سنة 1948، حيث تحول هذا النادي إلى قبلة لعرض مختلف الأفلام، التي تُجري عليها مناقشات عدة، من طرف روادها، بالإضافة إلى التعليمية والتكوين اللذين كانت تقدمهما لكل محبي صنّاع السينما.





انطلاقًا من هذه الفضاءات تعلم جان لوك غودار السينما، وشرب تقنياتها، وترك من أجلها التدريس في "السوربون"، رفقة صديق عمره المخرج والمنظّر (فرانسوا تريفو Francois Truffaut)، وفي سنة 1951 تأسست المجلة العريقة كراسات السينما (Cahiers du Cinema)، والتي ضمت العديد من الأقلام المهمة، من بينهم (أندريه بازين Andre Bazin) الذي يعد الأب الروحي للموجة الجديدة، (جاك ريفيت Jacques Rivette)، و(إريك رومير Eric Rohmer)، وغيرهم.

وهكذا فإن شباب الموجة الجديدة أثبتوا قدراتهم الكبيرة في مجال صناعة السينما، بعد أن جسدوا رؤاهم النقدية التي ألهبوا بها صفحات كراسات السينما، ونجحوا في هذا المسعى بعد سلسلة النجاحات الكبيرة التي بدأها تريفو، كما أخرسوا بعض الأصوات التي كانت تقول بأن أطروحاتهم مجرد أوهام لا يمكنها أن تتجسد ميدانيٍا، وأنها مجرد حماسة شباب، وقطار السينما سيسير رغم تشويشهم عليه، لكن سرعان ما أسكتوا تلك الأصوات نهائيا، وأقنعوهم بأن حركة الموجة الجديدة تحمل أفكارًا حقيقية يجب الرجوع لها، إذ أنها باتت منطقية جدًا.

رجل مواقف

الحركات والمدارس السينمائية مترابطة إلى حد كبيرة، ولا يمكن الحديث عن واحدة دون الإشارة إلى الأخرى، وقد حدث هذا من خلال إشارة المخرج الإيطالي الكبير بيير باولو بازوليني، من خلال بحثه الشهير حول "سينما الشعر"، لتجربة جان لوك غوادر، بكثير من الإسهاب، ولم يشر لأي عمل من أفلامه، كما فعل مع أنطونيوني وبيرتولوتشي مثلًا، كأنه تحريض خفي منه لدراسة جميع أعماله، وتتبعها بشكل موسع، لإبراز مسببات تكوين وظهور هذه القامة السينمائية المُؤثرة.

كانت ولادة جان لوك السينمائية متزامنة مع نجاحات فيلم صديقه تريفو "400 ضربة"، وهي السنة التي شهدت الولادة السينمائية الفعلية له، بعد سنوات من التمثيل وإخراج الأفلام القصيرة والوثائقية والكتابات النقدية.

في السنة التي تحصل فيها تريفو على جائزة أحسن مخرج بمهرجان "كان" السينمائي سنة 1959، قابل هناك أحد المنتجين، حيث قدّم له صديقه غودار، هذا الأخير اقترح على المنتج العديد من المواضيع التي تصلح كمشاريع لأفلام، ومن بينها فكرة صديقه تريفو التي استوحاها من إحدى الجرائد، تردد المنتج في بادئ الأمر فلم يكن يريد المجازفة معه لأنه لم يكن معروفًا، لذا وضع العديد من الشروط من أجل الدخول في هذه المغامرة، من بينها مشاركة بعض الأفراد من الموجة الجديدة الذين لديهم تجارب في صناعة السينما ومعروفون نسبيًا، من بينهم كلود شابرول  Claude Chabrol كمستشار فني، أما تريفو فهو من كتب النص، ليخرج أول عمل روائي لغودار بعنوان "على آخر نفس" À Bout de Souffle سنة 1960.

لقطة من فيلم "على آخر نفس"



يحكي فيلم "على آخر نفس" وفي ترجمة أخرى "اللاهث"، قصة في غاية البساطة، لكنها معقدة ومُتشابكة، بطلها شاب يحاول التحرر من القيود الاجتماعية التي لجمت طموحه وحركاته نحو التحرر، حيث يتعرف على فتاة أميركية لديها نفس هذه الهواجس الداخلية، وتعيش تقريبًا بنفس الأسلوب، ومن هنا نشأت بينهما هذه العلاقة التي يصعب تفسيرها، لتدور الأحداث على هذه الشاكلة، حيث تحس بأن الفيلم لا يحمل أي رسالة اجتماعية أو أخلاقية يمكن من خلالها فهم رسالة المخرج الذي يبدو أنه لا يريد أن يكون واعظًا أو حكيمًا، بل ترك حبال القصة تسير من غير هدى، لعلمه بأنها في يده، كما أنه لا يمكن أن تعثر على أي عمق يعكس الشخصيتين، حتى أنه في نهاية الفيلم تقوم الشابة بخيانته، دون أن يلتزم غودار بوصفه مخرجًا أو تريفو ككاتب للنص أن يقدما تفسيرًا لهذا النفور وسببًا لهذه الخيانة، لهذا كان هذا الفيلم بمثابة بطاقة صفراء في وجه السينما الكلاسيكية، خاصة وأنه عمل على نقل رؤى "الموجة الجديدة"، وإثبات آخر على قوتها، واستعدادها الكامل لخوض تجارب جديدة وصناعة ثورية في الفن السابع، بمقاييس تقنية وجمالية جديدة، وهي التي نقلها "على آخر نفس"، بكل مكوناته من ناحية الشكل والمونتاج، لكسر أفق التوقع المنتظر، ولتعويد المتلقي/ الجمهور على أسلوب جديد في السينما، يرضي جميع أطراف المعادلة، من خلال عمليات البحث عن الباطن، وملامسة المميز العميق، ولن يكون هذا سهلًا، لكن في المقابل لن يكون مستحيلًا، خاصة وأن أصعب ما في العملية قد حدث، وهي البداية التي يلامس بها الواقع، بعد أن ترك القوقعة وتخلى عن لفظة "لو"، إنها السينما في أجمل صورها، وفيلم "على آخر نفس" هو انتصار للفكرة على التقنية، والتجديد على التعود، بالنسبة لغودار إنها صناعة المستقبل بكل ما تحمل الكلمة، بل عملية استباقية له، قبل أن يلفظهم الحاضر.

قضية الثورة الجزائرية سينمائيًا

جاء فيلم غودار الثاني "الجندي الصغير" Le Petit Soldat في محاولة منه لكسر جدار الصمت، خاصة وأنه من معتنقي الفكر الحر، وعكسته قصة الفيلم، الذي لم يسلم من الرقابة، حيث تم منع عرضه لمدة ثلاث سنوات، وتعرض من خلاله المخرج إلى انتقادات كبيرة من جميع الأوساط تقريبًا، حتى اليسارية، إذ يتناول الفيلم الأحداث في أثناء اندلاع الثورة الجزائرية سنة 1954، ويروي قصة تمرد جندي فرنسي وذهابه إلى سويسرا، وهناك التقت به مجموعة تنتمي إلى اليمين المتطرف، وكلفته باغتيال صحافي سويسري متعاطف مع الثورة الجزائرية، مع العلم أن الفيلم لم ينتصر إلى أي جهة كانت، بل صور الأوضاع كما هي، أوضاع يعكسها تشوش الجندي المتمرد برونو، الذي فر من أزيز الرصاص ودوي القنابل إلى فضاءات سويسرا، لكنه وقع هناك بين فكي المخابرات الفرنسية واليمين المتطرف، ورجال جبهة التحرير الوطني، ليقع هو الآخر في حيرة من أمره، بعد أن كُلف بقتل باليغودا، المتعاطف مع القضية الجزائرية، لكنه في المقابل يحدث أمر يغير مجرى أحداث الخوف والرعب السائد، وهذا حين يلتقي فيرونيكا وتقع بينهما علاقة حب، وهذه الأخيرة تعمل هي أيضًا لصالح جبهة التحرير الوطنية الجزائرية، التي تقبض على برونو بعد أن قرر السفر إلى البرازيل رفقة فيرونيكا، يتم تعذيبه من طرف الثوار، غير أنه يجد طريقًا للهرب، لكن هذه المرة يتشجع من أجل قتل باليغودا بعد أن عقد صفقة مع الفرنسيين لتسهيل سفره إلى البرازيل، لكن تتغير المُعادلة مرة أخرى، حيث يتم اكتشاف بأن فيرونيكا تعمل لصالح الجبهة، وهنا تقع هي الأخرى تحت طائلة التعذيب القاسي، لتلقى مصرعها تحت أيدي جلاديها.

نقل الفيلم مستويات عدة من التجديد، رغم أن النقاد وقتها لم يتفطنوا لجماليته من شدة ما لحق صاحبه غودار من هجومات شرسة من عدة أطراف، وصلت إلى حد وصول عشرات الرسائل التي تهدده بالقتل، ناهيك عن مطالبة السلطات وقتها بنزع الجنسية الفرنسية عنه، لكن من جهة أخرى نقل فيلم "الجندي الصغير" فكره الفلسفي، ويساريته الطافحة، مع ذكر أنه الفيلم الروائي الثاني، إذ لا تزال شعلة كسر البُنى الموروثة تتقد فيه، وخطوط النص وخاصيتها الكلاسيكية قناعة يجب تخطيها.




تجربة أخرى لتكريس الرؤى

يعتبر فيلم "عاشت حياتها" Vivre Sa Vie تجربة أخرى تشكل وعي غودار التطبيقي في مجال صناعة الأفلام، خاصة وأنه الفيلم الروائي الطويل الرابع، بعد "على آخر نفس" و"الجندي الصغير" و"المرأة هي المرأة"، وقد وضع غودار في هذا الفيلم كعادته دائمًا مستويات عدة من التجريب السينمائي والتجديد، خاصة على مستوى المونتاج الذي كان تقريبًا غائبًا في الفيلم، بعد أن تم الاعتماد على أسلوب الفصول في المسرح، ناهيك عن أنه كسر مرة أخرى الخط الدرامي المعروف، هذا من الناحية التقنية، أما من الناحية الفلسفية فقد جاء النص مشبعا بالأسئلة الوجودية التي كان ينادي بها جون بول سارتر، بعد أن صور شوارع باريس على حقيقتها، الشوارع التي تتُاجر في الجسد النسوي وتنهشه. النص كان غنيًا بالأحداث والأفكار التي كانت تنادي بها فرنسا، وقد امتلك فيلم "عاشت حياتها" مقدرة حقيقية على تجسيد المفاهيم الفلسفية عن طريق الصورة والمواقف، ليكون مرآة حقيقية لمخرجه، كل هذه المفاهيم عكستها المومس "نانا" الشخصية الرئيسية في العمل، في مغامراتها ورحلاتها، بداية من المتجر الذي كانت تعمل فيه، وحلم حياتها يحفر في أعماقها من أجل أن تصبح ممثلة، ليحيد هذا الحلم أو يجبرها على المشي على طرق الشوك، وتواصل مغامرتها الحياتية، من عملها كبائعة، إلى عملها كمومس، تبيع جسدها لكل من يدفع، وهنا اكتسبت رؤيتها، بعد أن عايشت وخبرت مختلف المواقف الإنسانية، عن طريق عوالم بيع الجسد والمتاجرة فيه، الذي دخلت فيه مكرهة ومرغمة لإرضاء الماضي والحاضر، الماضي وتوابع الحلم، والحاضر وتوابع العيش. إنه فيلم يُعري المجتمع ويفضحه، من خلال تسليط الضوء على هذه المومس، التي تم وضعها في الدائرة الفرويدية،  لتقديم فهم أفضل للتصرفات وتبريرها نفسيًا، وقد اتبع غودار هذه الثورية التجديدية على مستوى التقنية ما أدى إلى بروز نوع من التعالي المبرر، وفهم سوسيولوجي للنفس البشرية، وقد أحسن الكاتب محمد الغريب، في مقاله "فلسفة السينما بين غودار وبريسون وبيرتولوتشي"، وصف هذه العملية بقوله: "المونتاج جاف وعنيف وحاد بشكل مذهل، وبالمثل الحوار والتصوير وكل شيء، خشن وجاف، وهذا لا يعني أن الفيلم ليس مبهرًا أو جميلًا، ولكن هذه الخشونة، ليست إلا تجسيدًا لفلسفة غودار في انهيار الوجودية الفرنسية والمجتمع الفرنسي بشكل تدريجي وجذري وعنيف إلى أبعد حد".

ومن هنا يبرز هذا المخرج تميزه على مستوى التجديد، ويثبت أن طريقة العمل التي تدعو لها "الموجة الجديدة" هي في مجملها ثورة على كل شيء، عن طريق الفلسفة والأفكار التي كان يصعب تجسيدها سينمائيًا، ومما لا شك فيه أنه رغم الإمكانيات البسيطة التي استخدمها الفيلم، إلا أنه استطاع مراوغة الواقع لصالحه، ونسج علاقة تشاركية معه، قام من خلالها بخلق نص عميق وجوهري.

يقول بيتر والين واصفًا غودار بأنه "أكثر من أي مخرج آخر أدرك الإمكانيات الرائعة للسينما بوصفها وسطًا للاتصال والتعبير. على يديه أصبحت السينما مزيجًا متساويًا تقريبًا للرمزي والأيقوني والدلالي. أفلامه تمتلك المعنى المفاهيمي، الجمال التصويري، والحقيقة الوثائقية. بالتالي لم يكن مفاجئًا انتشار تأثيره بين المخرجين عبر العالم".

كل أفلام غودار تقريبًا جاءت مثيرة للجدل والنقاش على مستوى العالم، خصوصًا وأنه كل مرة يُفاجئ المتلقي/ المشاهد وحتى المنظرين والباحثين في السينما بطريقة عمله، من ناحية الأسلوب أو المواضيع التي يطرحها، ففي فيلم "بيير المجنون" Pierrot le fou 1964، تنقل شخصية فردينال غريفون التشتت الفكري والنفسي لدى الفرد والمجتمع، حيث يقرر البحث عن السعادة والحلم، ويُطالب بحق العيش في هذه الحياة، العيش وما يتطلبه من آليات لتحقيق هذه الغاية. فبعد أن يتم التخلي عنه في التلفزيون يقرر غريفون ترك أولاده والرحيل مع إحدى الفتيات اللاتي كانت تجمعه بها علاقة سابقة، وهي ماريان رينوار، في اتجاه الجنوب الفرنسي، وعلى الطريق تجري الكثير من الأحداث، كل واحد منها يروي قصة منفصلة، ويحمل رسالة إلى العالم، يتم التورط في قضايا عدة، من بينها السرقة وتهريب الأسلحة، كما يدين الفيلم بشكل مباشر في أحد هذه المشاهد الذي نقله بطل الفيلم مع شريكته ماريان حادث سرقة سياح من الولايات المتحدة الأميركية، حيث تتم السخرية من احتلال هذه الأخيرة لفيتنام، ويواصل الفيلم نقل هذه المشاهد التي تسخر وتدين كل شيء،  الفن والسياسة والمجتمع والحياة، لتأتي نهاية الفيلم صادمة ومدهشة وغير متوقعة تمامًا، وهذا أثناء قتل فردينال غريفون صديقته ماريان التي شاركته المغامرة، مع أخيها المزعوم، ليلحق بها بعد أن يفجر نفسه بمادة الديناميت.

نقل غودار العديد من مواقفه السياسية، والفكرية، والجمالية، في أفلامه بطرائق مختلفة في كل مرة، ويصعب تحديد فيلم عن آخر، وهو نفس الأسلوب الذي حافظ عليه حتى في أفلامه الأخيرة، وكل واحد من تلك الأفلام أثار جملة من النقاشات العالمية، من بينها أيضًا فيلم "موسيقانا" Notre musique (2004)، الذي قسّمه إلى ثلاثة فصول، كل فصل يحمل عنوانًا خاصًا "الجحيم"، "الطهارة"، "الجنة"، نقل عن طريق كل فصل مآسي البشرية عبر العديد من العصور، نتيجة لاستعمالهم لغة الحروب، ولقد اعتمد في مجمله على الأرشيف الفوتوغرافي والفيلمي في هذا الأمر، من صور حية ومصورة عن طريق السينما، بالأبيض والأسود، وبالألوان، المهم أنّه استطاع نقل معاناة الإنسان جرّاء الحروب العصرية، ليكون الفيلم عبارة عن تحفة فنية جديدة على جميع المستويات، يعرض المسألة ويُدينها، يُبسط الموضوع ويُعّمقه، كان الفيلم بمثابة الرؤية المتشابكة التي تأتي في الحلم، نقلها للواقع بحرفية كبيرة، هي أفلام وأخرى نقل غودار من خلالها الجوهر الإنساني، وطرح فيها الأسئلة العميقة.

لقطة من فيلم "بيير المجنون"



عطاء مستمر

كما أثبت غودار في فيلمه "وداعًا للغة" Adieu au Langage (2014)، رغم تقدمه في السن (83 سنة) بأنه من دعاة التجديد في الأشكال السينمائية، وأن هذا الأمر قناعة راسخة في ذهنه رغم مرور أكثر من نصف قرن على طرحه لهذه الأفكار عن طريق "الموجة الجديدة"، ومن خلال كتاباته النقدية على صفحات كراسات السينما، أو تحقيقها ميدانيًا كمخرج، فقد استعمل في الفيلم تقنية "3 دي" المبهرة والساحرة، والتي تستعمل عادة خاصة من طرف هوليوود، من أجل إبهار المتلقي والسيطرة عليه، لكن غودار استعملها في فيلمه كي يخلق علاقة تشاركية، وهكذا جاء "وداعًا للغة" كي يُحاور المتلقي ويدفعه إلى التفكير في ما وصل إليه وما وصلت إليه البشرية، وهذا عن طريق قصة بسيطة فيها ثلاثة أبطال، كلب وشاب تجمعه علاقة غرامية مع امرأة متزوجة، فقد جاء الفيلم حزينا حسب تعبير الناقد السينمائي أمير العمري؛ "حزين لأنه يعلق بحزن على الحالة التي وصل إليها الإنسان في عالم اليوم، عجزه عن التواصل، ضيقه بالآخر، تبريره لانعزاله، وقوفه على هامش ما يحدث في البنية العليا في المجتمع أي على مستوى السلطة".

لكن كيف جاء كل هذا، هل فقدنا روحية التواصل العادي، أين اللغة، أين النقاش، أين الكلام، كيف نحل مشاكلنا، كيف نعيد ترتيب حياتنا وكوكبنا، كل هذه المواقف نقلتها الشخصيات المذكورة، بمساعدة المناظر والمشاهد المفتوحة والمعبرة، ذات الدلالات الرمزية، وكيف يمكن تفسير هذا التخاطب الذي يتم من خلاله التركيز على الحوارات السياسية وويلات الحروب، ألم يبق شيء يتم تناوله، أين الحديث عن الجمال والحب والحلم، تهشمت كلها في هذا العصر الذي تم من خلاله مزج الحقيقة بالخيال، لم يعد العالم كما عرفه وخبره غودار في سنواته السابقة، المناظر التي نقلها الفيلم ترمز إلى الحياة والمستقبل والأمل، وشكّل حضورها عملية مقارنة كبيرة، وهذا ما تعكسه رمزية الطبيعة في الفيلم.

وعليه فإنّنا نكتشف ككل مرة في أي عمل من أفلامه بأنه لا يكل ولا يمل من التجديد، سواء على مستوى التقنية أو الفكرة، وقد أعاد تثبيت الفكرة مرة أخرى في هذا العمل، الذي رآه البعض بأنه ربما يكون نبوءة من المخرج، نقل من خلالها رؤاه للعالم الجديد، الذي سايره بتقنيته الجديدة، مبرزًا العلاقة الجدلية بين أداة التواصل والتخاطب في السينما، علاقتها مع الصورة بشكل شامل، وقد لعب فيه تقريبًا على جميع مستويات الفيلم وآليات السينما، ومع تجديده المستمر فقد حاول أكثر من مرة خلق طرق توزيع جديدة، يكسر من خلالها احتكار الموزعين الكبار الذي يبحثون عن الربحية لا غير، والبحث لتخصيص أوقات معينة لعرض الأفلام، لعلمه بمدى انعكاسها لفهم المنتوج، بطريقة لا تجعل منه انفصامًا، بقدر ما يكون للأمر علاقة تشاركية بين الفيلم والمتلقي.

لا يمكن بحال من الأحوال تقديم فهم جيد لطريقة عمل غودار، وهذا من جميع النواحي، إذ إنه يجيد صنع المفاجأة دائمًا، بواسطة تلاعبه الجمالي بالكاميرا، التي يؤنسنها ويجعلها تفكر وتحس مثلها مثل الإنسان، والمهم في عملية غودار الفنية أنه استطاع أن يحدث ثورة حقيقية على مستوى السينما، وقد كان حسب تعبير لوي دي جانتي "أكثر المجددين تطرفًا في السينما المعاصرة، وإن مداه الطرازي رفيع واسع بشكل لا يصدق، ويشمل - وغالبًا ضمن نفس الفيلم- أساليب السينما التسجيلية، إضافة إلى أكثر مبالغات السينما الطليعية بذخًا"، ليرحل أخيرًا، تاركًا خلفه تراثًا سينمائيًا لا يمكن نسيانه أو تجاوزه مطلقًا، ولتبقى روحه دائمة التحليق فوق سماء السينما.