Print
أشرف الحساني

الأغنية السودانية: حداثة موسيقية واعدة

17 أكتوبر 2024
موسيقى


إلى وقتٍ قريب، لم نكُن نسمع شيئًا عن الأغنية السودانية، باستثناء فنونها الشعبية الضاربة في عمق الحضارة الأفريقية وجماليّاتها، وذلك بالنظر إلى الزخم الفني الذي توجد عليه الآن، بعدما غدت مؤثرة بجمالياتها البصرية وأنماطها الموسيقية المتنوعة في الراهن الغنائي العربي. بل إن المستمع اليوم، يستحيل أن يستثني الأغنية السودانية من اهتماماته اليومية داخل التجربة الغنائية العربيّة، لأنّها غدت أغنية مركزية ومكتملة من حيث صناعتها الجمالية. والسبب لا علاقة له بطبيعة الأغنية نفسها، وإنّما بحكم التحول البنيوي الذي رافق الفن السوداني في الأزمنة المعاصرة، رغم الحروب والويلات التي أصابت البلد وابتذلته أسوأ ابتذال. فقد أصبح البلد مختبرًا تجريبيًا للعديد من الفنون، خاصّة في الغناء والموسيقى والمسرح والسينما. فقد عملت المؤسّسات الفنية والجهات الوصية على الشأن الثقافي في وضع مخططات ناجحة لاستئناف المشروع الفني السوداني وخلق شراكات مع موسيقيين ومغنين وسينمائيين من العالم العربي ككل.

هذا التحول المهم ساهم في تثوير الأغنية وجعلها تخرج من الأبعاد الكلاسيكية، صوب أفق حداثي رحب. ليست الأغنية السودانية اليوم مجرّد أغنية مبنية على الفولكلور الوطني، بقدر ما تمثل في جوهرها أغنية عميقة الصور والدلالات. والسبب الطفرة الموسيقية التي حقّقتها والتي جعلتها تتفوق على أنماط غنائية أخرى. فبين حداثة الكليب ورحابة الكلمة وحساسية العزف الموسيقي، ترسم الأغنية السودانية صورة لها أكثر تجذّرًا في الزمن المعاصر، بل لا يُمكن اعتبارها تاريخية من خلال تشكلاتها الجمالية، لأنّها غدت مبنية على توزيع موسيقي حداثي ومعاصر. فهي بقدر ما تنتمي من ناحية المزاج إلى الذاكرة العربية وبيئتها، فإنّها تتطلع كذلك وبعنفوان إلى عيش اللحظة المعاصرة بكل تحوّلاتها ومميزاتها ومباهجها. 

والحقيقة أنّ "المعاصرة" ليست سياقًا تاريخيًا ننتمي إليه فيزيقيًا، بل هي عبارة عن براديغم فكريّ يُؤسّس جوهر الأعمال الفنّية ويدفعها إلى الانغماس في إشكالات راهنة وقضايا فكريّة تتّصل بالأغنية العربيّة ومداراتها ككلّ. وهذا مطبّ الكثير من الأغاني العربيّة التي رغم ادّعائها امتلاك لغة جمالية جديدة عن طريق الموسيقى الإلكترونية وفتنتها، فإنّ الكثير من ألبوماتها، ما تزال تقف عند حدود الأغنية الحديثة، غير قادرة على اختراق نماذجها ومدارسها للانفتاح بقوّة على زخم التجربة المعاصرة، وما تفرضه من اشتباكٍ فنّي مُذهل في علاقتها بالموضوعات الفنّية والقوالب الغنائية والأنساق الموسيقيّة، كما يتم الترويج لها داخل المُختبر الموسيقيّ الغربي المعاصر.

تختلف الأغنية السودانية بتعدد المناطق التي ظهرت فيها، لكون هذا التنوع أعطاها قوة متفردة وجعلها تنطبع بخاصية التجدد، بما جعلها مؤثّرة في وجدان المُستمع. إذْ نعثر داخل مهرجانات عربية على تجارب غنائية تدفع المُشاهد إلى نسج علاقة تحاور معها. أما السبب فتتحكّم فيه أبعاد جمالية راجعة إلى الثورة التي حقّقتها موسيقيًا وراكمت على منوالها مشروعًا غنائيًا مُثيرًا. كما ساهم التاريخ من جهة أخرى في شحذ الأغنية السودانية بالكثير من القوّة والتنوّع. هذا الأمر، قادها في مراحل متعددة إلى خلق نوع من التجريب الفني المُنفتح على أنماط موسيقية جديدة، أكثر وعيًا بتحوّلات المرحلة التي نعيش فيها اليوم.

سير عابدين - آسيا ساتي


تتميّز الأغنية السودانية داخل المهرجانات العربية، لأنّها تمنح المستمع أفقًا غنائيًا مغايرًا من حيث الكلمة ومعجمها المحلي. لهذا نعثر على الكثير من الأسماء الغنائية وقد ذهبت في منجزها الغنائي أبعد من ذلك، حين طرقت باب الغناء السوداني، نظرًا للحظوة التي أصبحت عليها هذه الأغنية. بل بات الكثير من المغنين والمغنيات من العالم العربي يعمدون إلى اللون الأفريقي من أجل الاستفادة من جماهير هذه الأغنية التي تزداد يومًا بعد يوم، وخلق علاقة جديدة مع جماهيرها الأخرى التي تتردّد بقوّة على مهرجاناتها الغنائية.

ومن يتأمّل المشهد الغنائي العربي اليوم، سيكتشف مدى تأثير هذه الأغنية في الراهن الموسيقي العربي. بل إنّ سيطرة الأغنية المصرية الترفيهية على المهرجانات العربية، تجعل نظيرتها السودانية مغيّبة. لكون الأولى يبقى هاجسها الترفيه والتسلية، مقارنة بالسودانية وإنْ كانت تستخدم في بعض نماذجها موسيقى معاصرة تطبعها السرعة والترفيه، فإنّ حساسيات الكلمة وجمالياتها تجعلها تخرج من هذا الأفق الاستهلاكي الذي كرّسته الأغنية المصرية. بل تحرص الكثير من الوجوه المصرية مثل تامر حسني وشيرين عبد الوهاب وغيرهما على تكريس نوعٍ من الغناء الساذج الذي يُدغدغ مشاعر الناس فيجعلهم يُطلقون مجموعة من الأحكام الجمالية غير الدقيقة. ولأنّ النقد الموسيقي بالعالم العربي في معظمه عبارة عن كتابة صحافية خالية من الذوق الجمالي المُؤسّس على علم ومعرفة، فإنّ أغلب الكتابات تأتي بصيغة المدح الذي يقف عند حدود الشخص (الفنان) بدل العمل الفني. فتكون الكتابة في عمومها قريبة من الوهم أكثر من كونها حقيقة. إنّها ترسم بورتريهات عن شخصيات فنية حقيقية بأغانٍ وهمية تقف في ذيوعها عند حدود المهرجانات المصرية وميثولوجياتها.

نجحت الأغنية السودانية مع المغنية سير عابدين والمغنية آسيا ساتي وفرقة "السارة والنوباتونز" وغيرهم من التجارب الجديدة، في اختراق واقع الغناء العربي، حتّى أصبحت من الأسماء المُؤثّرة في راهن الغناء العربي. بحكم الإمكانات الكبيرة التي تحبل بها وقُدرتها على نسج علاقات هامّة مع كبار الفنانين والنجوم العرب والعمل على خلق مناخات مناسبة للعمل المهني الجاد. بل إنّ الكثير من الفنانين العرب تخلوا في مسارهم الإبداعي عن لهجاتهم المحلية التي عُرفوا بها غنائيًا واتجهوا صوب نمط الغنائي الأفريقي. وذلك من أجل الاستفادة من الجماهير الكبيرة التي أصبحت تُتابع وتُعاين الأغنية السودانية الجديدة بكل طفراتها الفنية ومباهجها الجمالية. غير أنّ هذه التجارب تبقى مجهولة بالنسبة للمستمع العربي لعدم وجود حركة نقدية عربية تساير تطورات الأغنية السودانية وتحولاتها منذ السبعينيات إلى اليوم.

إذْ نادرًا ما نعثر داخل صحف ومجلات ومنابر على مساحات نقدية تتابع حركة الغناء والفنّ السوداني بشكل عام، وتعمل على التعريف به وبأهم رواده ومدارسه. وذلك بطريقة تصبح فيها الأغنية مختبرًا لفهم تحولات المجتمع وتأمل طبيعة هذا التحول الذي يساهم بشكل تدريجي في التأثير على الأغنية التي تلتقط كلماتها ومعانيها من البيئة السودانية المُنفتحة على متاهات العالم المعاصر.

تتميّز الأغنية الجديدة في أنها استطاعت في وقتٍ وجيز أنْ تتشرّب خصائص وأصالة الموسيقى المعاصرة وتعاود ابتكارها بطريقتها الخاصّة، بدون أنْ تصبح لسان حالها. هذا الفهم العميق للموسيقى المعاصرة يظهر في أعمال تجارب غنائية شبابية، تحاول في ألبوماتها وأغانيها المنفردة الحفاظ على أصالة الكلمة السودانية وذاكرتها.

والحقيقة أنّ ما يجعل الأغنية السودانية تتطوّر من تلقاء ذاتها، أنّها لم تنطبع بلبوس السياسة والأيديولوجيا. ففي السبعينيات والثمانينيات، كانت حركات الغناء بالعالم العربي ذات امتداد عميق لما يجول في المجتمع، فبدت الأغاني وكأنّها تعبير عن إرادات أحزاب ومليشيات. هذا الأمر تكرّر في سورية ولبنان ومصر، حيث تحوّلت الأغنية إلى وسيلة من وسائل النضال وأداة ناجعة لإدانة الواقع وتحوّلاته. في وقتٍ ظلّت فيه الأغنية السودانية بعيدة عن المنزع السياسي، بحيث كانت الأغاني أكثر تجريبًا وولعًا بالموسيقى المعاصرة. وهذا البقاء في قبضة التجريب الجمالي، هو الذي جعل الأغنية السودانية تبقى أمينة للهواجس الجمالية، بدون طرق باب السياسة ومكرها.