تعرض دور السينما حاليًا الفيلم الإيطالي "الكيميرا/ La Chimera(*)" للمخرجة الإيطالية المبدعة أليشيا رورفاشير/ Alice Rohrwacher. وكان مهرجان كان السينمائي عام 2023 شهد أول عرضٍ للفيلم الذي جاء الأخير من ثلاثية المخرجة، بعد "أرض العجائب" (2014)، و"لازارو السعيد" (2018)، اللذين حصدا على التوالي، جائزة لجنة التحكيم، وجائزة أفضل سيناريو في مهرجان كان السينمائي.
درجت العادة في أفلام رورفاشير على أن يَعْلَق أبطال أفلامها في ماضٍ ساحر، ليستفيقوا منه ويواجهوا واقعًا حقيقيًا يغيّر حياتهم، ولكن ليس إلى الأفضل دائمًا. المخرجة وأبطال أفلامها مفتونون بإيطاليا، إذ تبرز الأفلام عمق عشقهم من خلال لقطاتٍ رائعة لمناظر طبيعية خلابة، وكذلك عبر تسليط الضوء على بساطة حياة القرية الإيطالية. في الوقت نفسه، يكشف أبطال الأفلام عن مرارة وغرابة الواقع الحقيقي في بلادهم. تجري أحداث جميع أفلام الثلاثية في إيطاليا، لكن ليس إيطاليا الواقعية، بل تلك التي تحلم بها المخرجة، التي رسمتها في مخيلتها، فجعلتها حلمًا أخفته بعنايةٍ فائقة بعيدًا عن إغراءات ومخاطر الحياة المعاصرة. في فيلم "أرض العجائب"، أنشأ مربي النحل المحافظ في مزرعته عالمًا مغلقًا يقوم على السلطة الأبوية. أمّا في فيلم "لازارو"، فقد فرضت المركيزة دي لونا، الملقبة بملكة التبغ، نظامًا إقطاعيًا قاسيًا في قريةٍ نائية، وجعلت فلاحيها يعيشون حياة غير إنسانية، ويرزحون تحت نير عبودية تشبه إلى حدٍّ كبير تلك التي عاشها أسلافهم على مشارف القرن التاسع. اكتشفت السلطات الإيطالية المأساة، فقررت ترحيل سكان القرية إلى المدينة. ولكنّ اكتشاف الحقيقة لم يجعل هؤلاء الفلاحين أكثر سعادة. وحده لازارو، الشابّ البسيط الذي كان الجميع يسخر منه ويكلفه بمختلف الأعمال المرهقة، بقي في القرية. دفع الفضول لازارو إلى اللجوء إلى طريقةٍ سحرية تمكنّه من الانتقال عشرات السنين في المستقبل، ليعرف كيف أصبحت حياة أبناء قريته.
في فيلم "الكيميرا"، توقف الزمن إلى الأبد في زمنٍ ما من ثمانينيات القرن العشرين، التي استطاعت المصورة السينمائية هيلين لوفار أن تجعل منها حقبةً مختلفة ومحبّبة تثير الحنين في قلب المشاهد. تعيش شخصيات الفيلم في عصرٍ مختلفٍ تمامًا، عصرٍ خياليّ يقع على حافة تقاطع عالمنا الحقيقي والعالم الآخر، عالمٍ يقع في المنطقة الرمادية بين الواقع والنوم، بحيث اختفت فيها الأطر والحدود التي تفصل بينهما. لم يكن من قبيل المصادفة أن نلتقي لأول مرة ببطل فيلم "الكيميرا" الرئيس، الإنكليزي آرثر (الممثل جوش أوكونور)، نائمًا في عربة قطارٍ، ويحلم بحبيبته بنيامينا (الممثلة إيل يارا فيانيلو). أثناء مرور شريط الحلم، يوقظ مفتش التذاكر آرثر، الذي لا يستطيع متابعة الحلم، وتفلت حبيبته من بين ذراعيه.
آرثر شابّ وسيم لدرجة جعلت جاراته في المقصورة يتخلين عن حيائهن، فرحن يغازلنه صراحةً. يرتدي آرثر بدلة بيضاء نظيفة للغاية (مع تقدّم الفيلم تصبح أقذر فأقذر)، ويتحدث الإيطالية جيدًا. ولكنّ رائحةً نتنة كانت تفوح منه، كرائحة سجينٍ أطلق سراحه للتوّ. وبالفعل، كان آرثر قد خرج قبل ساعاتٍ فقط من السجن، الذي أرسل إليه بعد القبض عليه متلبسًا بالتنقيب عن الآثار من دون ترخيصٍ قانوني، وها هو الآن في طريقه إلى بلدته. يكرّس آرثر مهنته المحترمة وخبرته في نبش الكنوز الدفينة تحت الأرض في خدمة مجموعةٍ متنافرة من ناهبي القبور، الذين يشبهون شخصياتٍ من كوميديا الأقنعة في الساحات والشوارع.
يبيع آل توبارو، لصوص القبور، الآثار المنهوبة لسبارتاكو، الشخصٍ الغامض الذي يخفي عملياته خلف واجهة عيادةٍ بيطرية (يتحدث عنه آل تومبارولي وكأنّه البطل الشرير، على أقلّ تقدير، من أفلام جيمس بوند)، ولا يرون في نشاطه سوءًا، ففي نهاية الأمر، يجب أن يساعد أحدٌ ما الإنسان الفقير في تحصيل لقمة عيشه. يعتقد آل توبارو أنّ شعب الإترور، حيث ينقبون في مدافن أمواته، قد انقرض منذ زمنٍ بعيد، وبذلك، فإنّ هؤلاء الموتى لا يحتاجون أيًّا من تلك المزهريات والأواني والتماثيل التي يستحوذون عليها! الرغبة بالثروة بضربةٍ واحدة، وعدم الاضطرار إلى العمل مرةّ أُخرى، هو الأمر الوحيد الذي يوحّد هؤلاء العنيدين. أمّا آرثرالملقّب بالإنكليزي، فلا يهتمّ بالمال قطّ، فهو يعيش في كوخٍ مؤقتٍ متصلٍ بجدار قلعةٍ قديمة، ولديه بدلتان قذرتان فقط يرتديهما بالتناوب، ولا يشتري شيئًا سوى السجائر. يرى آرثر أنّ الكنوز الأثرية ليست سوى نتيجةٍ ثانوية لأبحاثه، لأنّه يبحث في واقع الأمر عن "الكيميرا" التي قد ترشده إلى مدخل الحياة الآخرة، ليلتقي حبيبته بنيامينا التي سبقته إليها.
أثناء مطاردته هذا الوهم، يفقد آرثر اهتمامه بالإعجاب والحبّ الذي تكنّه له امرأة حقيقية حيّة تدعى إيطاليا (الممثلة كارول دوارتيه). التقى آرثر بإيطاليا أثناء معاينته قطعةً أثرية أُخرى من الماضي، من مقتنيات والدة حبيبته بنيامينا، المدعوة فلورا (الممثلة إيزابيلا روسوليني). تدّعي إيطاليا أنّها كانت تتعلم الغناء الأوبرالي عند فلورا، ولكنّها كانت تعمل في حقيقة الأمر خادمةً تقوم بكلّ شيءٍ، وتخفي في الوقت نفسه عن ربّة عملها أنّها أمّ لطفلين. عندما وصلتها أنباء تعرض المقابر للسرقة، أصيبت المرأة التي تنتمي عمليًا إلى عالم عائلة تومبارولي (المنقبين عن الآثار)، لأنّ لها مثلهم أحلامٌ وارتباطٌ قويّ بالحياة الأرضية الحقيقية. آرثر وفلورا موجودان، وفقًا للوثائق الرسمية، في عالمنا الحقيقي، ولكنّهما ينتميان في واقع الأمر إلى مملكة الأشباح.
فيلم "الكيميرا" هو ذلك الفيلم الذي تتكشف للمشاهد جوانب جديدة منه في كلّ مرة يشاهده. أمّا المخرجة فلا تحنّ إلى الماضي "الذي كان أفضل"، بل تطرح أسئلة حول مقدرة البشر على التحكم بالتاريخ، وبذكريات الآخرين، وحول ما إذا كنّا نستطيع أن ننسب تلك الذكريات إلى أنفسنا. بهذا المعنى، نجد أليشيا مهووسة ربما أكثر من آرثر، ولكنها تمنحه، مع ذلك، بعضًا مما كان يحلم به، إن لم يكن النعيم، فأقلّه راحة النفس والسكينة.
لقد نجحت المخرجة نجاحًا تامًا في تحقيق التوازن على حافة الماضي والحاضر، واستعانت بكنوز السينما الإيطالية النفيسة التي لا تنضب، مثل مشاهد الواقعية الجديدة، والكوميديا البوليسية عن رجال الشرطة واللصوص، لتتمكّن في نهاية الأمر من خلق عالمٍ سحريّ خاصّ بها.
هامش:
(*) كيميرا/ La Chimera: وحشٌ من الأساطير الإغريقية له جسد تيس، ورأس أسدٍ ينفث النار، وله ذيل أفعى. وتستخدم كلمة كيميرا لتصف هذا المخلوق، أو لتدل على الوهم، أو السراب، أو على حلم لا سبيل إلى تحقيقه.
درجت العادة في أفلام رورفاشير على أن يَعْلَق أبطال أفلامها في ماضٍ ساحر، ليستفيقوا منه ويواجهوا واقعًا حقيقيًا يغيّر حياتهم، ولكن ليس إلى الأفضل دائمًا. المخرجة وأبطال أفلامها مفتونون بإيطاليا، إذ تبرز الأفلام عمق عشقهم من خلال لقطاتٍ رائعة لمناظر طبيعية خلابة، وكذلك عبر تسليط الضوء على بساطة حياة القرية الإيطالية. في الوقت نفسه، يكشف أبطال الأفلام عن مرارة وغرابة الواقع الحقيقي في بلادهم. تجري أحداث جميع أفلام الثلاثية في إيطاليا، لكن ليس إيطاليا الواقعية، بل تلك التي تحلم بها المخرجة، التي رسمتها في مخيلتها، فجعلتها حلمًا أخفته بعنايةٍ فائقة بعيدًا عن إغراءات ومخاطر الحياة المعاصرة. في فيلم "أرض العجائب"، أنشأ مربي النحل المحافظ في مزرعته عالمًا مغلقًا يقوم على السلطة الأبوية. أمّا في فيلم "لازارو"، فقد فرضت المركيزة دي لونا، الملقبة بملكة التبغ، نظامًا إقطاعيًا قاسيًا في قريةٍ نائية، وجعلت فلاحيها يعيشون حياة غير إنسانية، ويرزحون تحت نير عبودية تشبه إلى حدٍّ كبير تلك التي عاشها أسلافهم على مشارف القرن التاسع. اكتشفت السلطات الإيطالية المأساة، فقررت ترحيل سكان القرية إلى المدينة. ولكنّ اكتشاف الحقيقة لم يجعل هؤلاء الفلاحين أكثر سعادة. وحده لازارو، الشابّ البسيط الذي كان الجميع يسخر منه ويكلفه بمختلف الأعمال المرهقة، بقي في القرية. دفع الفضول لازارو إلى اللجوء إلى طريقةٍ سحرية تمكنّه من الانتقال عشرات السنين في المستقبل، ليعرف كيف أصبحت حياة أبناء قريته.
في فيلم "الكيميرا"، توقف الزمن إلى الأبد في زمنٍ ما من ثمانينيات القرن العشرين، التي استطاعت المصورة السينمائية هيلين لوفار أن تجعل منها حقبةً مختلفة ومحبّبة تثير الحنين في قلب المشاهد. تعيش شخصيات الفيلم في عصرٍ مختلفٍ تمامًا، عصرٍ خياليّ يقع على حافة تقاطع عالمنا الحقيقي والعالم الآخر، عالمٍ يقع في المنطقة الرمادية بين الواقع والنوم، بحيث اختفت فيها الأطر والحدود التي تفصل بينهما. لم يكن من قبيل المصادفة أن نلتقي لأول مرة ببطل فيلم "الكيميرا" الرئيس، الإنكليزي آرثر (الممثل جوش أوكونور)، نائمًا في عربة قطارٍ، ويحلم بحبيبته بنيامينا (الممثلة إيل يارا فيانيلو). أثناء مرور شريط الحلم، يوقظ مفتش التذاكر آرثر، الذي لا يستطيع متابعة الحلم، وتفلت حبيبته من بين ذراعيه.
آرثر شابّ وسيم لدرجة جعلت جاراته في المقصورة يتخلين عن حيائهن، فرحن يغازلنه صراحةً. يرتدي آرثر بدلة بيضاء نظيفة للغاية (مع تقدّم الفيلم تصبح أقذر فأقذر)، ويتحدث الإيطالية جيدًا. ولكنّ رائحةً نتنة كانت تفوح منه، كرائحة سجينٍ أطلق سراحه للتوّ. وبالفعل، كان آرثر قد خرج قبل ساعاتٍ فقط من السجن، الذي أرسل إليه بعد القبض عليه متلبسًا بالتنقيب عن الآثار من دون ترخيصٍ قانوني، وها هو الآن في طريقه إلى بلدته. يكرّس آرثر مهنته المحترمة وخبرته في نبش الكنوز الدفينة تحت الأرض في خدمة مجموعةٍ متنافرة من ناهبي القبور، الذين يشبهون شخصياتٍ من كوميديا الأقنعة في الساحات والشوارع.
يبيع آل توبارو، لصوص القبور، الآثار المنهوبة لسبارتاكو، الشخصٍ الغامض الذي يخفي عملياته خلف واجهة عيادةٍ بيطرية (يتحدث عنه آل تومبارولي وكأنّه البطل الشرير، على أقلّ تقدير، من أفلام جيمس بوند)، ولا يرون في نشاطه سوءًا، ففي نهاية الأمر، يجب أن يساعد أحدٌ ما الإنسان الفقير في تحصيل لقمة عيشه. يعتقد آل توبارو أنّ شعب الإترور، حيث ينقبون في مدافن أمواته، قد انقرض منذ زمنٍ بعيد، وبذلك، فإنّ هؤلاء الموتى لا يحتاجون أيًّا من تلك المزهريات والأواني والتماثيل التي يستحوذون عليها! الرغبة بالثروة بضربةٍ واحدة، وعدم الاضطرار إلى العمل مرةّ أُخرى، هو الأمر الوحيد الذي يوحّد هؤلاء العنيدين. أمّا آرثرالملقّب بالإنكليزي، فلا يهتمّ بالمال قطّ، فهو يعيش في كوخٍ مؤقتٍ متصلٍ بجدار قلعةٍ قديمة، ولديه بدلتان قذرتان فقط يرتديهما بالتناوب، ولا يشتري شيئًا سوى السجائر. يرى آرثر أنّ الكنوز الأثرية ليست سوى نتيجةٍ ثانوية لأبحاثه، لأنّه يبحث في واقع الأمر عن "الكيميرا" التي قد ترشده إلى مدخل الحياة الآخرة، ليلتقي حبيبته بنيامينا التي سبقته إليها.
أثناء مطاردته هذا الوهم، يفقد آرثر اهتمامه بالإعجاب والحبّ الذي تكنّه له امرأة حقيقية حيّة تدعى إيطاليا (الممثلة كارول دوارتيه). التقى آرثر بإيطاليا أثناء معاينته قطعةً أثرية أُخرى من الماضي، من مقتنيات والدة حبيبته بنيامينا، المدعوة فلورا (الممثلة إيزابيلا روسوليني). تدّعي إيطاليا أنّها كانت تتعلم الغناء الأوبرالي عند فلورا، ولكنّها كانت تعمل في حقيقة الأمر خادمةً تقوم بكلّ شيءٍ، وتخفي في الوقت نفسه عن ربّة عملها أنّها أمّ لطفلين. عندما وصلتها أنباء تعرض المقابر للسرقة، أصيبت المرأة التي تنتمي عمليًا إلى عالم عائلة تومبارولي (المنقبين عن الآثار)، لأنّ لها مثلهم أحلامٌ وارتباطٌ قويّ بالحياة الأرضية الحقيقية. آرثر وفلورا موجودان، وفقًا للوثائق الرسمية، في عالمنا الحقيقي، ولكنّهما ينتميان في واقع الأمر إلى مملكة الأشباح.
فيلم "الكيميرا" هو ذلك الفيلم الذي تتكشف للمشاهد جوانب جديدة منه في كلّ مرة يشاهده. أمّا المخرجة فلا تحنّ إلى الماضي "الذي كان أفضل"، بل تطرح أسئلة حول مقدرة البشر على التحكم بالتاريخ، وبذكريات الآخرين، وحول ما إذا كنّا نستطيع أن ننسب تلك الذكريات إلى أنفسنا. بهذا المعنى، نجد أليشيا مهووسة ربما أكثر من آرثر، ولكنها تمنحه، مع ذلك، بعضًا مما كان يحلم به، إن لم يكن النعيم، فأقلّه راحة النفس والسكينة.
لقد نجحت المخرجة نجاحًا تامًا في تحقيق التوازن على حافة الماضي والحاضر، واستعانت بكنوز السينما الإيطالية النفيسة التي لا تنضب، مثل مشاهد الواقعية الجديدة، والكوميديا البوليسية عن رجال الشرطة واللصوص، لتتمكّن في نهاية الأمر من خلق عالمٍ سحريّ خاصّ بها.
هامش:
(*) كيميرا/ La Chimera: وحشٌ من الأساطير الإغريقية له جسد تيس، ورأس أسدٍ ينفث النار، وله ذيل أفعى. وتستخدم كلمة كيميرا لتصف هذا المخلوق، أو لتدل على الوهم، أو السراب، أو على حلم لا سبيل إلى تحقيقه.