في قلب عروس المتوسط وعلى مدار ستة أيام، أقيمت فعاليات الدورة العاشرة لمهرجان الإسكندرية الدولي للفيلم القصير في الفترة من 25 حتى 30 نيسان/ أبريل 2024. تقدّم لدورة هذا العام ما يزيد عن 1200 فيلم للتنافس في فئاتها الثلاث؛ الروائي والتسجيلي وأفلام التحريك، وهو ما تم تصفيته من خلال لجان المشاهدة والفرز إلى 51 فيلمًا، تمثّل أكثر من 30 دولة عربية وأجنبية، كما لم يخلُ البرنامج من بعض الأفلام الحصرية في عرض أول، سواء على المستوى الإقليمي أو الدولي.
تقوم بتنظيم المهرجان واحدة من جمعيات المجتمع المدني بمدينة الإسكندرية برعاية وزارة الثقافة، كما يتمتع المهرجان بخصوصية تميزه عن كافة المهرجانات حيث يتولى أبناء المحافظة المستضيفة معظم المهام، ما يطعمها بطابع محلي رائق. وخلال العقد الفائت، تعاقب على المهرجان عدد من المتغيرات نتج عن ذلك انتقاله من المحلية ثم العربية ومن بعد الدولية. بدأ المهرجان كفكرة طرحت على مقهى شعبي أثناء جلسه قديمة لمجموعة أصدقاء سينمائيين من الشباب طمحوا في إقامة مهرجان لـ "نشر ثقافة الصورة والسينما بالإسكندرية"، مدينة السينما الأولى منذ عروض الأخوين لوميير، وها هما الأخوان محمد وموني محمود يكملان ما سبق، رئيس المهرجان والمدير الفني.
من خلال تتبع الدورات السابقة، يتبيّن لنا أننا بصدد كيان لا يتعمد البروباغندا الزائفة ويعتمد في مسيرته على التكاتف التطوعي، سواء من الأفراد أو من بعض المؤسسات والجهات الراعية وهي الموارد الأساسية لميزانية المهرجان المحدودة. وقد يأتي هذا الدعم في صورة خدمات بسيطة كتوفير حافلة أو حافلتين من هيئة النقل العام بالمحافظة، لنقل المشاركين وضيوف المهرجان بين الفندق ومسرح الفعاليات الذي تراوح بين المتحف الروماني ومكتبة الاسكندرية وسينما مترو، وهو ما صنع عددًا من المواقف الطريفة خلال أيام الفعاليات؛ فكثيرًا ما كان الناس في الشارع يشيرون لسائق الأوتوبيس في المحطات أو عند الإشارات بفتح الباب فيتفاجأ بوجوه مألوفة لفنانين من بينهم الممثل حمزة العيلي، المخرجان عمر عبد العزيز، صاحب الأفلام الجماهيرية "يا رب ولد. هنا القاهرة. الشقة من حق الزوجة. تجيبها كدة... وغيرها"، وهاني لاشين أو المنتج والسيناريست محمد العدل وغيرهم، فيظن بعض المارة أن ثمة فيلمًا يجري تصويره داخل الأوتوبيس.
سينما "مترو": "كامل العدد"
خصصت سينما "مترو" قاعة لعرض الأفلام وهي من أشهر سينمات المدينة الساحلية، أنشئت منتصف القرن الماضي، وتقع في حي "العطارين" القريب من وسط المدينة، وهو ما انعكس على الحضور اللافت رغم نوعية الفيلم القصير الذي لا يحظى عادة بمثل هذا الإقبال، لهذا كانت لافتة "كامل العدد" بمثابة شهادة معلقة على معظم الحفلات. احتوى برنامج العروض على مجموعة متنوعة ومميزة من الأفلام إلا أن التمثيل المصري لم يكن على المستوى المأمول، وهو ما انعكس في نتائج التحكيم في كافة الفئات باستثناء مسابقة "أفلام الطلبة".
في عرض أول بأفريقيا والشرق الأوسط، افتتح المهرجان دورته الجديدة بالفيلم البريطاني "النداء الأخير" للمخرج الشاب هاري هولاند، ليحصد "جائزة لجنة التحكيم" الخاصة بجمعية نقاد السينما المصريين في تعاون مستمر بين المهرجان والجمعية على مدار ست دورات، وتحمل الجائزة اسم الناقد السينمائي الكبير سمير فريد لأفضل فيلم. خلال (19) دقيقة استطاع السيناريو المحكم تجسيد حالة شعورية لأم فقدت ابنها، فيما يشبه تيار الوعي نتابع من خلاله مقابلة عابرة جمعت الأم والابن المتوفي أثناء تعرضها لحادث سير، وهنا يخلط الفيلم أوراق اللعبة متأرجحا بين الحقيقة والخيال.
في إطار مشابه حول تيمة الأم، وفي عرض أفريقي أول، نتابع الفيلم الفلبيني "أمهات تحت الطلب" للمخرج سوني كالڤينتو الذي استحق عن جدارة "جائزة هيباتيا الذهبية" ضمن مسابقة الأفلام الروائية كأفضل فيلم، ويعتبر من أفضل الأفلام المقدمة لهذا العام حيث جمع بين الرهافة والقسوة في قالب ساخر يدور في عالم من الكوميديا السوداء، تتسابق فيه مجموعة من الأمهات المطحونات أمام كاميرا أحد برامج التوك شو، يذكرنا بالرواية الشهيرة "إنهم يقتلون الجياد" (1935) للأميركي هوراس ماكوي التي تحولت إلى فيلم بالعنوان نفسه (1969) إخراج سيدني بولاك.
من المزايا الملموسة أيضًا في برنامج الأفلام هو التمثيل النسائي سواء على مستوى أعضاء لجان التحكيم في مختلف المسابقات، أو على مستوى المشاركين من صناع الأفلام أو حتى على مستوى الموضوعات، مثل الفيلم الجزائري "الطفطافة والمقنين" في عرض أول بمصر إخراج أمير بن صيفي والذي حاز "جائزة هيباتيا الفضية" في مسابقة الأفلام العربية. ويناقش الوضع القمعي للمرأة في المنطقة العربية، وذلك من خلال تحقيق سريالي أشبه بمحاكمة تدور بين محقق –رجل- يختفي وراء الكاميرا وبين بطلة الفيلم، أما الجرم الذي اقترفته فهو أنها قامت بصحبة صديقتها برحلة فوق "طفطافة – دراجة نارية" بمفردهما وهو ما يتعارض مع قيم وأعراف المجتمع الأبوي.
سينما خارج الصندوق
تتعامل إدارة المهرجان بفلسفة ديناميكية تتيح بيئة خصبة لتوالد الأفكار وتخليقها أو الخروج بها خارج الصندوق، خصوصًا وغالبية فريق المهرجان من الشباب يؤثرون مبدأ التمكين في المقام الأول، لذلك لم يكن من الغريب أن تتحمس الإدارة لتدشين قسم جديد يضاف للمهرجان في سابقة هي الأولى من نوعها في مصر ويختص بـ "سينما المكفوفين" برعاية وزارة التضامن الاجتماعي. البرنامج من إعداد المخرج والممثل المصري محمد جلال ومشاركة الإعلامية المغربية هنا العايدي وقاما بالتعليق الوصفي على بعض الأفلام التي تم تجهيزها لإجراء التجربة، التي حظيت بردود أفعال طيبة من الجمهور من متحدي الإعاقة البصرية المعتادين على الوصف الإذاعي للأفلام.
انتهجت الإذاعة المصرية قديما أساليب عدة لنقل الدراما إلى الأثير الإذاعي سواء من المسرح أو السينما، في محاولة رائعة لإثبات قدرة الكلمات على تشكيل الصورة. من أشهر هذه البرامج على سبيل المثال "من الشاشة إلى الميكروفون" وفيه يتم تقديم فيلم يصاحبه وصف صوتي لشرح تفاصيل المشاهد غير المرئية للمستمعين. لم تقصد هذه البرامج فئة من المجتمع بعينها حيث اعتادت برامج الإذاعة أو بثها المباشر على الوصف البصري لما يحدث، كما نلاحظ مثلًا في حفلات أم كلثوم التي اجتمع كل مقدّميها من الإذاعيين على وصف الحركة والمشهد داخل المسرح. من هنا كان حجم التفاعل كبيرًا للغاية للجمهور من مبصري الروح، وهم مجموعة متنوعة استضافهم المهرجان عن طريق إحدى جمعيات الرعاية وذلك لحضور العروض ومعايشة التجربة على أرض الواقع، وكانت مداخلاتهم مثمرة يجب الأخذ بها في الاعتبار مستقبلا.
مبادرة هامة ومسؤولية لا تقل أهمية يضعها المهرجان على عاتقه لاستكمال مشروع مثل "سينما المكفوفين"، وليكن هذا المشروع بمثابة دعوة مفتوحة لشركات الإنتاج وصناع السينما في مصر لتكملة ما بدأه المهرجان وتوفير الإمكانيات اللازمة لذلك، وهو ما يمكن أن ينتج عنه مستقبلًا سينما خالصة تتناسب مع ضعاف وفاقدي البصر بداية من السيناريو المكتوب الذي يمكنه التوظيف الفني والدرامي لمساحات من الصمت، على سبيل المثال يمكن من خلالها إدراج التعليق للوصف الصوتي. حينئذ أيضًا يمكن أن تخرج علينا أفلام تجريبية تقوم على الترشيد البصري إلى أقصى حدّ ممكن. وربما فاجأنا بعض المخرجين أو المنتجين بنسختين من الفيلم، واحدة للمبصرين وأخرى لذوي الهمم، وغالبًا سيخلق هذا الحراك فضاءً سينمائيًا مغايرًا لم تشهده دور العرض من قبل، وهو ما يعكس صدق الشعار الذي اتخذه المهرجان: "سينما لكل الناس".