Print
فريد الزاهي

هل يمكن الكتابة عن السينما بمعزل عن عوالم الصورة؟

15 أكتوبر 2024
سينما

 

غريب هو أمر السينما في العالم العربي. فهي من بين الفنون البصرية الأكثر تعقدًا وتقنية والأكثر حاجة إلى البنيات المؤسسية وإلى الديمقراطية، ومن ثم الأكثر تعبيرًا عن مدى حداثتنا. فلقد اجترح هذا الفن لنفسه مكانة خاصة منذ أواسط القرن الماضي في عوائد الإنسان كما في المجال الثقافي في العالم العربي. وخلق بذلك دينامية خاصة في الحياة اليومية، تتمثل في انبثاق النجوم، وتحول قاعات المسرح إلى قاعات سينمائية، وظهور المجلات الخاصة بالسينما وبنجومها وجديدها. لقد أضحى ارتياد السينما طقسًا من طقوس العائلات والأفراد والأزواج بعد أن ظل المسرح يستفرد بذلك لدى الطبقات المتوسطة والعليا. وعزّزت الإنتاجات السينمائية المصرية، منذ أواسط الثلاثينيات، وتوزيعها في جميع أنحاء الأقطار العربية، هذا التحول الأنثربولوجي لتصبح الفن الأكثر شعبية والأكثر ديمقراطية وحداثة من بين الفنون البصرية والسمعية (الإذاعة والمسرح والفن التشكيلي). 

كانت الأفلام السينمائية تسبق الكتب في التوزيع وتضاهيها، بل تتجاوزها أحيانًا كثيرة في الشهرة. وزاد من هذا الوزن الذي عرفته السينما استقطابها للمغنين الشهيرين من قبيل عبد الحليم حافظ، وللأدباء الكبار من قبيل نجيب محفوظ. فقد كان للأفلام الغنائية كما للأفلام المقتبسة من روايات إحسان عبد القدوس ونجيب محفوظ وغيرهما الأثر البالغ في تحويل السينما إلى ظاهرة ثقافية مركبة تجمع بين الترفيه والبعد الثقافي الفني. فلقد عاشت السينما المصرية في العصر الليبرالي كما في العصر "الاشتراكي" توهجًا جعلها تتصدر بشكل واضح الإنتاج الثقافي، بالرغم من كوابح الرقابة وضعف أفلام المؤلف أو السينما المستقلة. واستطاعت بشكل ما أن تجد لها موطنها وتكون لها جمهورًا، بجوار ما كان يعرض من الأفلام الهوليودية والبوليودية... كما أن بعض نجومها المحليين (المصري عمر الشريف) ومنتجيها الخواص (التونسي بن عمار) ومخرجيها (المصري يوسف شاهين، والكويتي مصطفى العقاد، والمغربي سهيل بن بركة) تحولوا إلى نجوم عالمية.

السينما العربية كما عرفناها وعشناها

كانت الحركية السينمائية بالرغم من تأخر ظهورها في العديد من البلدان العربية، من ضمنها المغرب، تأخذ بُعد الحدث. واستهلاك السينما طقسًا أسبوعيًا لدى الصغار كما لدى الكبار، وقاعات السينما مجالًا للعشق واللقاء وسحر الصور والخيال. وكان نقاد السينما في العالم العربي يشكّلون قامات ثقافية تضاهي نقاد الأدب والمفكرين. فكتابات سمير فريد وخميس الخياطي وإبراهيم العريس وعدنان مدانات ونور الدين الصايل تعتبر مرجعًا في تقويم الإنتاج السينمائي. وفضلًا عن ذلك، كان هؤلاء فاعلين ثقافيين يؤسسون الأندية والمهرجانات الدولية غير الرسمية (مهرجان قرطاج ومهرجان خريبكة)، ويشرفون على البرامج التلفزيونية المخصصة لها. لقد أدخل المغربي نور الدين الصايل، على غرار غيره من النقاد العرب، السينما العربية والعالمية إلى التلفزيون في الثمانينيات، مكسرًا بذلك ثنائية القاعة/ البيت، وغازيًا عيون الجمهور الواسع الذي لا يستطيع ارتياد القاعات لهذا السبب أو ذاك. وكان تأسيسه للأندية السينمائية التي تربينا في حضنها وتضمخنا بمتعة مشاهدة الأفلام العالمية والعربية في حضنها.

كانت الكتابات عن السينما مقارنة مع نظيرتها الأدبية تدخلنا عالمًا جديدًا، يتمازج فيها المسرح مع النصوص الأدبية، وتصبح فيها الصورة والتقنية سيدة عوالم الخيال. وحتى حين يتعلق الأمر باقتباس رواية من قبيل "اللاعب" لدوستويفسكي أو "بداية ونهاية" لنجيب محفوظ، فإن السيناريو يغدو الوسيط الذي يحور الأحداث ويحولها ويختصر ويقفز، ويدخل أحيانًا تفاصيل جديدة تمنح للفيلم أفقًا حكائيًا جديدًا. كنا نقرأ رواية من قبيل "لمن تُقرع الأجراس" لهمنغواي في ظرف يوم واحد على الأقل، باسترسال يأسر منا الوقت والعينين، وكنا نشاهدها في القاعة في ظرف لا يجاوز الساعتين. إنها معجزة الصور حين تجعل المشاهد يتابع أحداثًا كثيرة في الوقت ذاته. 

كان للأفلام الغنائية والأفلام المقتبسة من روايات إحسان عبد القدوس ونجيب محفوظ وغيرهما الأثر البالغ في تحويل السينما إلى ظاهرة ثقافية مركبة تجمع بين الترفيه والبعد الثقافي الفني


وللكتابة عن فيلم ما، كان من اللازم مشاهدته مرات عديدة حتى يتمكن الكاتب من الإمساك بحركة الصور وتخلخل الزمن الحكائي، والدور الفاعل للمونتاج (التوليف) في إسباغ إيقاع حدثي وجمالي، وكذا تقنيات التصوير وزواياه وطبائع اللقطات وما إلى ذلك. أما السيناريوهات، فإن الاطلاع عليها كان إما من باب الصدفة، أو بقراءتها آنذاك في مجلة أجنبية متخصصة في نشرها. وأتذكر أن مجلة عراقية في أواخر السبعينيات نشرت سيناريو لعمر أميرلاي قرأته مرات لكي أقف على تقنيات كتابة السيناريو. ثم جاءت كاسيتات الفيديو التي مكنت من تسجيل الأفلام ومشاهدتها واقتناء نسخة منها، لييسّر الأمر على من يرغبون في مشاهدة الفيلم في البيت أو الكتابة عنه.

لا مراء في أن الكتابة عن السينما تجربة متعددة، عينية وغنية. فمشاهدة الفيلم لا تعفي قبلًا من إمكان حضور بعض لحظات التصوير إذا ما أتيح ذلك، والحوار مع المخرج والممثلين وحضور المهرجانات والعروض الأولى، واستطلاع رأي الجمهور، ومتابعة التعليقات والاهتمام بتوزيع الفيلم ومشاركته في المهرجانات المحلية والدولية وحيازته على الجوائز في مجالات متعددة (الإخراج والتمثيل والسيناريو...)، وكذا متابعة ما كتبته عنه الصحافة والنقاد المتخصصون. كان صدور فيلم مغربي أو عربي حدثًا ثقافيًا تحضره النخب الثقافية والسياسية ويستجلب عشاق الفنون البصرية وغيرهم على السواء. ولعل كون السينما أضحت في تلك الفترة واجهة لامعة وفعالة للحداثة الثقافية، قد دفع الدولة المغربية عام 1984، في إطار المركز السينمائي المغربي الشاهر على الصناعة السينمائية، إلى أن تخصص صندوقا للدعم صار في العقود الأخيرة المحرك التمويلي الأساس للسينما المغربية برمتها.

أمراض السينما من أمراض الكتابة عنها

إذا كان هذا التمويل في الأصل عبارة عن دعم لا تمويلًا كاملًا، فإن أغلب الإنتاجات السينما أضحت تكتفي به، مما قوّض الدعم الخاص الآتي من جهات خارج الدولة، ومما جعل السينما قضية دولة لا قضية مجتمع بكامله. عن هذه الوضعية نتجت أمراض كثيرة، لا زالت تستشري في المجال السينمائي: تحوّل الممثلين إلى مخرجين لحصد الدعم، وطغيان سينما الشباك التي تبتغي استهداف الجمهور بجميع أشكال الهزل الشعبي، فيما تقلّص مجال سينما المؤلف والسينما الاجتماعية والسينما التسجيلية. كما أن من هبّ ودب، بات يؤسس مهرجانًا للسينما يستقي الدعم من المركز السينمائي كما من السلطات المحلية، ويجعله مدخلًا لقضاء مصالحه الشخصية... ففي وقت اندحار السينما الجماهيرية وإغلاق أغلب القاعات التي هدهدت متخيلنا، صرنا نجد في كل مدينة صغيرة أو كبيرة مهرجانًا يخصّص لهذا الجانب أو ذاك من السينما، من غير أن يترك أثرًا يُذكر لا في المجال السينمائي تخصيصًا، بل الثقافي عمومًا.

أما النقد السينمائي، فبعد أن كان نقدًا ثقافيًا وسياقيًا وجماليًا، تحوّل إلى متابعات صحافية تقريظية أو تبخيسية حسب الهوى، وتبعًا لاعتبارات قد لا تكون لها أي علاقة بهذا الفن المركّب. فبعد أن أفرزت الأجيال السابقة تراكمًا جماليًا في علاقة الكتابة بالسينما، وأفرزت كتابا لهم ميزاتهم الشخصية في المقاربة والحصافة كما في الأسلوب والرؤية، والقدرة على الموضعة السياقية والتاريخية (محليًا وعالميًا)، أضحت المقاربات التي نقرؤها اليوم، هنا هناك، ضيقة الرؤية، همها النقد (بالمعنى الحرْفي للكلمة) أو الوصف الذي يركز على معطيات لا تصل إلى عمق العمل السينمائي وإلى ترابطاته مع سياقه الفني والتاريخي. "الناقد السينمائي" اليوم يبني مجده على العمل الحاضر، لينساه حين يكتب عن العمل اللاحق، مغيّبًا موقع هذا المنتَج السينمائي في ما يمنحه قيمته الثقافية والبصرية. لذا فإننا نعدم اليوم أسماء وازنة في مجال الكتابة عن السينما، ولا نجد أمامنا إلا أصواتًا خافتة تلهث وراء متابعة الأفلام، تحلّلها كجزر منعزلة، من غير أن تفرز لنا تاريخًا للسينمات العربية الجديدة، أو تبلور فكرًا بصريًا لهذه الحركيات.

ومع أن الأعمال السينمائية اليوم تعتمد على تكنولوجيا الصورة، والعديد من مشاهدها تنجز في الكمبيوتر أو في المختبر، فإن ما يكتب عن السينما العربية يكتفي في الغالب الأغلب منها بالإحالة للجانب التقني وتدخله في صياغة المكونات البصرية والتشخيصية في الفيلم. والحال أن السينما باعتبارها صورة (مركبة، مقارنة مع الفوتوغرافيا) تفترض مقاربة سينمائية وبصرية مركبة ومتعددة أيضًا. ونحن نتذكر هنا أن الدرس الكبير الذي تركه لنا جان لوك غودار والناقد السينمائي الشهير دانييل سيبوني (ومعهما مجموعة مجلة "دفاتر السينما") هو أنهما كانا مؤسسيْن للتحليل البصري للسينما. فهذا الفن لا يحتمل، بفعل مكوناته المتعددة، والمتطورة، التقنية منها والبصرية، من أن يُحلل بشكل أحادي النظرة. إنه الفن الأكثر استفادة من التحولات البصرية الجديدة التقنية الرقمية منها والجمالية. مثلما أن الفن التشكيلي الرقمي لا يمكنه أن يحتمل قواعد المقاربة التشكيلية التقليدية. واليوم أكثر من أي وقت مضى، اندمجت السينما في ثقافة الصورة بحيث إنها، رغم تركيبتها الحكائية، تتطلب تحليلها من حيث كونها فنًا بصريًا.

تكمن مفارقات النقد السينمائي الراهنة في أنه لا يجهَد في بلورة كتابة نقدية لها خصوصيتها ومنفتحاتها، بل ينغمس في التفاصيل الوقائعية في الفيلم كما تلك التي تحيط بالإنتاج السينمائي، ويعيش ضربًا من الشتات يعمي الفاعلين فيه عن إمكان بناء تاريخ للسينمات العربية الراهنة والكشف عن عوائقها وممكناتها. إنه في أغلبه "نقد" غير مفكر وغير شبكي، يكتفي بالوساطة السلبية، يتعامل مع الفيلم كما لو كان جزيرة معزولة، ويتفادى بناء مجاله النقدي وفقًا لأفق فكري وثقافي يجعله منفتحًا على باقي الأنواع الثقافية التي تتفاعل معها السينما ضمنًا وعلنًا. فبدون فكر يتناول السينما كصورة حكائية، وفي بعدها البصري، ومن ثمّ الثقافي، تظل هذه الكتابات السائلة مثل بغل الطاحونة الذي تكمّم عيناه؛ أو لنقل إنها تفضّل العوم في مسبح يوجد لصْق البحر، عوض أن تغامر في السباحة في البحر الفسيح للصورة السينمائية!