ما الذي يجعل نساء أو فتيات يعشن في أوروبا يفكرن بالانضمام إلى تنظيم داعش أو مشروع "الجهاد"؟ ما الذي يبدو مغرياً في العالم الذي خلق صورته التنظيم وسوّق لها عبر الإنترنت وحتّى عبر استخدام الإعلام لإظهار قوّته. هذه القوّة والتي فيها الكثير من البطش والقسوة قد لا تكون منفّرة للجميع، فهي ربما أحياناً في طيّاتها تداعب مخيّلة بعض الشباب، الذين يريدون السلطة والذين يبحثون عن أي هدف في الحياة.
ووسط كل هذا، لا يظهر الدين كأنّه الغاية، بل أشبه بوسيلة ووقود للوصول إلى ما يبدو كرغبة شخصية سواء كانت بالقوة أو بالانتماء. وإن كان هذا أصحّ في ما يتعلّق بالرجال والشباب، فهو قد يكون مختلفاً لدى الفتيات والنساء. وتبدو صورة الرجل القوي أو المجاهد التي رسمها أيضاً داعش هي الجاذب.
هجرة الأوروبيات للانضمام إلى داعش في سورية موضوع يطرحه الكاتب الهندي، تابيش خير، في رواية "مجرّد جاين جهادية أخرى"، الصادرة عن "إنترلنك" (أميركا: 2016). ترعرع خير في قرية صغيرة في الهند وكتب الشعر والرواية وكذلك بعض الدراسات. عمل كصحافي في دلهي قبل أن ينال شهادة الدراسات العليا من كوبنهاجن وينتقل للعيش في الدنمارك، حيث يعيش حالياً ويعمل كأستاذ جامعي. وتتمحور كتاباته حول الهوية والاندماج والتطرّف والدين. لكن هذه المرة الأولى التي يبتعد فيها إلى هذه الدرجة عن محيطه ويكتب عن أمكنة أخرى كلياً.
يرتبط عنوان رواية خير بـ"كولين ريني لاروز"، والمعروفة أيضاً بجهاد جين أو فاطمة جين، هي مواطنة أميركية تحوّلت للإسلام وارتبط اسمها بتهم متعلقة بالإرهاب. وحُكم عليها بالسجن 10 أعوام عام 2014 بعدما كانت قد أقرّت بذنبها في محاولة تجنيد أشخاص لقتل رسام الكاريكاتور السويدي، لارس فيلكس، الذي كان قد نفذ رسوماً تسيء إلى النبي محمد.
وعرفت لاروز أيضاً على صفحتها في موقع "ماي سبيس" بنشر صورها وهي ترتدي البرقع، ونشر عبارات فيها عبارات دعم للقضية الفلسطينية مثل "فلسطين نحن معك" و"تعاطفا مع غزة".
في رواية خير، فتاتان تشتركان مع لاروز في الشعور بالنقمة في ما يتعلّق بقضايا العرب، لكن هذا الاندفاع ليس وحده ما يشكل خلفيتهما، فهما مهاجرتان وليستا من أصول غربية كما لاروز. جميلة مراهقة تتحدّر من عائلة باكستانية مسلمة وشديدة التديّن، بينما صديقتها، أمينة، من أصول هندية ومن عائلة مسلمة لكن غير متدينة ووالداها منفصلان. والعائلتان تنتميان إلى الطبقة المتوسطة والعاملة في لندن.
بحثاً عن الحقيقة
راوية القصة هي جميلة، التي تتوجّه إلى القارئ في البداية بقولها ألا يطلب منها الكثير من التفاصيل "فالشيطان يكمن في التفاصيل"، وكذلك حسب ما تشير في الموت والذنب والجريمة. التفاصيل، كما تخبرنا، تترك ندوباً وتستدعي الثأر.
وتصف الشابة نفسها بأنّها بدأت رحلتها مع القناعة بأنّه لا يجب أن يكون هناك سوى الحقيقة. "الحقيقة الواحدة، الحقيقة الوحيدة. كنت عالقة في تلك القناعة". لكن هذا لم يكن حال صديقتها، أمينة، التي أقنعتها بالذهاب إلى سورية معها بحثاً عن الحقيقة التي لم تشعر أنّها تعرفها تماماً.
كانت الفتاتان صديقتين أيام الدراسة، وجمعهما في مرحلة لاحقة شعور مشترك بعدم القدرة على الاندماج كلياً في المجتمع البريطاني. ارتدت جميلة الحجاب والملابس الفضفاضة والواسعة منذ كانت في الثانوية، بينما مالت أمينة إلى الانفتاح أكثر حينها وحتى إلى إقامة علاقات مع أقرانها من الشبان. وكانت قبل أن تصبح صديقة جميلة تسخر منها وتناديها بالـ"نينجا".
على هامش المجتمع
علاقة جميلة مع جسدها تبدو منذ البداية علاقة احتشام وتوق للحفاظ عليه، لكن ليس لحلم الزواج أو للبقاء نقية، بل بدا الأمر أشبه بأنّه أمرٌ ينبع من داخلها، جزء منها. لم تكن يوماً تشعر بالإطراء من نظرات الرجال إليها، رغم لباسها المحتشم، ولم يكن الجنس الآخر يعني الكثير لها. وهذا على عكس أمينة التي بدت أشبه بفتاة تائهة تبحث عن الاهتمام.
عاشت جميلة، كعائلتها، على هامش المجتمع الذي وُلدت فيه. هذا المجتمع لم يتقبل اختلافها، كما يظهر من خلال ما تخبر عنه، لكن هل شعرتْ يوماً بالقبول التام لذلك المجتمع كذلك؟ وهل حاولت فعلاً أن تنتمي؟
من المفهوم أن تكون هناك صعوبة في انتماء من يهاجر في وقت متأخر من العمر إلى المجتمع الأوروبي. ويبقى الكثير من المهاجرين مسكونين بالحنين إلى أوطانهم، وإن لم يروا فيها مكاناً لائقاً للعيش. لكن ربما تكون الإشكالية الأكبر التي يواجهها هؤلاء المهاجرون بتربية أبنائهم، وهذا ما ينتج أسئلة كبيرة داخل الجيل الثاني من المهاجرين. فهم عبر محاولتهم نقل كل ذكرياتهم وعاداتهم ويومياتهم وطقوسهم وممارساتهم والتشبث بها، بينما أبناؤهم أحياناً لا يتكلمون حتى لغة بلدهم الأم، ينتجون شرخاً في شخصية هؤلاء الأبناء. لا هم قادرون على إطلاقهم إلى المجتمع الغربي خوفاً على قيمهم ولا هم قادرون على أن يطلبوا منهم ألا يحتكوا بمجتمع هم يعيشون فيه.
والمشكلة تظهر في شخصية جميلة، التي تحلم بأن تكمل دراستها، لكن أهلها (وتجدر الإشارة هنا إلى غياب صورة الأب كونه متوفَّى) يرون مستقبلها في زواج تقليدي من رجل من نفس أصولها، وكذلك في التحول بنهاية المطاف إلى ربّة منزل. هذا ما يجعلها في النهاية ترضى بالذهاب مع أمينة، وهذا ما لا يجعل دوافع الرغبة بالجهاد متعلقة بالدين فعلياً، بل أكثر بظروف الفتاة الحياتية والاجتماعية.
دوافع أمينة هي الأخرى متعلقة بالشرخ الأسري وانفصال والديها وشعورها بالتهميش ورغبتها الدائمة في الحصول على الاهتمام. ولهذا رحيلها إلى سورية يأتي بعد أن تمكّن أحد المجاهدين، واسمه حسن، بإقناعها بالزواج منه والانضمام إلى مسيرته. هي مدفوعة بالحب وحتّى بالرغبة في أن تحصل على هوية ثابتة وإن كان ذلك من خلال التبعية لرجل وتلبّس قضيته.
التجنيد
وسيلة ثانية لتجنيد الفتاتين هي امرأة تدعى حجّية وهي الأخرى مهاجرة انضمت إلى سورية وتبدو كقيادية في داعش. وقد برزت فعلاً خلال الأعوام القادمة الكثير من النساء الغربيات على مواقع التواصل الاجتماعي، وتحديداً "تويتر" ، وكنّ يغرّدن دعماً لداعش ويروّجن للتنظيم ولمآثر العيش في سبيل الجهاد ولأرض الخلافة كحلم.
على "تويتر"، تنشر حجيّة صورها مع قطتها طوال الوقت وتكثر من الأدعية والحديث عن الحياة في سورية، وكذلك عن ضرورة التصدي للإعلام الغربي واتهامه بنشر ادعاءات حول التنظيم وما يحدث فعلا في سورية. تتواصل مع أمينة وتبدو أحياناً أشبه لها بالأم والمرشدة. وبهذا لا يبدو العالم الذي يرسمه خير غير واقعي، تحديداً في الجزء المتعلق بالتجنيد وطريقة التأثير على الفتيات، وحتى صراعات الهوية والانتماء وإشكالية المهاجرين.
ثم ينتقل الكاتب ليصور لنا الحياة في ظل داعش في سورية. فبعد انتقال الفتاتين، هناك عالم تمثّل فيه حجّية صورة القائدة النسائية، وهي شخصية تعطي بعداً ثالثاً لأسباب انضمام النساء إلى التنظيم، وهذا البعد هو الرغبة كذلك في الحصول على القوة والنفوذ.
تدير حجّية ميتماً للفتيات في الرقة وتسيطر هناك على زمام الأمور. هذه السيطرة تظهر حتى أثناء إعطائها التعليمات للفتاتين حول العبور إلى سورية عبر تركيا وتدبير من يرافقهما. هي زوجة لأحد القياديين في داعش، ولديها السيطرة أيضاً على زوجاته الثلاث الأخريات. ويظهر هنا دور مختلف للنساء عمّا يسوّق له عادةً بأن الدين قد يستعمل كوسيلة اضطهاد للمرأة. فهذه المرأة هي بنفسها مضطهِدة وصاحبة قرارات ليست دائماً منصفة ومسيطرة.
هذه الهيكلية الاجتماعية لبنية داعش وتحديداً أدوار النساء فيه لا تبدو مختلفة عن منظومة سائدة في مجتمعات أخرى، وهي أن المرأة تستمد سلطتها من زوجها أو رجلها أو العائلة حسب ما تحمل من نفوذ. وهو نموذج نراه في الكثير من النساء اللواتي تستمدّ النفوذ من مناصب أزواجهن السياسية أو العسكرية وما إلى ذلك.
ما يفعله المؤلف في هذه الرواية هو إخراج صورة داعش من كونه مجرّد تنظيم يقتل ويمارس الجرائم باسم الدين. وقد لا تكون الصورة التي يرسمها دقيقة، إلا أنه يعطي صورة عن بناء داخلي لما لا نعرف عنه الكثير ولا نسأل حتى من هو فعلاً خارج ما يغطيه الإعلام.
ليست تلك الحقيقة!
بعد وصولهما إلى الرقة، تتعرّف جميلة على نموذج نسائي ثالث هو "هليدة" وهي فتاة من أصول تركية مسلمة كانت عائلتها (إخوانها وأخواتها) من دفعن بها إلى الانضمام لداعش في سوري، بعد أن توفي والداها، كأنّهم يريدون التخلّص منها.
يتغيّر سلوك هليدة مع معايشة حجّية في المخيم، وتبدأ بالقول للفتيات إن تنفيذ العمليات الانتحارية ليس من ضمن الشريعة الإسلامية. وقد تلقت هليدة تربية إسلامية معتدلة إلى حدٍّ ما وهذا ما دفع بها إلى دحض الكثير ممّا كانت تقوله حجّية. وهو ما دفع بالأخيرة إلى معاقبة الفتاة وتجويعها، والتخلص منها في نهاية المطاف بحجّة أنّها عثرت لها على زوج. وهذا ما ليست زميلتها في الميتم جميلة متأكدة منه.
هذه الحادثة هي ما يدفع جميلة إلى مساءلة نفسها حول صحة قرارها وحول صحة ما اعتقدت به حول الحقيقة. إنّه عالم مظلم الذي وجدت نفسها فيه، أشد ظلاماً من الذي ترى أنّها أتت منه وتشعر فيه بالمظلومية تجاه قضايا المسلمين.
لا يلقي المؤلف في الرواية الأحكام على الفتاتين، بل يضعهما في الوسط، بين التطرّف وغياب العدالة في العالم، يغالبان ما يغالبه الكثيرون، غياب الحلول والخيارات الثالثة في أوضاعنا الحالية!