Print
الصحبي العلاني

بأيّ شِعرٍ عدت يا عيد؟

7 يناير 2017
عروض

عندما نظم الشاعر اللبناني إيليا أبو ماضي (1889-1957) قصيدته التي تغنّى بها الفنان العراقي ناظم الغزالي (1921-1963) والتي مطلعها "أيّ شيء في العيد أهدي إليك؟" كان يصوّر في منتهى العفويّة وبكلمات غاية في البساطة حيرة يتقاسمها معه ملايين البشر عبر العالم وتشترك فيها جميع الثقافات دون استثناء. فالأعياد -سواء أكانت دينية أم قومية أم فردية- تضع الأفراد والجماعات أمام تحدٍّ رهيب، هو تحدّي الخروج بالزمن من سياقاته العاديّة الرتيبة من أجل الارتقاء به إلى مقامات استثنائيّة خالدة لا تُنسى، مقامات تجعل الأعياد وهداياها حاملة لدلالاتها في ذاتها بعيداً عن أيّة قيمة ماديّة أو اعتبارات نفعيّة. 

لا نعتقد أنّ دار النشر الفرنسية، دار غاليمار وشريكتها مؤسّسة تيليراما، تعرفان إيليا أبو ماضي وقصيدته. ولكنّنا لا نشكّ إطلاقا في أنّ الحيرة التي انتابت شاعرنا منذ عقود قد انتابت الشريكَيْن الفرنسيّين على امتداد أشهر، إلى أن بادرا –مؤخّراً- باقتراح هديّة استثنائيّة يمكن لعشاق اللغة والآداب الفرنسيّة تبادلها بمناسبة الأعياد المجيدة. وهل ثمّة أفضل من الشعر يُـهـدى ويُـقـرأ، خاصّة إذا ما اتّـخـذ أشكالاً طباعيّة غير مألوفة؟

حسّ مرهف وصراعات قديمة...

في علبة كبيرة الحجم من الورق المقوّى يناهز ارتفاعها متراً ونصف المتر ويفوق عرضها التسعين سنتيمترا أصدرت غاليمار للنشر ومؤسسة تيليراما مجموعة متكاملة من الأعمال ضمّت ستّة وثلاثين مجلّدا وامتدّت على أكثر من ألف وسبعمائة صفحة من عيون الشعر الفرنسيّ، بدءًا بقصائد مختارة للشاعر فرونسوا فييون (1431-1463)، انتهاءً إلى أخرى منتقاة للشاعر السويسري فيليب جاكوتي (ولد سنة 1925).

بين نقطة البداية ونقطة النهاية (على افتراض أنّ للشعر حدّاً أو نهاية!) تأخذنا المجلّدات الشعريّة نحو سياقات غاية في التباعد والامتداد، زماناً ومكاناً، وتدعونا، عبر تنوّعها، إلى أن نكون شهوداً على انقلابات جذريّة في الحساسيّات الفنيّة والرؤى الإبداعيّة وأساليب الكتابة وتصوّرات العالم. وهذا ما يتيح لنا إبداء جملة من الملاحظات النقديّة، بعضها من باب الإشادة والتنويه، وبعضها الآخر –وهو الأهمّ- على سبيل العتاب الصريح.

أمّا ما نثمّنه في هديّة أعياد الميلاد الشعريّة فيتلخّص في نقطتين أساسيّتين:

أولاهما: أنّ هذه المختارات، بحكم امتدادها على خمسة قرون من الزمان وبحكم جمعها بين شعراء ذوي مشارب مختلفة وآفاق في الكتابة متباينة كأنّما تأتي لكي تؤكّد لنا الحقيقة التي غالباً ما نتغافل عنها في خضمّ الصراعات الفكريّة والنقديّة، حقيقة أنّ التاريخ لا ولن يُـكـتـب وفق وجهة نظر وحيدة، وأنّه لا ولن يـحـتـفـظ برؤية يتيمة فريدة حتى وإن بدت وجهة النظر تلك هي الأقرب إلى "الصواب" في سياق الزمان الذي اكتنفها وفي حدود المكان الذي أينعت فيه. دليل ذلك أنّ المجلّدات الشعريّة التي نحن بصددها قد ضمّت جنباً إلى جنب "أعداء الماضي" من الكلاسيكيّين والرومنسيّين والرمزيّين والواقعيين والواقعيين الاشتراكيين والحداثيّين والبوهيميّين والذين لا تحتويهم خانة ولا يقبلون التصنيف. فمع مرور الزمن، وبعدما تضع المنازعات أوزارها، يجد الجميع أنفسهم جيراناً على رفوف المكتبات، كأن لم يكن بينهم صراع في الرؤيا ولا خلاف في التصوّر. وهذا ما يُحسبُ للإصدار الذي بادر إليه الشريكان "غاليمار" و"تيليراما".

أمّا الملاحظة الثانية -وهي كسابقتها إيجابيّة- فمدارها التنويه برهافة حسّ القائمين على هذه المنتخبات الشعريّة لحظة اصطفائهم للقصائد واختيارهم لها. فقد أوردوا ضمن المجلّدات الستّة والثلاثين أكثر النصوص تمثيلا لأصحابها إلى درجة أنّ القارئ لا يجد نفسه في حاجة إلى الاستنجاد بمعطيات من خارج المتن الشعريّ أو بمعلومات تاريخيّة مسقَطة تؤكّد التحوّلات التي طرأت على أساليب الكتابة وطرائق الصياغة وأفانين تشكيل الأكوان الشعريّة للمبدعين. بعبارة أخرى وبمنتهى الإيجاز يمكننا القول إنّ النصوص المختارة كانت دالّة بذاتها دونما حاجة إلى جهاز نقديّ أو تأويليّ يدعمها ويفسّر سياقاتها أو يكشف عن خباياها.

تكريس المكرّس..

ولكنّ وجوه الطرافة في هديّة أعياد الميلاد الشعريّة التي تقدّمها غاليمار وتيليراما لقرّائها لا يمكن أن تحجب عنّا نقائص عديدة نعتقد أنّها تقلّل من قيمة العمل. ليس من الذوق السليم في شيء أن يقدح المرء في الهدايا أو أن يكشف عن عيوبها، خاصّة مع الفرنسيّين الذين يتقنون فنون الإيتيكيت ويحرصون عليها. ومع ذلك، فإنّنا لم نتمالك أنفسنا من إبداء جملة من الملاحظات التي تتلخّص –هي أيضا- في نقطتين:

أمّا النقطة الأولى فمدارها مسألة في غاية الدقة تتعلّق بالصلة بين الزمان والمكان في عالم الفرنكوفونيّة الشاسع الذي يمتدّ على عديد البلدان وجلّ القارات. صحيح أنّ الفترة الزمانيّة التي تمّ اعتمادها فترة طويلة تشمل خمسة قرون بتمامها وكمالها (من أواسط القرن الخامس عشر إلى موفّى القرن العشرين)، ولكنّ اللافت للنظر أنّ اتّساع حدود الزمان لم يكن متناسباً بالمرّة مع آفاق الجغرافيا والمكان. فقد أغفل القائمون على الهديّة الشعريّة للأعياد المجيدة أعلاماً كتبوا أروع نصوصهم بالفرنسية، عشقا منهم لهذه اللغة وشغفا بتراثها وبطاقتها التعبيريّة. ولكنّنا –للأسف الشديد- لا نجد لأعمالهم حضوراً ولا لإبداعاتهم أثراً. نشير -على سبيل الذكر لا من باب الحصر- إلى الشاعر والرسّام والنحات الألمانيّ النشأة ثمّ الفرنسيّ الجنسيّة جون آرب (1866-1966)، والشاعر اللبناني الأصل المصري النشأة الفرنسي اللسان جورج شحادة (1905-1989)، والشاعر الكاتب السنغالي ليوبول سيدار سنغور (1906-2001) وغيرهم كثير. فمن بين ستّة وثلاثين شاعرا ضمّتهم الهديّة لا نكاد نجد من يمثّل فضاء الفرنكوفونيّة الشاسع إلاّ شاعرَيْن لا غير: الشاعر هنري بيشات (1924-2000) ذا الأصول الكنديّة حامل الجنسيّة الفرنسيّة، والشاعر السويسريّ الجنسية الفرنسيّ اللّسان فيليب جاكوتي الذي سبقت الإشارة إليه.

أمّا النقطة الثانية، وهي لا تقلّ خطورة عن سابقتها، فتتّصل بمدى التناسب في درجة الحضور والتمثيل بين الذكور والإناث. ممّا لفت انتباهنا ودفعنا إلى الاستغراب أنّ حظّ الشاعرات من النساء كان قليلاً، بل إنّه لفرط قلّته كان شبه معدوم، كأن اللغة الفرنسية على امتداد خمسة قرون من الزمان لم تـجُـد إلاّ بشاعرة واحدة هي مارسيل ديبورد فالمور (1786-1859) أو كأن تاريخ الشعر الفرنسي لم يعرف غيرها! والحال أنّهنّ كثيرات، نكتفي بأن نسوق من أسمائهنّ اسميْن: اسم الفرنسية الأصل والمنشأ والجنسيّة دانيال كولوبار (1940-1978) واسم اللبنانية-المصريّة المنشأ الفرنسية اللغة أندريه شديد-صعب (1920-2011)، وغيرهما كثيرات.

وإذا أضفنا إلى الملاحظتين السابقتين ملحوظة أخرى وجيزة تتعلّق بالغياب التام للأصوات الشعريّة الجديدة، يمكننا أن ننتبه إلى الحقيقة التي تنطوي عليها هديّة غاليمار وتيليراما، حقيقة أنّ المجلّدات الستّة والثلاثين إنّما جاءت لتكريس المكرّس وتثبيت الثابت بعيداً عن نوازع المراجعة ومرامي المغامرة. فما الذي تبقّى من الهديّة، إذن؟ وهل في الشعر من جديد جاءنا به العيد؟

لعبة العُـلـب!

بصرف النظر عن أناقة الهديّة التي لا يمكن التشكيك فيها، وعن ضخامة حجمها الذي لا تُخطئه العين، فإنّ ما أقدمت عليه غاليمار وتيليراما ليس في نهاية المطاف إلاّ صيغة من صيغ التسويق الذكيّ المبتكر لمنتوج قديم مشتهر ومنتشر! فمن ناحية المضامين يتعلّق الأمر بأنطولوجيا شعريّة، لا أكثر ولا أقلّ. وليس هذا ما ينقص المكتبة الفرنسية التي تزخر بمئات الأنطولوجيات. ولعلّنا لا نبالغ إذ نقول إنّ أعمالاً أخرى سابقة كانت أكثر تمثيلاً وأوسع أفقاً وأغزر أصواتاً ممّا تطالعنا به مضامين الهديّة.

هذا من ناحية المضامين، أمّا من ناحية الشكل، فمن الواضح أنّ الرهان كان مركّزاً على الحامل أي على العلبة... وفي العلبة سـرّ اللعبة!

في عالم التسويق والمبيعات، وهو عالم تحكمه قوانين صارمة وخطط مدروسة، لا مجال للنظريّات المثاليّة والمقولات المجرّدة. فالقاعدة الأهمّ التي تضمن اكتساح الأسواق وفرض المنتوج تتلخّص في اعتماد "تعليب" (Packaging) جديد يأخذ العيون ويسحر الألباب؛ أمّا ما تحتويه العلبة في الداخل، فإنّه يتنزّل في مرتبة ثانية، أو بالأحرى، في المرتبة الأخيرة. ومن الواضح أنّ مجال الطباعة والنشر قد انخرط، بَـعْـدُ، في هذا السياق سياق تشيئة الجميل وسلعنة الخيال وتعليب الشعر والمشاعر!

ومع ذلك، ومهما تكن السياقات والمقامات وطبيعة الهدايا والمفاجآت، فإنّ القصائد تظلّ دوماً من أروع ما يُهدى ومن أمتع ما يُقرأ.