Print
كارلوفي فاري ـ ندى الأزهري

غربة الأفراد وغرابة الأمكنة: غرفة الفندق مثالًا

17 يوليه 2024
سينما

 

غرفة الفندق هي اللامكان بامتياز، في صورتها السينمائية والواقعية، حيادية وباردة تجعلها قابلة لأن تكون في أيّ مكان. تتشابه لدرجة عجيبة، لولا هذه النافذة التي قد تطلّ على مشهد بعيد ضبابي من مدينة ما، أو ربما ردهة داخلية تلتقي عندها نوافذ أخرى. هي مساحة عامة تصبح خاصة لوقت، زمن مؤقت، مُعلّق بين فضاءين في بلدين أو مدينتين، أحدهما أليف وآخر غريب، وقد يكون الأليف غريبًا والغريب أليفًا. غرفة الفندق غربةٌ وإحساس باللانتماء، تكريس لشعور بوحدة في هذا العالم الذي يدّعي التواصل. غربةٌ عن مكان أصلي، وغربةٌ في مكان طارئ.

هذه الغرف، الأليفة في تشابهها، لمسافرين يحطّون الرحال كلٌّ لغرض، أوحت بفيلم بقصص عدّة مع شخصيات متفرّقة لمخرج صيني فاز عنه بجائزة كبرى. عُرض فيلم "غريب" (2024) للمخرج تشانغ فان يانغ Zhengfan Yang في الدورة الـ 58 لمهرجان كارلوفي فاري السينمائي الدولي Karlovy Vary International Film Festival  (28 حزيران/ يونيو- 6 تموز/ يوليو 2024). اختير للمشاركة في مسابقة بروكسيما  Proxima Competition، وهي المسابقة الثانية التي تهتم بأفلام أولى أو ثانية، وتوفّر مساحة للأصوات الجديدة المبتكرة في العالم من مختلف التيارات السينمائية، وهو ما توفّر بالتأكيد في هذا العمل الذي فاز بالجائزة الأولى فيها.

ليست الجدّة أو الابتكار في جعل غرفة الفندق مكانًا وأساسًا لحدث ما، بل في إبدائها مكانًا يُكرّس الغربة، ويعني المجيء والذهاب. يقيم الناس في فندق لفترة من الوقت، هو جزء من حياتهم، تتوفّر لهم مساحة خاصة للاستلقاء مؤقتًا في مكان غريب، تطفو فيه مشاعر دفينة. فمن هم ومن أين أتوا؟ ماذا يحدث في الغرف؟ في الفيلم سبعة مشاهد، في كل منها حكاية صوّرت في لقطة واحدة متواصلة بكاميرا واحدة تدور في حيّز ضيق خانق، لكنها مع ذلك، تفتح أبعادًا جديدة وآفاقًا مثيرة للدهشة في ابتكاراتها غير المتوقعة. فلا أحداث حقًا ولا ذروة ولا صعود أو هبوط، بل إيقاع بطيء وسرد يسير على وتيرة مستقيمة متمهلة، وحوارات غامضة تصبغها كوميديا سوداء ساخرة. القاسم المشترك بين القصص، وبالأحرى الشخصيات، هو الصين، البلد الأصلي لكل الأبطال، من ضيوف عابرين وموظفين، يختلفون في أنماط معيشتهم وطبقاتهم الاجتماعية بالكامل.

المخرج رسم الصين من منظور شخص خارجي؛ لهذا السبب بنى فيلمًا متكئًا على قصص مستقلة مختلفة بدلًا من قصة واحدة، ساعيًا لتقديم صورة بانورامية للمجتمع كما يقول. دفعه إلى هذا، إقامة ذات مرة في فندق متواضع في هونغ كونغ محاطًا بمراكز التسوق المزدحمة، والشوارع المضجّة، والباعة المزعجين. حيث ذات صباح، شاهد الشرطة والصحافيين والكاميرات، ليعرف أنه في الليلة السابقة، قُتلت تلميذة مراهقة بائسة كانت تعمل بالدعارة في واحدة من غرف الفندق، عل يد رجل في منتصف العمر، عاطلٍ عن العمل، ومتشرّد. خلال إقامة تشانغ فان يانغ المتبقية، لم يستطع التوقف عن التفكير بهما. من كانا؟ ومن أين؟ وكيف تقابلا؟ ماذا حدث في تلك الغرفة؟ هل شعرا يومًا بتواصل مع هذا العالم؟... أسئلة صبغت شخصياته في سبع لقطات قصيرة، كل لقطة قصة مستقلة، تعبّر عنها شخصيات محدودة العدد، عبر كلمات متبادلة مع آخر إلى جانبه أو أمامه أو في هاتفه. ومنها تتبدّى مشاعر عميقة، تساؤلات، أفكار أو توجّهات وتفاصيل دقيقة تعين بعض الشيء على توضيح الصورة، وتثير لدى المشاهد تلقيًّا يتراوح بين ضحك، تعجّب، تأمّل أو إثارة لمزيدٍ من غموض حولها.

تشانغ فان يانغ خلال تسلّّمه الجائزة (صفحة فيسبوك المهرجان)


أحيانًا تكفي الصورة كما في المشهد الأول. فلا أحد غير شابة في ثوب أنيق تجلس صافنة على سرير في غرفة مثل كل غرف الفنادق الفخمة. من هي؟ بماذا تصفن؟ غير مهم، هذا متروك للمشاهد تخيله. قد تكون مضيفة طيران أو عاملة تنظيف، يلعب المخرج هنا على الشّك قبل أن يكشف بعد دقائق وفي اللحظة الأخيرة سرًا صغيرًا، وقبلها ومن خلال مكالمات تأتيها يتبيّن من هي تلك الفتاة المتعبة التي تشعر بزهقٍ واضح. هذا مع أن الكاميرا تبقى على مسافة منها، لا لقطات مقربة. لكن في جلستها وطريقة أدائها لعملها دلائل على مشاعرها وضيقها من ظروف شغل. لدقائق أولى يُخمّن- ودائمًا يعمل الفيلم على التخمين- أن هذه عاملة فندق، أو ربما مضيفة طيران لأناقتها وجلستها المعبّرة عن ضجر وعن رغبة في استراحة. يعطي المخرج وقتًا لجمهوره لتأمل الغرفة مع بطلته التي يمكن لها أن تكون في أي مكان، ثم يكشف ما كان مبهمًا، ما الذي توفّره غرفة كهذه لشخص وليس لآخر مراقب في أدائه ممنوع عليه فعل ما يفعله مقيم أي التوقف والتأمل.

الفندق هو معبر أيضًا، مكان مثالي للعثور على خارجين عن القانون، ومشبوهين. تكفي كبسة مفاجئة لرجال الأمن على غرفه للخروج بغنيمة من المخالفين، هؤلاء الذين لا تصريح لهم للقدوم من مدينة إلى أخرى في الصين، الذين لا يحملون بطاقات الهوية، مروّجو المخدرات... الحوار بين شرطيين، لا يظهران على الشاشة، ورجلين يقيمان معًا في غرفة وضيعة. من أروع الحوارات وأذكاها في الفيلم بين مسؤولين صغيرين يريدان إبداء سلطتهما، ومواطنين لا يكترثان بشيء حاليًّا سوى تحقيق هدف قدما من أجله، شيء من متعة في المدينة، ولهو مع فتياتها. يجلس الاثنان في مواجهة الشاشة في أخذ ورد مليء بالمكر. غريبان في مدينة يتعرّضان لأسئلة تزيد من إحساسهما بغربة المكان. أما ما يحدث خلف الكاميرا، فعدسة المخرج جاهزة لالتقاطه. في جلسة تصوير حفل زفاف في فندق، تتكشّف بعض أسرار مدفونة بعمق من خلال ما لا يظهر في الصور المشتركة، حبّ مستهجن مثلًا. ويأتي حوار آخر ذكيّ في واقعيته في القصة الرابعة التي تعبّر عن شعور تجاه الغربة والهجرة مع زوجين يتدرّبان في غرفة فندق قبل الذهاب للمطار، على حوار ستجابهه المرأة من ضابط هجرة أميركي، عند الحدود. حوار يكشف الفجوة بين ثقافتين، ففي أميركا بلد "الحرية الزائدة" ستلد المرأة ابنها. يتابع الفيلم في غرفة أخرى حيث شابة تعمل كمفعّلة دردشة عبر الإنترنت تناقش مع عملائها الشعور بعدم الانتماء إلى أي مكان. ويروي رجل في منتصف العمر، مرتديًا زي العمل وعازلًا نفسه في غرفة الفندق، فصلًا من حياته المنعزلة التي تعثّرت، ويقدّم لمحات ساخرة عن الفرق بين الصين بلد الأصل وأميركا الاغتراب، متسائلًا عن الحلم إن كان أميركيًا أم صينيًا. أخيرًا، نرى مشهدًا لمبنى مع نوافذه حيث تضاء الأضواء وتنطفئ لنتخيل حياة خلفها.

في فيلم يعاني من طول (113 دقيقة) جاءت المشاهد غير متوازنة في طولها ومتعتها وأهميتها، ما حدّ من التأثير والاندماج.، لكنه فيلم يترك أثرًا عميقًا حول مفهومي الهجرة وغربة الكائن التي تتجلى في مكان مؤقت. هو هنا تمثيل مصغّر لاقتلاع من الجذور، يستقبل ذاهبين من بلد المنشأ وعائدين إليه. ومع هؤلاء، الذين أتوا في معظمهم من أميركا ليزوروا بلدهم الأول تُطرح تساؤلات حول الهجرة من مكان قديم إلى جديد، ليس لأن الفرد يريد الجديد، بل لأنه لا يريد القديم، كما يقول أحدهم. ويظهر الحاضر رماديًّا. كما يقول مغترب في حاضر يوم رمادي لا شمس فيه: "المستقبل كالشمس فوق رأسك والماضي كالظلّ تحت قدميك".