Print
ندى الأزهري

"سانتوش": الشرطية والضحية في عالم مضطرب أخلاقيًا

20 سبتمبر 2024
سينما
قليلة هي الأفلام الهندية التي لا تنتمي إلى سينما بوليوود الغنائية بنجومها وقصصها التي يتحقق فيها المستحيل في أغلب الأحيان. أفلام مع قصص واقعية اجتماعية جذّابة وسرد متمهل في أسلوب فنيّ مغاير لسينما بوليوود الجماهيرية. سينما "مستقلة" عن الآلة البوليوودية، غالبًا ما تتشارك الإنتاج مع الغرب، وتجد أكثر مكانها في المهرجانات الدولية وعلى الشاشات الغربية، ولكن أيضًا في حفنة صالات هندية، مع نقدٍ يلائم جودتها، وإقبال لا يماثل ما تحققه سينما مومباي (بومباي سابقًا).

مع "مهرجان كانّ" الأخير 2024، عادت هذه الأفلام بقوة هذا العام. والمهرجان الذي يلتقط، بحرفية، جديدها، اختار للمرة الأولى منذ عام 1994 فيلم "كل ما نتخيله كضوء" للمخرجة بايال كاباديا ليشارك في المسابقة الرسمية ففاز بالجائزة الكبرى. كما عُرض "سانتوش" للبريطانية الهندية سانديا سوري في قسم "نظرة ما". كانت هناك أيضًا ثلاثة أفلام أخرى في أقسام موازية. عودة حافلة إذًا لأفلام هندية في قصص نسائية تديرها المرأة، على النقيض من أفلام بوليوود التي يتزعمها الرجل وحوله تدور الحكايات والبطولات. هنا البطولة لنساء، هذا متوقع مع أفلام نوعيّة تسعى لأن تستمد قصصها من واقع مظلم لنساء في الهند يقع عليهن ظلم مزدوج، جنسي وطبقي.

مخرجة "سانتوش"، عنوان الفيلم واسم بطلته، ولدت لأبوين هنديين في بريطانيا. حققت فيلمها الروائي الطويل الأول هذا بعد وثائقي وقصير ربحا جوائز ولفتا الأنظار إليها. سانديا سوري تعتمد أسلوب الإثارة الهادئة لتبدي من خلالها أوجاع المجتمع الهندي وقتامة أحواله، بدون أن تجعل من الفيلم وثيقة عن البؤس، في هذا خاصيّة تهبه قيمة مضافة.

يبدأ الفيلم بمأساة. سانتوش (شاهانا غوزوامي) فقدت للتوّ زوجها الشرطي العامل في قوّات حفظ الأمن، قُتل خلال أعمال شغب حين كانت الشرطة تحاول أن تحتويها. أهل زوجها لا يريدونها، ويتعيّن عليها تسليم الشقة التي تُمنح للعاملين في الدولة. من هنا أتى المبرّر لتعمل ما لم تختره حقًا. كي تحتفظ بالشقة، تقرر سانتوش الاستفادة من قانون "تعويضي" توفره مؤسسة الشرطة يسمح للأرملة بأن ترث منصب زوجها المتوفى (موجود في الواقع). يُقبل طلبها، ترتدي الزيّ وتنزل للمعركة بكل براءة. من حولها، زملاء ورؤساء رجال، ولكن أيضًا نساء، بدون أن يعني هذا أن لهن تأثيرًا مخالفًا وردود فعل مغايرة لزملائهن الرجال. فالكل يعمل ضمن نظام واحد وأسلوب موحّد يسودهما فساد وعنف في مواجهة مواطن لا حول له ولا قوة. لكن سانتوش ستطور مهاراتها مع رئيستها شارما (سونيتا راجوار) التي تقرر مساعدتها على اكتشاف عوالم الشرطة. خلال ساعتين، مدة الفيلم، يغوص المشاهد في الحياة اليومية لشرطية تطمح في بداياتها للتأثير في مهنتها والحصول على استقلاليتها لتكتشف فيما بعد عبث المحاولات في عالم لا تجد مكانها فيه. بعد يوميات "عادية" تراقب فيها أساليب زملائها في قمع تظاهرات أو تأديب موقوفين، مع محاولات خجولة للالتزام بما يقومون به ومجاراتهم، تتطور الأمور وينقلب يومها.  تُستدعى إلى منطقة ريفية بائسة في شمال نيودلهي حيث اغتصبت وقتلت فتاة من الطبقة الدنيا. تجد نفسها منغمسة في تحقيق شاق برفقة المفتشة شارما ذات الشخصية القوية والميول المثلية (هذا حديث آخر حول إقحام مفاجئ في فيلم هندي)، ستضعها هذه الجريمة في مواجهة مع أفكارها المسبقة حول المجتمع والدين (المتهم بالاغتصاب والقتل مسلم)، وأمام محنة المساهمة في أسلوب قذر تتبعه الشرطة لنيل الاعتراف. الفيلم الذي استًهلّ كدراما اجتماعية مؤثرة يتحوّل إلى فيلم سياسي مثير. 

لقطة من الفيلم

تحت إلحاح السلطات العليا، الذي حرّكته ملاحقة وسائل الإعلام الهندية على مدى الساعات، والذي بيّنته المخرجة على حقيقته، مطلوبٌ من الشرطة الوصول إلى نتائج تتلاءم مع ما يُنتظر منها. المدهش أن هذا المُنتظر لا يتعلق فقط بمسؤولين يسعون للملمة القضية وإعلان عن متهم يُسكتون من خلاله ضغوط السلطات والإعلام، لكنه يتعلق كذلك بما يتوقعه الشعب الهائج، وهو هنا أهل القرية، ولما هو مستعد لقبوله. وسيكون الجاني "مثاليًا" لو كان شابًا من طائفة أخرى ستجهز كل البراهين لإيقاعه في الفخّ.

في حبكة مثيرة تخلق تشويقًا مذهلًا، وأسلوب كلاسيكي تتطور فيه الأحداث تدريجيًا، يكشف الفيلم عن مهارة مخرجة تتمتع بخلفية وثائقية تستوحي قصصها من الواقع. فمن خلال عملها في جمعيات غير حكومية في الهند، شهدت سوري مظاهرة لحشد غاضب في نيودلهي بعد حادثة شهيرة محليًا وعالميًا عن تعرض طالبة في حافلة إلى اغتصاب جماعي وقتل عام 2012. هناك وقع نظرها على شرطية ذات تعابير غامضة، ما حفزّها للتفكير فيما خلف هذه النظرة وما تأثير الزيّ في حالات كتلك على عمل امرأة. رسمت شخصية سانتوش، التي جسّدتها شاهانا صاحبة هذه النظرة الغامضة والمترافقة مع براءة تعابير تدعو المشاهد إلى محاولة تفكيك وتخمين ما يدور في رأس هذه الشابة. وهي تكتشف مجتمعها وما يسوده من قتل وشغب ونظام فاسد وحشود متلاعب بها، تبدو لوهلة متواطئة بعد توقع ألا تكون، وتظهر تارة حازمة قبل أن تعود لها نظرتها التائهة، وتفاجئ تارة أخرى بتعاطفها وقسوتها. شخصية سانتوش، بدت رمادية في تقلباتها، حقيقية في توجهاتها وسلوكها. فهي ليست محصنة ضد الفساد والوقوع تحت تأثير الزي الرسمي ولم تكن، كما توقع المشاهد في البدء، شرطيةٌ خيّرة تكافح نظامًا شريرًا، بل إنسانة تائهة في عالم مضطرب أخلاقيًا.

يكشف الفيلم تفاصيل صغيرة بدون محاولات ابهار، وبإيقاع هادئ يُسلّط نظرة غنية على المجتمع الهندي، وحين يكشف عن متهمٍ، لا علاقة له بالقتل والاغتصاب، فلا يفعل بأسلوبٍ تحريضيّ، بل بمهارة وحكمة بالعمل في نفس الآن على شجب ذلك بصرامة مع ابداء وجهة نظر صادمة لهؤلاء الذين يقومون بهذا الفعل غير المبرر سواء عن عدم اكتراث أو تقصد. ليُستنتج أن كشف الحقيقة عبثٌ في نظام فاسد. وتأثير الفيلم يقبع في هذا الأسلوب، هذا السرد المتمهل البطيء بدون أن يُضجر والمكثّف بدون أن يهمل، فيؤكد على المشاعر في ظلّ ديكور طبيعي لقرية هندية واضاءة نهار وليل، وأداء مؤثر للممثلين كافة وأولهم شاهانا وسونيتا، وأحسنت تمامًا إدارة الحشود في المكان لا سيّما للممثلين غير المحترفين الذين امتلأ بهم الفيلم. ولعبت الأزياء دورًا مهمًا في الاقناع فأي نظرة على شرطة الهند وكيفية ارتداء المرأة للزي الرسمي تبدي كم أجادت المخرجة نقل الواقع.

وماذا عن الموسيقى في فيلم غير بوليوودي؟

الموسيقى روح السينما في الهند عامة، وإن لم تحضر في هذا الفيلم غير البوليوودي بأسلوبه، فقد كان لا بدّ أن تفرض نفسها ولو في مشهد، فجاءت معبّرة في حنانها ورقتها عن تأثيرها العاطفي على شخصية قوية مثل المفتشة شارما وهي تقود سيارتها بعد تحقيق شاق، وهل هناك أفضل من أغاني أفلام بوليوود، الماضية خاصة، لتثير في النفس حنينًا وحنانًا؟