Print
عبد الله كرمون

"المرآة والقطار": تداعيات رحلة كافكاوية

31 مارس 2017
عروض

                                    

لعل عنوان رواية عبد القادر الجنابي "المرآة والقطار" التي صدرت حديثا عن دار التنوير، يكفي وحده للدلالة بشكل موح على جدة موضوعها؛ ذلك أن السفر والانعكاس، هما إذن جوهر انشغال الكاتب في نصه الجديد. هذا إذا لم نأخذ بالحسبان سوى المعنى الحرفي الذي تدل عليه كلمتا العنوان في صيغة العطف. لأن معناهما الدفين سوف يفضي بنا إلى عناصر تحليلية عميقة. ثم إن الجنابي أبدع في صياغة ما سماه فيليب لوجون بالميثاق الأدبي، إذ أضاف إلى تصنيفه للنوع نعت "التحليلية"، بالرغم من أن بودلير كان قد نعت بالسمة ذاتها نصوص إدغار ألان بو، التي كان سباقا إلى ترجمتها إلى الفرنسية كما نعلم ذلك جميعا. لكن الجنابي قد أردف سمة إضافية تنطوي على نوع من المفارقة التي لا تخلو من حقيقة: "بوليسية بالخطأ". تدعو هي أيضا إلى مزيد من التأمل والحيرة.

 أضاف الجنابي بذلك عناصر أخرى مبتكرة في الكتابة الروائية، من قبيل وضع المراجع في آخر العمل، أو تقنيات رصدٍ تام للإحالات الواردة في النص، بما فيها المناطق التي قد يستثقلها القارئ. ذلك ما سوف نراه.

يتعلق الأمر إذن بمسعى جديد في إطار المشوار الإبداعي للجنابي الحافل بالعطاء. في الوقت الذي لا تخلو فيه معظم نصوصه السابقة من نَفَسٍ سردي هام، ودربة لا يستهان بهما في مجال الحكي، ولعل مثال كتابه "تربية عبد القادر الجنابي"، وحده، كفيل للتدليل على ذلك.

حاول الجنابي في نص سردي تجريبي محكم أن يبلور أفكارا خاصة حول الكتابة الروائية، نقدا يلمح عوض أن يفصح، وحول الحياة والموت، وحول العلاقة مع الذات، فيما يخص استرجاع الماضي، والنقد الذاتي، كما عمد فيه إلى التشديد على العلاقة مع المرأة المحبوبة والمُحِبَّة، وما تمثله مثلا شخصية نادية من سند عظيم لبطلنا سيد شخصان في رواية الجنابي.

فلا تكاد تخلو الرواية من إحالات فلسفية مبطنة أراد من خلالها سبر بعض الظواهر الهامة في ما يخص الخيال والتخيل، دائما في العلاقة مع الجوهر المادي للمرآة أي البعد الفيزيقي والميتافيزيقي في آن للانعكاس. الشيء الذي يفضي إلى نوع من الازدواجية التي ليست بأي حال من الأحوال مَسَّاً مرضيا، بل إنها عمل معرفي يقتفي آليات اشتغال الذات. أليس اسم البطل هو سيد شخصان؟ لا يتعلق الأمر، هنا، بشأن الوعي واللاوعي، بل بالشخصية التي نبتغي تركيبها، وبمزيج منها ذاتها، ومما يراه الآخرون، ثم ما نريد أن يراه هؤلاء، أو بالأحرى، ما نطمح أن تكون عليه صورتنا، في آخر المطاف.

للقطار أيضا دلالة الحضور في الزمن وفي المكان معا، مع فارق إضافي يشير إلى الحركة المفارقة للحالتين. زمن يشير إلى ما سماه سيلين يوما "أبقار بلا قطار". أي نوع من الثبات في عز كارثة رهيبة. لكن الرحلة تنطوي هنا على قطار بلا أبقار، ما يجعل الأغنية الرومانسية المرتبطة بعبور القطار تنقلب إلى فسيفساء رحلة متخيلة، تستمد الحركة جدواها من سكك الذات، بوعيها ولاوعيها في آن.

أما الجشع والجريمة، فهما وجهان قديمان لأرضية الموت، بينما الجنس والسم ليسا، في نهاية المطاف، سوى أداتين عتيقتين في الشأن نفسه.

التداعيات البوليسية لرحلة سيد شخصان هي  بحق "بالخطأ"، لأن الأهم هو اختراق شخصان في عبوره لأصقاع ممتدة ما بين مدن هلامية أو مدن لامرئية حسب كالفينو، أي متخيلة، وما بين إرادة مواجهة المحو، من خلال نفي الشك الذي يلاحق كل المسافات الفاصلة ما بين آخر قطار وأول انعكاسات في مرآة. ما يشير إلى حزازة النقد وبُغْضِ مواجهة خسران الذات.

إنها رواية جديدة، تستحق القراءة إذن، لأنها تخفي، أكثر مما تبين. تحاور الموت على أرضية الحياة، المفعمة بالذكرى، والقلق، والشراب، وتترك الباب مواربا لولوج تأويلات جريئة، حيث الميت يحكي تفاصيل موته، وحيث الفنتازيا ليست فنتازيا، وحيث لا مجال للهلوسة في عالم كافكاوي غريب.