Print
دارين حوماني

وثائقي "لهيب الثلاجات": عقاب جماعي للفلسطينيين ومساومة على الجثامين

1 أكتوبر 2024
سينما
إن أول ما يخطر ببالنا عند مشاهدة الفيلم الوثائقي "لهيب الثلاجات" هو كم أن الموت رخيص ومجاني وسهل في فلسطين، وكم يحاول الإسرائيلي استباحة الجسد الفلسطيني ليكون لا قيمة له بكل الطرق والأشكال التي يسمح له خياله المتوحش فيها. ثمة رصاصة قد تخترق جسد فلسطيني في أي وقت، بدون سبب، فقط لأنه فلسطيني، ربما يريد الجندي أن يتسلّى، ربما يأمل المستوطن أن يُفرغ وحشيّته المتراكمة منذ مقاعد الدراسة، فيقتل طفلًا، امرأة، أي جسد فلسطيني يلتقيه. في جمهورية الألم التي اسمها فلسطين قد يخرج طفل إلى مدرسته فيُقتل، تتعب امرأة فتقف قليلًا تُقتل، قد تُقتل لأنك تحب الشمس فتخرج لتلقى مريضًا نفسيًا مكبوتًا على هيئة مسلّح إسرائيلي فيقتلك.

هل هناك تعداد رسمي لاستباحة الجسد الفلسطيني منذ 76 عامًا حتى اليوم؟... ثمة قصص كثيرة، لكن المؤكد أن الجسد الفلسطيني لم يتقبّل استباحته، فتحوّل إلى جسد مقاوم لاشعوريًا، إنه جسد مؤهّل للألم منذ الطفولة، جسد أهّل نفسه على كل أشكال التوحّش الإسرائيلي الذي يزداد تفنّنًا في ترخيصه، لكن هذا الإسرائيلي الذي يشتغل بنظام الهيمنة والبطش لم يُشبعه انتهاك جسد الفلسطيني حيًا وجَعْلِه مادة للإخضاع، بل أراد التفنّن في استباحته ميتًا، وآخرها في غزة، مع حكايات مستشفى الشفاء وجرف المقابر والكلاب التي اتخذت من جثث الشهداء طعامًا لها. وها هو يتفنّن في استباحة جثامين الشهداء فيحتفظ بها كي لا تكون لها قبور، في عملية تهديد وعقاب جماعي، وكي يساوم عليها وقت الضرورة. يقول الفيلسوف نيتشه: "إنّ الجسد نصّ ثقافيّ قائم في حدّ ذاته"، لكن نيتشه لم يكن يعلم أن الجسد غير اليهودي بنظر اليهودي هو نصّ حيواني في حدّ ذاته، ونحن نتذكر ما أعلنه وزير الإجرام الصهيوني يوآف غالانت عن أنهم يحاربون حيوانات ويتصرّفون وفقًا لذلك.

"لم نغلق الباب يومًا، بل تركنا لك مفتاح البيت في أصيص ورد أمامه لأنك دائمًا تعود متأخرًا... لم نرتّب سرير الغائب، لأننا لم نصدّق يومًا غيابه... اعتدنا على الموت، ولكننا لم نفتح له النوافذ... كنا وما زلنا نحب الحياة ما استطعنا إليها سبيلًا... كيف ستنام هذه الأم في دفء بينما ينام فلذة كبدها في قالب ثلج محتجز لسنوات في ثلاجات الاحتلال"، هي عبارات ذات نفس شعري، برفقة موسيقى لها حنجرة حزينة، تعبّر عن عمق الألم الذي تختزنه الأجساد الباردة في فيلم "لهيب الثلاجات" (27 د) للمخرج كمال أزرق، الذي يستعرض معاناة أُسر شهداء فلسطينيين جرّاء احتجاز الاحتلال الإسرائيلي لجثامين ذويهم. والفيلم من إنتاج التلفزيون العربي، وقد نال الجائزة الفضية بعد عرضه الأول في الدورة الرابعة والعشرين للمهرجان العربي للإذاعة والتلفزيون التي أقيمت في تونس تحت شعار "نصرة فلسطين" في حزيران/ يونيو الماضي. وهذا الفيلم هو من ضمن مشروع مهم يعمل التلفزيون العربي عليه، حيث تم إنتاج عدد من الوثائقيات منذ طوفان الأقصى عن غزة - متوفرة جميعها على موقع تلفزيون العربي 2 أو منصة Araby Plus - وقد سلّطت الضوء على أشكال مختلفة من استهداف الشعب الفلسطيني حيث تناولت حرب التجويع، والطواقم الإنسانية والعاملين في المشافي، وكذلك النازحين داخل القطاع المدمر، ورصد شهادات التعذيب التي تعرض لها الأسرى داخل السجون الإسرائيلية. 

عدلة غطّاس وأزهار أبو سرور وطارق أبو سلطان يتحدثون في الفيلم عن أبنائهم الشهداء


"يا الله ما أصعبها، ابنك موجود بالثلاجة"... بهذه الكلمات يُطالعنا صوت والدة الشهيد فادي غطّاس (19 عامًا)، من مخيّم الدهيشة، الذي أعدمه جنود الاحتلال على مفترق بيت عينون شمالي مدينة الخليل المحتلة في 2/9/2022، تقول والدته عدلة غطّاس: "من يوم للي استشهد فادي، من 2/9/2022 لليوم، باب الدار ما بيتسكر بالمفتاح، لأنه منستنى فادي يجي". تُخبر الوالدة أنه كان شابًا حيويًا ونشيطًا، من طفولته يحب الحياة ويحب الجمال. وكيف أنها في يوم استشهاده شعرت بأن غيمة سوداء حلّت بصدرها، وأنها ستفقد أحد أبنائها، إلى أن جاءها صوت في داخلها يقول لها: "يمّا أنا شهيد، اسجدي"... تلاحق الكاميرا الوالدة بين القبور المفتوحة، تفتش عن جثمان ولدها وتبكي، "وجع ما حدا بيحسّ فيه... أسمعه يقول لي يا
مّا دفّيني أن بردان... يمّا طلعيني من الثلاجة ما بدي ضل هنا"... وتعرض الأم رسومات للشهيد، منها رسم بقلم رصاص يصوّر نفسه فيه بأجنحة، على أنه شهيد، ورسم لطفل مصاب يبكي.

يتضمّن الوثائقي مقابلات مع أربعة من ذوي الشهداء الذين احتفظت إسرائيل بجثامينهم، إحدى هذه المقابلات مع أزهار أبو سرور، والدة الشهيد عبد الحميد أبو سرور من مدينة بيت لحم، الذي استشهد بتاريخ 20/4/2016 عن عمر 19 عامًا خلال تنفيذه عملية فدائية داخل حافلة تقلّ مستوطنين. تتحدّث أزهار أبو سرور عن نبوغ ابنها في المدرسة وعن علاقاته القوية بالأساتذة والمعلمات وأصدقاء الدراسة، ثم عن قلقها من عدم ردّ ابنها على مكالمتها يوم استشهاده: "نحنا في بلدنا، طوال الواحد غايب دغري بتصير تحسب، خلص لو طخّوا واحد عل الحاجز، أو أي إشي صار"، ثم تُخبر كيف اقتحم الجنود الصهاينة بيتها عند الساعة الثالثة ليلًا لتفتيش المكان. وتضيف: "كتير صعب، هو موجود في ثلاجة، ومش ثلاجة عادية، ثلاجات حقيرة جدًا". بَنَت عائلة الشهيد عبد الحميد أبو سرور صرحًا لشهداء مخيمّ عايدة، وجهّزت قبرًا كاملًا لابنها قرب الصرح، وأصبح القبر رمزًا يؤكد على ضرورة استعادة جثمان الشهيد؛ "أنا سعيدة لأني أهتم دائمًا في هذا المكان، لكنه لن يكتمل إلا عندما أرى قبر ابني وعليه اسمه، وأن عبد دُفن بكرامة... كلما تحدثوا عن صفقة تبادل لاشعوريًا أفكر ماذا أفعل للمكان من جديد ليكون جاهزًا عند استعادة الجثمان. نحن في حالة انتظار دائم".

ساديّة ما مرّ مثلها في التاريخ

جهنم هي ثقافة الجليد والنسيان في ثقافة الإسرائيلي، يقول طارق أبو سلطان والد الشهيد أمجد سلطان (14 عامًا) الذي استشهد بتاريخ 14/10/2021، مؤكدًا على ساديّة الإسرائيليين: "إسرائيل تطبّق علينا جهنم بمفهومهم. أن تمحي شخصية الشهيد كإنسان، تنزع عنه إنسانيته. هذه إجراءات الدفن وما بعد الدفن لها علاقة بطقوس أمم وشعوب، حتى الفايكنغ (شعوب عُرفت بطبيعتها الوثنية والوحشية) كانوا يقدّسون مسألة دفن الميت. أنت اليوم تُرجعني للهمجية... تمسح إنسانية الميت وتحجز جثمانه وتمنع أهله من دفنه... تتحكم فيّ في ما بعد الموت، متى أحزن ومتى أفرح... هذه ساديّة ما مرّ مثلها في التاريخ. تخيّل السيناريو، هل يوجد دولة في هذا العالم تحتجز جثامين، في ثلاجات، أطفالًا تساوم عليهم؟ هذا لم يمرّ مثله في التاريخ".

صدمة الأب طارق أبو سلطان ليس فقط في استشهاد ابنه الملقّب "Tiger" بل في احتجاز جثمانه أيضًا، فحين تواصل مع صالح العاروري، مسؤول مركز القدس للمتابعة القانونية، قال له هذا الأخير: "مش عشان ابنك عمرو 14 سنة حيسلموك إياه، فيه قبلك أمجد يوسف صبح من جنين عمرو 15 سنة ولليوم عندهم". ثم يبكي وهو يُخبر عن لحظة استعادة جثمان ابنه "كان قالب ثلج"، وقال بأن ابنه ضعيف وخفيف، ولكنه بمساعدة سبعة أشخاص تمكنوا من حمل جثمانه بسبب سماكة الثلج على جسده، وخوفًا من أن يتكسّر. يعلّق طارق أبو سلطان والدموع في عينيه "هذا ليس شهيدًا عاديًا استشهد في مواجهات مع الاحتلال، هذه جريمة اغتيال طفل".

ابنة الشهيدة الدكتورة مي عفانه ووالدها حسين جفال


"متى تعود ماما... لم تكن الإجابة سهلة... لم تكن هناك إجابة أصلًا"، هي الطفلة سلاف، تبكي وهي تقول "كان نفسي تضل معي، تضل عايشة معي، هللأ خلص، راحت عل الجنة، بقولها بحبك"... تسقي سلاف قبر أمها الشهيدة الدكتورة مي عفانه بعد عام من احتجاز جثمانها، وتقبّل شاهد قبرها. يُخبر الزوج حسين جفال عمّا حصل مع الدكتورة مي، وبأنها كانت ذاهبة إلى رام الله كي يرى فحوصاتها طبيب مختص ليشخّص حالتها. ولكن صار معها طارئ على الطريق، عطل في السيارة أو دوخة، فتوقفت إلى جانب الطريق في مكان مخصّص للسيارات التي يصيبها خلل ما، في هذه اللحظة، كان هناك مستوطن قريب، نزل من سيارته وأطلق النار على رأسها وذهب. بعد صدمة القتل غير المبرّر، أصيبت العائلة بصدمة احتجاز الجثمان، "طلعت لروح استلم الجثمان، لم يقبلوا... ومن هنا انطلقت رحلة المطالبة بالجثمان".    

في الوثائقي أيضًا تقرير عن وسام حنون الذي ادّعى الاحتلال اغتياله وحجز جثمانه، ليتبيّن بعد تسريب صورة له من أحد مستشفيات الاحتلال بأنه حيّ، وتنتقل كاميرا المخرج إلى منزل عائلة حنون، وفرحة الأم والعائلة والأصدقاء ببقائه حيًا.

يقول حسين شجاعية، من مركز القدس للمساعدة القانونية، في الفيلم بأن سياسة إسرائيل هي في احتجاز جثث الشهداء وأن ذلك يُختزل بالمساومة، فالاحتلال يساوم على جثامين الشهداء في صفقات تبادل، كذلك العقوبة الجماعية على العائلات الفلسطينية التي تندرج ضمنها الكثير من الأمور الحياتية واليومية.

ويضيف شجاعية بأنه حسب توثيقات مركز القدس والحملة الوطنية لاسترداد جثامين الشهداء، هناك 256 جثمانًا في مقابر الأرقام، وأنه منذ عودة سياسة الاحتجاز في عام 2015 هناك 186 جثمانًا آخرين، ومعظمهم في الثلاجات، منهم 11 أسيرًا قضوا سنوات طويلة في سجون الاحتلال واستشهدوا في السجون، وبعد الاستشهاد تم حجز الجثامين، "بعد حرمان العائلة من الزيارة في السجن، تم حرمان العائلة من الجثمان"، يتحدّث أيضًا عن 12 طفلًا تقل أعمارهم عن 18 عامًا في صقيع الثلاجات، وأيضًا شهيدات فلسطينيات في الثلاجات.

كما يشمل الوثائقي حديثًا مع شعوان جبارين، من مؤسسة الحق لحقوق الإنسان والقانون الدولي. يقول جبارين: "أنت تتحدث عن مدنيين، تؤخذ جثامينهم، تُحتجز، لا تُشخّص من قبل العائلة كي يقولوا هذا ابنهم أم لا. هناك الكثير من الجرحى، أخذهم جنود الاحتلال، لا نعلم إذا بقوا على قيد الحياة، أم قضوا. وعندما تدّعي الأسرة بالسؤال عن ابنها، أقول نعم لديهم كل الحق القانوني باعتبار أن هؤلاء مختفون قسرًا".

ويسأل جبارين: "لماذا تُحتجز الجثامين، هل سيصير هناك تبادل، هل لدى الفلسطينيين جثامين؟"، ثم يضيف: "أنت تتحدّث أحيانًا عن أطفال بعمر الـ14 أو 15 عامًا يلقون حجارة صغيرة ويُطلق النار عليهم، وتُحتجز جثامينهم". ويرى جبارين بأن الغاية والهدف الأساسي هو محاولة معاقبة الأسرة والمجتمع لكسر إرادة النضال لدى هؤلاء، كي يقرّ الجميع أن الفلسطينيين يجب أن يعيشوا عبيدًا تحت سلطة المستعمر، هذا هو الهدف، الهدف سياسي، أبعد ما يكون عن الأخلاق، أبعد ما يكون عن القانون، أبعد ما يكون عن الإنسان بكل قيمه ومعانيه. 

يختم الوثائقي حكايا الجثامين الأربعة بعبارات "هكذا يولد الفلسطيني، غضًّا، طريًا، بعينين من حلم وأمل، يكبر فإذ بالحياة تخبره أن يستعدّ لموته، تودّعه أمه على باب البيت تتفقّد شكله، ملامحه، تحفظ آخر كلمة سيقولها لها، فربما تقتله رصاصة جندي يتسلّى وقت الظهيرة وربما يعود لها جثة أو تختطف إسرائيل الجثة"، ولكن هذه الحكايا وغيرها مختومة فقط بحزن عميق وبتحدّ وجودي لمواجهة الاستلاب الجسدي، فلم تستعد عائلة أبو سرور ولا عائلة غطاس جثمانَيْ شهيديها بعد، كما أن أكثر من 500 جثمان فلسطيني لا يزالون في مقابر الأرقام والثلاجات!