التقنيات وحدها هي التي تتطور مع مرور الزمن أما الأفكار فإنها تضمحل، فكلما عدنا إلى الوراء نجد الأفكار أكثر توهجًا والتقنيات أكثر بساطة، وفي المقابل كلما أمعنا النظر في الراهن نجد الأفكار أكثر اضمحلالًا والتقنيات أكثر تطورًا. هذا ما ينتابك عند مشاهدة الفيلم الإيطالي "الطريق" للمخرج المبدع فيديريكو فيلليني، تمثيل جولييتا ماسينا وأنطوني كوين، إنتاج عام 1954. فالفكرة تنبض بالحياة طالما أن مداها غير محدّد، فمقتل الفيلم، أي فيلم، إذا وظف للتعاطي مع إفرازات مرحلة تاريخية محددة، والزمن مثل التراب يتسرّب رويدًا رويدًا من بين أصابع يديك من دون أن تتمكن من إدراك ما فاتك من عمر. أما عندما تكون الفكرة وجودية ويكون صانعها (وهو المخرج فيلليني) بهذا الدهاء ولا نقول الذكاء فحسب، فإن الفكرة تحظى بالخلود ولا يمكن، بأي شكل من الأشكال، أن تنفرط وتذهب مع الزمن سدى، كونها إيحاء محسوسا وليست حدثا ملموسا، مما يجعل من الفكرة نجمة يراها سكان الأرض قاطبة كل من مكانه، ومن زمانه، من أي زمان.
أقول هذا الكلام للتعبير عن المشاعر التي تنتابني وأنا أكتب عن فيلم خرج إلى حيّز الوجود قبل ما يقرب السبعة عقود. والفيلم اسم على مسمى "الطريق" حيث عليك أن تقرأه من أكثر من مستوى لتدرك إلى أين تقودك هذه الطريق.
يقدّم الفيلم فتاة ريفية بريئة (تقوم بدورها جولييتا ماسينا) تدعى جيلوسمينا، تبيعها عائلتها، تحت ضغط العوز، إلى زمبانو (قام بدوره أنطوني كوين)، وهو رجل فظ الطباع، سكير، يجوب القرى بعربته ويقدّم عروضًا استعراضية لقوته في الشوارع.
تظهر جيلوسمينا وهي تتبع زمبانو للركوب معه في العربة أقرب إلى طفلة تتعامل ببراءة مع مرحلة ستشكل منعطفًا حاسمًا في حياتها، فهذه البراءة ما تلبث أن تصطدم بفظاظة الرجل القوي الذي يبدو أقرب إلى الحيوان منه إلى الإنسان، بل إنك تراه فعلًا على هيئة ذئب مسكون بكسب المال والأكل ومعاشرة فتيات الشارع، ومعاشرة الطفلة البريئة (جيلوسمينا) في لحظة غريزية خاطفة من دون مشاعر.
ومع تكرار التجوال بين القرى والشوارع لتقديم عروض استعراضية متكرّرة تساعد فيها جيلوسمينا بالضرب على الطبل والعزف على البوق، تضيق الفتاة البريئة ذرعًا بحياة لا استقرار فيها فتحاول أن تهرب غير أنها تصطدم بواقعها إذ لا مكان تلجأ إليه، أو لعل شيئًا ما منعها من الرحيل، ربما حبها لزمبانو، الذي تنامى على غفلة ومن دون إدراك منها، وهذا ما نبّهها إليه (البهلوان) الذي يعمل بالسيرك حين دعاها لأن تهرب معه بينما زمبانو في السجن، وحين تمنعت أدرك أنها تحب زمبانو، بل وأدرك أيضًا أن زمبانو يحبها أيضًا بدليل أنه يبحث عنها، عندما حاولت الهرب، وأعادها عنوة. يقول لها البهلوان: "لا بد أن لديك شيئًا مفيدًا يجعل زمبانو يحتفظ بك". وحين تنظر إليه مستوضحة، يرد: "كل شيء مفيد حتى الحصى".
ويتواصل الخطان المتوازيان بالفيلم: البراءة المستباحة والجنون السائد. يقيمان ليلة في الدير حماية من المطر، وهناك تقول الراهبة إنهم في الدير أيضًا يتنقلون ولا يستقرون في دير واحد خشية أن تنشأ علاقة ما بينهم وبين المكان، غير أن جيلوسمينا تحنّ إلى المكان وإلى البيت الدافئ، وتبدو، في تلك الليلة، أكثر قدرة على التعبير عن مشاعرها لزمبانو الذاهب في ملذاته حد الترف، المستقوي على الآخرين بعضلاته حد القسوة، غير أنه يقمعها ويطلب منها أن تشاركه السرقة من مقتنيات الدير.
وتأتي نقطة التحول بالفيلم عندما يلتقي زمبانو بالبهلوان على الطريق فيتعاركان وتكون النتيجة مقتل البهلوان. لا تحتمل جيلوسمينا ما رأت، في حين يصرّ زمبانو على تجاهل ما جرى وكأن شيئًا لم يكن، وهذا ما لا تحتمله فتبدأ بالهذيان وترديد: "البهلوان مجروح"، مما يضطر زمبانو لأن يتركها على قارعة الطريق في مشهد مؤثر، نراه فيه ينظر إليها بحنان وهي نائمة وسط العراء فيضع إلى جوارها البوق الذي يلازمها دائما ويذهب في سبيله تاركها لمصيرها المجهول.
ينتقل بنا الفيلم بعد سنوات حيث يظهر زمبانو متجولًا في إحدى القرى، والشيب غطّى أطراف شعره، ويعرف هناك أن جيلوسمينا قد ماتت بعد أن حط بها الترحال في هذه القرية، وقد وصل بها الإعياء إلى حدّ لا شفاء منه، إذ يسمع أثناء تجواله امرأة تدندن لحن جيلوسمينا الحزين، يسألها من أين أتت بهذا اللحن، فتخبره السيدة عن الفتاة التي وجدوها هائمة على وجهها، وهي مصابة بحمى شديدة، وقد ماتت بعد أيام من وصولها القرية. فيبكيها زمبانو بحرقة، وكأنه يبكي نفسه. يبكي مشاعره التي فاضت مرة واحدة محطمة الجليد الذي ظل يحيط نفسه به.
هذه القراءة لا تفي الفيلم حقه في معمعان التضليل الذي يمارسه المخرج فيلليني على مشاهديه حيث إنك تبقى حتى اللحظة الأخيرة لا تدري إلى أين تقودك الطريق، مما يدعوك لأن تجنح قليلا نحو ما يزخر به الفيلم من إيحاءات، فجيلوسمينا تمثل الطبيعة التي لم تخدشها الحياة بعد، تلقائية، تهوى أن تعيش كما تنمو نبتة أو وردة جورية على سفح جبل، فتاة يانعة تحنّ للمكان، وتحلم أن تحفر لنفسها عشًا زوجيًا في الأرض أو على غصن شجرة لا فرق، غير أنها تصطدم بواقع بليد، أسير قوته اليومي، ومورد الرزق: مورد لأي رزق؟ لوجبة يومية متكررة؟! واقع يكرّر نفسه والطريق طويل لا ينتهي، والحركات الاستعراضية واحدة لا تتغيّر، بل وحتى الكلمات التي تسبق الحركات الاستعراضية، ودقات الطبل متشابهة، باستثناء ما ابتدعته (جيلوسمينا) في عزفها على البوق: لحن حزين يحنّ إلى العودة أو الاستقرار في مكان ما.
طريق لا ينتهي، يفترس كل شيء بريء حوله، طريق بليد، حيواني، صقيع بارد، ببرودة الطقس الذي لفح الأجواء وجيلوسمينا تبكي البهلوان الجريح، فيما النار تحتاج إلى المزيد من الحطب. هذا ما طلبته بعد عشرة أيام من الصمت تلت صدمتها بموت البهلوان؛ طلبت نارًا تذيب الجمود من حولها. فلبّى زمبانو طلبها وأشعل نارًا ما لبثت أن انطفأت، حين تركها في الخلاء وغادر المكان. والبهلوان ليس مهرّجًا في سيرك فقط بل هو ضمير، وهو الذي التقط براءة جيلوسمينا، وهو الذي أدرك حيوانية زمبانو. سألته جيلوسمينا: لماذا تستمر في استفزازه؟ قال البهلوان: "أنا لا أعرف لماذا أسخر منه بالضبط، ولكني أفعل ذلك فحسب". والصحيح أنه يسخر من وحشيته، غير أنها سخرية هشة غير قادرة على تغيير مسلك الطريق، بدليل أن الشجار الذي تسبّب بمقتل البهلوان لم يزد عن لكمتين خاطفتين، مات على أثرهما البهلوان!
سئل مخرج الفيلم فيلليني إن كان يرمز إلى نفسه في فيلم "الطريق" من خلال شخصية زمبانو، فقال بأنه إذا كان لا بد من وجود شخصية تعبّر عنه فعلًا في الفيلم فهي بالضرورة شخصية جيلوسمينا، تلك المرأة الغارقة في البراءة حتى الثمالة، وسط عالم شرس يمنع عليها الحنان، ويحاول في الوقت نفسه أن يسرق منها براءتها، غير أن الموت وحده هو الذي يحفظ براءتها.
ومن يعرف المخرج فلليني، أو من يقرأ عنه، لا بد أن يبحث عنه في أفلامه، ففي السينما التي يقدّمها شيء منه، وسينماه كلها كانت سينما عن الحب، عن فقدان الحب، عن الشوق إلى الحب.
ترى هل يمكننا هنا أن نقارب بين حنان زمبانو المتأخر، وبين تلك الصرخة التي وجّهها فيلليني نفسه إلى زوجته يوم أُعطيَ أوسكارًا تكريميًا عن كل أعماله، خلال احتفالات الأوسكار للعام الذي مات فيه- 1993، قائلًا لها وقد رأى الدموع تسيل من عينيها فرحة وحزنًا وحنانًا في الوقت نفسه: "جوليتيا هلّا كففت عن البكاء؟"!
يجمع النقاد على أن فيلم "الطريق" هو أحد أبرز الأفلام في تاريخ السينما العالمية، ذلك أنه يرصد بدقة متناهية مشاعر إنسانية صادقة، ولكن من الصعب التعبير عنها، ويقول لنا، أي الفيلم، إن ثمة أشياء كثيرة نحبها في الطريق علينا أن نتوقف عندها، فما الحياة سوى طريق، نبحث فيها عن الحب، والويل لمن يغفل عنه، أو يحاول أن يتجاهله، أو يحسب أن الطريق تفضي إلى مسارات أخرى.