Print
عبد الكريم قادري

"ملتقى قمرة السينمائي": كسر الهيمنة ومد الجسور للمواهب الشابة

19 مارس 2024
سينما
اختتمت قبل أيام قليلة، فعاليات الدورة العاشرة لملتقى قمرة السينمائي (1ـ 6 آذار/ مارس 2024)، وهو نشاط سينمائي تنظمه سنويًا مؤسسة الدوحة للأفلام، ترصد من خلاله أهم المشاريع السينمائية المحلية والعالمية، مع جعله حاضنة للمواهب التي لم يُنتبه لها كما ينبغي، ومنطلقًا أساسيًا يكتشف ويساعد ويدعم كل من يملك الأدوات السينمائية المناسبة، لتضمن له الانطلاق، وتعطيه الأجنحة المناسبة ليحلق بها عاليا، في سماء هذه الصناعة التي أثبتت أهميتها الجمالية والفنية والدعائية، وحتى النجاعة الاقتصادية.

والحديث عن قمرة يقود مباشرة إلى محاولة فهم أبعاد وأهداف مؤسسة الدوحة للأفلام، وهي مؤسسة ثقافية مستقلة وغير ربحية، تأسست سنة 2010، وهي الجهة التي ترعى وتنظم ملتقى قمرة السينمائي، إضافة إلى تمويل كل المشاريع والتظاهرات السينمائية في قطر، كما تساهم في "نمو الأفلام المحلية، من خلال تعزيز التعليم السينمائي ورفع الذائقة السينمائية والمساهمة في تطوير وبناء صناعة سينمائية إبداعية ومستدامة في قطر".

كما أنها ترسم وتخطط وتنظم البرامج السينمائية على مدار العام، من ناحية: "تمويل وإنتاج الأفلام المحلية والإقليمية والعالمية، والبرامج التعليمية وعروض الأفلام"، إضافة إلى إلتزامها حسب ما جاء في ديباجتها "بدعم الرؤية الوطنية 2030 الرامية إلى بناء اقتصاد قطري مستدام يقوم على أسس المعرفة"، ومن أدواتها الضرورية في تجسيد هذه الرؤيا وتحقيق أهدافها هو تنظيمها لملتقى قمرة السينمائي بتعدد أهدافه ورؤاه.



طريق سالكة نحو المواهب الشابة

ساهم ملتقى قمرة السينمائي منذ تأسيسه قبل حوالي عشر سنوات، في دعم المئات من الأفلام السينمائية المهمة، ليس في العالم العربي فقط، بل أيضًا في معظم دول العالم وفي القارات الخمس، ولقد كسر هذا الدعم أيديولوجية الكثير من الصناديق الأوروبية والغربية المختصة في الدعم السينمائي المشروط، والشروط في هذه الحالة ليست سينمائية بالضرورة، أو ترتكز على أسس فنية، بل ثقافية سياسية، وذات منطلقات معينة، تخدم بشكل أو بآخر الجهة المانحة أو من تنحو نحوها ثقافيا، وهي دول غربية في عمومها، مثل مؤسسات الدعم الفرنسية المختلفة، بوصفها أكثر صناديق الدعم انتشارًا ومشاركة وهيمنة، لأننها تفرض على المخرج أو الجهة المنتجة صاحبة المشروع السينمائي جملة من المنطلقات، من بينها مثلًا فرض نسبة معينة من اللغة الفرنسية في حوار الفيلم، وأكثر من هذا تم تدريب وتوجيه لجان وقرّاء السيناريوهات التي يتم دعمها، على السير على خطوط معينة، ولهذا يتم مناقشة وتعديل وفرض وجهات نظر على الفيلم، حتى أن هناك من تعجب من شكل سيناريو الفيلم الذي قدمه من كثرة التغييرات، وأصبح لا يمثله ولا يمثل هويته وثقافته وفكره في شيء، من هنا أصبح المخرج مجرد أداة تمرر من خلالها تلك الصناديق ذات التمويلات المشبوهة أفكارها وثقافاتها وأهدافها.

لكن مؤسسة الدوحة للأفلام، وعن طريق برامجها وفعالياتها وورشها وطرق دعمها، كسرت تلك الهيمنة، أو بعبارة أكثر تواضعًا، ساهمت في تنويع مشارب الدعم، من خلال تجردها من المنطلقات المفضوحة والهيمنة الثقافية على أصحاب المشاريع، وانتصرت للسينما وجوهرها، ومن هنا عملت على إعادة قطار الدعم السينمائي إلى سكته الصحيحة إلى حد ما، ووأدت معظم التوجهات السينمائية المشبوهة، وأكثر من هذا كله خلقت فرصا مهمة لصنّاع السينما العرب، واكتشفت العديد من المواهب التي كانت مقبورة، محاصرة في زواياها المظلمة، وأطلقت العنان لتجاربهم السينمائية الجديدة، وجعلتها تذهب صوب العديد من المحافل السينمائية الكبرى، وتخرج من الكثير منها منتصرة، بالتكريمات والجوائز وحتى المشاركات المختلفة، وما كان ليجري هذا، أو ما كان ليحدث بتلك الطريقة الناجحة، لو لم تكن هناك مرافقة موضوعية كمرافقة برامج مؤسسة الدوحة للأفلام، ممثلة في ملتقى قمرة السينمائي الذي تم تأسيسه عام 2014.

من الندوات خلال "ملتقى قمرة السينمائي" 


تجارب أولى وثانية: حلم تجلى نحو المستقبل

تختص قمرة بشكل جزئي حسب منطلقها الأساسي "بدعم صناع الأفلام الذين يخوضون تجاربهم الإخراجية الأولى أو الثانية، وتتضمن فعالياتها إقامة عروض مخصصة لجماهير الدوحة من أفلام الخبراء السينمائيين في قمرة، والمخرجين الحاصلين على تمويل من مؤسسة الدوحة للأفلام، وتنقسم فعاليات الملتقى إلى ثلاثة أقسام وهي: ندوات دراسية، اجتماعات عمل، وعروض الأفلام".

في حين تقوم مؤسسة الدوحة للأفلام كجهة أساسية في تسيير برامج التطوير، والإنتاج والتمويل بعد مرحلة الإنتاج للمخرجين من قطر، وصانعي الأفلام في التجربة الأولى والثانية من جميع أنحاء العالم، إضافة إلى التمويل المشترك الذي يستثمر في الإنتاج السينمائي من خلال الشراكات الإستراتيجية مع مشاريع الأفلام. ليصبح بذلك اسم مؤسسة الدوحة للأفلام علامة بارزة تظهر في "جينيريك" العديد من الأفلام المهمة عبر العالم، وهذا الحضور استحوذ على معظم الأفلام، في المقابل بات من النادر أن لا تعثر على وسم أو اسم مؤسسة الدوحة للأفلام في الأفلام، وهذا ما يعكس استراتيجية الانتشار والعمل الدؤوب والخيارات الذكية التي تقودها فاطمة الرميحي، الرئيس التنفيذي لمؤسسة الدوحة للأفلام، انطلاقًا من رؤاها ورؤى إطاراتها وخبرائها أو المهنيين الذي تتعاون معهم، وقد انعكس هذا الجهد في نوعية الأفلام واكتشاف المواهب وإبراز أسماء وأفلام عربية. وهناك العديد من الأمثلة العملية في هذا السياق، من بينها أفلام تم إنتاجها سنتي 2023 وحتى 2024، عرفت انتشارًا كبيرًا في جميع دول العالم، وصاحبها اسم دول قطر كجهة منتجة أو مساهمة في الانتاج، عن طريق مؤسسات دعمها المذكورة، مثل الفيلمين الوثائقيين الفلسطينيين "باي باي طبريا" (فلسطين، فرنسا، بلجيكا، قطر/ 2023)، للمخرجة لينا سويلم، ويروي قصة هيام عباس، التي تركت قريتها الفلسطينية دير حنا في الجليل الأسفل لتحقيق حلمها في أن تصبح ممثلة، تاركة وراءها والدتها، وجدتها وشقيقاتها، و"عمل فدائي" (فلسطين، ألمانيا، قطر/ 2024) للمخرج كمال الجعفري، وتدور أحداثه في صيف عام 1982، عندما احتل الجيش الإسرائيلي بيروت، واقتحم مركز الأبحاث الفلسطيني، وقام بتدمير ونهب مكتبته التي تحتوي على 25 ألف مجلد عن فلسطين. والفيلم يخلق صورة مضادة ردا على نهب الذكريات.


إضافة إلى فيلم "عن الأعشاب الجافة" (تركيا، فرنسا، قطر/ 2023) وكان ضمن الاختيار الرسمي لقسم المسابقة في الدورة السادسة والسبعين لمهرجان كان السينمائي، 2023. وهو من إخراج أحد خبراء قمرة، نوري بيلج جيلان، ويتتبع قصة ساميت، المعلم الشاب، الذي أنهى عامه الرابع من الخدمة الإلزامية في قرية نائية في شرق الأناضول، لكن عندما تحدث له مواقف يصعب عليه فهمها، يفقد آماله في الهروب من الحياة القاتمة التي يبدو أنه عالق فيها، وفيلم "كذب أبيض" (المغرب، فرنسا، قطر/ 2023) للمخرجة أسماء المدير، وهو فيلم وثائقي طويل يبحث في أسرار عائلة من الدار البيضاء عبر سرد قصص شخصية مختلفة لكل فرد من أفراد الأسرة لتسليط الضوء على الأحداث التاريخية.

هذه بعض الأمثلة عن أفلام جديدة، وتعتبر جزءًا يسيرًا من عدد الأفلام التي تم المساهمة في إنتاجها خلال السنوات الماضية، وهو ما يعكس استشرافية رؤيا مؤسسة الدوحة للأفلام انطلاقا من يدها العملية: "ملتقى قمرة السينمائي".

حديث الأرقام والنتائج والاستشراف السينمائي

منذ انطلاق أول طبعة منه سنة 2014، اعتمد "ملتقى قمرة السينمائي" على لغة الأرقام والإنجازات، وهذا من خلال دعوة أهم صنّاع السينما في العالم، من أجل تقديم ورش ومحاضرات وتجارب لمواهب قطر والعالم العربي في السينما، وكل سنة يتم زيادة تلك الأرقام والذهاب صوب الأسماء الأكثر تأثيرا في هذه الصناعة، وحسب البيانات التي أصدرها الملتقى للصحافة، فقد شارك في هذه الطبعة  أكثر من 200 مختص في صناعة السينما، قدموا النصائح والإرشادات لمختلف المشاريع حول السرد القصصي، صناعة الأفلام، الإخراج، المونتاج، التصوير السينمائي والصوت، كما ركزوا على الحاجات الخاصة لكل مشروع.



وقد تتضمن قائمة المشاريع المشاركة حسب البيان دائمًا 13 فيلمًا روائيًا طويلًا، و11 فيلمًا وثائقيًا، و11 فيلمًا قصيرًا، و7 مسلسلات للتلفزيون والويب في مراحل مختلفة من الإنتاج. ومن بين قائمة المشاريع المُختارة، شارك 13 مشروعًا لصناع أفلام مقيمين في قطر، من بينها 11 مشروعًا لمواطنين قطريين، "مما يؤكد التطور السريع للمشهد السينمائي المحلي وقدرات المواهب الوطنية الواعدة وكذلك للمقيمين في قطر".

كما شارك 32 صانع أفلام حصلوا على دعم من برنامج المنح في مؤسسة الدوحة للأفلام، و3 تم دعمهم من صندوق الفيلم القطري. بالإضافة إلى ذلك، وضمن نظام الدعم القوي الذي تقدمه المؤسسة، شارك 15 من صناع الأفلام المشاركة في برامج التدريب في المؤسسة من ضمنها ورشة "حزاية" لكتابة السيناريو، ورشة المنتجين، ورشة كتابة سيناريو الأفلام القصيرة، ورشة الأفلام الوثائقية مع ريثي بان، ورشة المسلسلات، وورشة المونتاج الأولي (فيرست كات).

انطلاقًا من هذه الأرقام المهمة، فإن تباشير السنة أو السنوات المقبلة ظهرت منذ الآن، وهي تشي بأن هناك العشرات من الأفلام المهمة سيتم إصدارها، ومعظمها ستكون بنكهة عربية، بمعنى أن العالم سيكتشف العديد من الأفلام العربية، وسيعرف مخرجين جددًا، ربما لم تعرفهم الساحة من قبل، وكل هذا يخرج من برامج "ملتقى قمرة السينمائي" ومن قطر.