يقيم "متحف الفن المعاصر" في معهد العالم العربي في قلب باريس المعرض الاستعادي الأول من نوعه والخاص بالفنانة العالمية ذات الأصل الجزائري، فاطمة حداد، باسمها المعروف محليًا وعربيًا وفرنسيًا: "باية محي الدين". تظاهرة بانورامية مخضرمة تصل بين عامين. ابتدأ العرض في الثامن من تشرين الثاني/ نوفمبر 2022 مـ مستمرًا حتى السادس والعشرين من آذار/ مارس 2023 مـ.
هي إذًا من مواليد الجزائر عام 1931 مـ من أصول عربية - قبيلية. تعتبر شهرتها الواسعة وعبقريتها بمثابة الأيقونة الرمزية الوطنية، متجاوزة جميلة بوحيرد التي استمرت لعقود تحتكر تمثيل عذاباتها لتضحيات ثورة الاستقلال الجزائري. من هذه الدلائل تعددية اختيار رسومها في مجموعات الطوابع الوطنية، تعبيرًا عن تمثيلها للخصائص الثقافية الأولى.
تغطي شمولية المعرض بانورامية موروثها الفني الخصب ما بين معرضها الأول في مرسيليا عام 1946 مـ الذي كتب مقدمته الشاعر أندريه بروتون (مؤسس تيار السوريالية)، وحتى تاريخ وفاتها عام 1989 مـ.
تضافرت جهود المشرفين على مادة العرض، والأسماء التي بذلت جهودًا تقنية مخلصة لاستقطاب أغلب مراحل الفنانة، والسعي لاستعارتها مهما كانت الصعاب من المجموعات الخاصة والمتاحف المتفرقة بما فيه خاصة تفريغ مستودع "الأوترمير" التابع لمحفوظات "متحف إكس آن بروفانس" (مدينة سيزان) لأول مرة. تحالفت هذه الجهود ما بين رئيس المعهد ومديره ومديرة المتحف وفريقها ولعبت خبرة واتصالات ومعارف الكوميسير المختص بالفن العربي وهو اللبناني الفرنسي السيد كلود لومان، صاحب الجاليري الشهيرة في مونبارناس والذي كان قد منح مجمل مجموعته الخاصة من الفن العربي لمتحف المعهد.
عمل "حكاية 1، السيدة في منزلها الجميل"، 1947 وعمل "حكاية 8، الأسد - سلوك الأم"، 1947 (الأرشيف الوطني للأوترمير، إكس آن بروفانس) |
تعانق التظاهرة مثلًا أربعين رسمًا استهلالية منذ بداية نشاطها التشكيلي، تعرض لأول مرة بعد أن خرجت إلى النور من المتحف المذكور (في إكس آن بروفانس)، وسعت المجموعة المشرفة جهدها لأن تستأثر بالعرض للغالبية العظمى من دررها المشهورة، المنجزة بألوان الغواش على الورق وبموضوعاتها الروحانية المثيرة لألف ليلة وليلة جديدة تذكر "بجنة عدن" وذلك مع تحول عناصرها الفردوسية الحبورة خلال عقود إنتاجها المبدع: من جنائن أنثوية تسكنها أزواج الحوريات المختزلة بطريقة كرافيكية متميزة فريدة التخييل، ثم فواكه الجنة الموعودة بأنواعها، والطيور الصوفية كما تجمعت لدى فريد الدين العطار في تصاوير "منطق الطير" من أمثال الهدهد والطاووس وسواهما، ناهيك عن الحدائق الشطحية، تلامسها نسمات آلات الفيض الموسيقي الوتري الشرقي. نعثر هنا على أبرز خصائص تشكيلاتها وتكويناتها الأسطورية الشعبية وهي العلاقات اللونية النضرة التي تشع بالنور، ضمن باقة تصدح بغناء قدسي يلامس شغاف القلب.
لو تأملنا "مقدمة" كاتالوج المعرض (الحافل بالدراسات البالغة الأهمية)، لأثارنا وجهة نظر كاتبها السيّد جاك لانغ، رئيس المعهد، معتبرًا أن متابعته لعبقريته باية عريقة، منذ أن كان وزيرًا للثقافة في عهد الرئيس فرانسوا ميتران، وافتتح معرضها بحضورها، ما يؤكد أن ظاهرة باية كسيرة فنية وإنسانية ترسّخ تداخل الثقافة الجزائرية بالفرانكفونية، باعتبار أن العائلة الفرنسية التي تبنت باية منذ أن كانت في الرابعة عشرة من عمرها، يعود إليها وإلى أندريه بروتون فضل اكتشاف موهبتها البركانية، وتهيئة الشروط المناسبة لتفرغها للفن. مما سارع في شهرتها، والحديث عن تأثر بابلو بيكاسو بسيراميك فنانتنا عندما حلت ضيفة لسنوات في محترف فالوريز مجاورة لبيكاسو معروف. يعترف بيكاسو بعبقريتها وتأثير نحتها على آلية أعماله في تلك الفترة، تقود سيرتها العائلية والفنية بالنسبة إلى جاك لانغ إلى نتيجة واحدة: التوأمية الثقافية الفنية بين فرنسا والجزائر. شغلني هذا الرابط المنداح بين باية الجزائرية وباية الفرنسية خلال فترة إنجازي لعدد من الدراسات المقارنة حول أعمالها، ناهيك عن المشاركة في عدة مؤتمرات عن الفنون الشعبية، وعلاقتها بالفنون السابقة النخبوية مثل علاقة ما يدعى خطأ بالفن الساذج لباية بالفن النخبوي لمصور المنمنمات (رسوم المخطوطات) في القرن التاسع عشر المدعو المعلم "محمد الراسم". تم هذا الاكتشاف الرهيف بعد مضي ستين عامًا على استقلال الجزائر، ومعرض باية كان جزءًا من إحياء هذه الذاكرة النضالية المزدوجة في المتحف.
عمل "السيدة باللون الزهري"، 1967 (متحف معهد العالم العربي، فيليب ماير) وعمل "سيدة الطيور بالأزرق"، 1993 (متحف معهد العالم العربي، ألبرتو راسي) |
بإمكاننا أن نذهب برأي جاك لانغ أبعد من ذلك، هو ما أكدته شراكتي في أكثر من دراسة ومؤتمر وفق منهج "علم الجمال المقارن" وفق ما أسسه إتيان سوريو (وطبقه تلميذاه اللذان درست لديهما تسع سنوات)
1. لا يمكن عزل ظاهرة عبقرية باية والفن الشعبي وتفوقه عن الفن النخبوي الموروث في الزمان والمكان.
سنجد نفس المجتمع الفني لتيار الفن الشعبي في المغرب. يحفظ أرشيفي تفاصيل بالغة المعنى عن خصوبته واتصاله بالموروث التصويري الأندلسي. سنجد أيضًا خصوبة موازية أخرى في تونس. سأذهب أبعد من هذه النتيجة، لقد كتبت صراحة عبر الدراسة أن ما يدعى بالفترة التنويرية - النهضوية التي أسسها محمد علي، كانت قد هيأت لها حملة بونابرت، ليس فقط في استخدام مطابعه للترجمة من الفرنسية إلى العربية وبالعكس، بل وأن العالم شامبليون وفريقه كان قد توصل إلى تفكيك أحاجي الأبجدية الهيروغليفية كما هو معروف بتفاصيله البيكتوغرام. سنعثر على مثال ذي مغزى: المصور راغب عياد في مصر توصل منذ 1920 مـ إلى لوحة ثنائية الأبعاد تتحرك أشكالها من اليمين إلى اليسار وبالعكس مثل سردية البارولييف الهيروغليفي، رغم أنه درس التصوير في روما وباريس. سنعثر على نفس أصول التشكيل الشعبي في مجمع "ويصا واصف" لحرفيي السجاد والبسط في المنوفية. قد تكون أعمال هؤلاء منتشرة شائعة أكثر من الأعمال النخبوية لراغب عياد، يعيد هنا التاريخ المقارن نفسه ما بين شعبية باية ونخبوية محمد راسم، علمًا بأن متحف الفنون الأولى برونلي (جاك شيراك) قضى نهائيًا على مصطلح فن بدائي أو ساذج واستبدله بالفنون الأولى أي السابقة على الفنون الأوروبية، يغور هذا السبق حتى فنون المحيط الهادي (الثقافة البولينيزية) وحتى ما قبلها من مايا وآنكا والأزتيك والدلمون والشامانية إلخ.
2. ثم إن الرأي المستنير الذي يستخلصه جاك لانغ بخبرته، ليس حكرًا على حالة الموروث الثقافي لباية المتداخل بين الفرانكفونية الفنية والخصائص الذوقية للفن الشعبي الجزائري، لدينا نماذج استثنائية في هذا اللقاح البرزخي، يكفي أن نتذكر بعض الأسماء المعروفة التي رسخت هذه المثاقفة المتبادلة، من مثال المسرحي الكبير روبير حسين (ودرته الإبداعية البؤساء لفيكتور هوغو)، والمثال الأسطع هو التوليف الحاسم بين الوجودية الفرنسية العبثية والموروث الصوفي الجزائري خاصة في رواية "الغريب" التي نال عليها جائزة نوبل الخاصة بـ ألبير كامو وتأثره بعدمية خاتم الفلاسفة الألمان مارتن هايدغر. كلود لومان نفسه ثمرة هذا اللقاح الثقافي وعرض لأكثر من فرنسي من أصول جزائرية على رأسهم بن عنتر ومحجوب بن بيللد، فإذا يممنا باتجاه السينما عثرنا على أقطاب من تمثيل وإخراج الفن السابع، مثاله الممثلة الأولى إيزابيل أدجاني، وكذلك في مجال الغناء مثل خالد وموسيقى "الراي" وسواهما.
تقع أهمية هذا المعرض وما سبقه، وقيمة الرأي المعلن بحسم من قبل رئيس المعهد وأحد أبرز أقطاب الحزب الاشتراكي جاك لانغ، في تزامنه بل ومجابهته لصعود اليمين العنصري الفرنسي المتعصب ضد ثقافة الآخر العربي، والخلط بين الفكر الاستعماري والفكر التنويري النهضوي الشمولي. وللحديث في هذا الموضوع البالغ الحساسية شؤون وشجون.