Print
طارق إمام

"فرائس" عماد فؤاد المحظوظة:كلُّ لغةٍ جلّاد، كلُّ لغةٍ ضحيّة

6 مايو 2019
عروض
(1)
من اللحظة الأولى، يطرق عماد فؤاد باب كتابه الشعري "تلك لغة الفرائس المحظوظة" (دار ميريت، القاهرة) منتحلاً صوت الفريسة. وبالضمير الجمعي (حيث لا مكان لفرد في خطاب القطيع) يُنطق الشاعرَ فرائسه، فيما تصف نفسها في علاقتها بالصائد: "أربع سيقان تخطو/ وعلى مشط القدم/ ألا يسبق مشط القدم/ كانت العصا/ أعلى من توقعاتنا/ وتنزل دوماً/ في المكان الخطأ".
إنه بلا مواربة صوت كائنٍ يمشي على أربع، يبحث عن بنيةٍ منسجمةٍ لخطوه، يبحث معها الصوتُ الشعري عن نبرة نصّه الآتي. صوتُ جماعةٍ إذن، يتحدث عبر فم القطيع، بلسان "الفرائس"، المحظوظة لأن عصا العقاب تخطئها كلما هبطت لتنال منها.
هل هو كتابٌ على لسان الحيوان؟ هكذا تعد السطور الأولى مثلما يعد الغلاف نفسه الذي يستبعد الإنسان لصالح حيوانات منتزعةٍ من غابة "التراث". لن يحنث عماد بوعده، لكنه لن ينفذه بالكامل أيضاً، سيختار التهجين، ليُمسك عصا الوجود من المنتصف، نصف الحيوان ونصف الإنسان. بالأحرى: سيختار المسخ بطلاً شعرياً لنصه.
"تعلمتُ أن تكون المسافة ذاتها/ بيني/ وبينه/ لا أتخطاه/ ولا يسبقني". هنا، ومع النصف الثاني من البرولوج، (النص الاستهلالي صفري الترقيم)، يصفو صوتُ واحدة من الفرائس لفرديتها مغادراً عباءة الصوت الجمعي للقطيع. إنها الفريسة، ربما، التي ستتولى النطق بكل ما هو قادم وقد استقلت، أو شردت عن السرب، لبعض الوقت، وقت هو زمن هذا النص وحيزه
من الدخول للخروج.

(2)
هكذا يظهر ضمير المتكلم الفرد، فبانفصال الفريسة ستحصل على سمة إنسانية، هي الفردية، لنصبح أمام كائن نصف غريزي نصف ثقافي، نصف حيوانٍ نصف إنسان، نصف مخلوقٍ ونصف خالق، ما يلائم بنية "مهجنة" هي بنية هذا النص الشعري في ظني، الذي يهجن الحكاية بالقصيدة، لغة المشهد السينمائي بلغة قصة الخلق، وبينهما أداءٌ بلاغي يمزج الكناية والاستعارة معاً، الذي يراوح بدوره بين التواصل التداولي والانكفاء اللغوي، ولنصبح أمام "لغة" الفرائس المحظوظة في شكلها كلغةٍ شعرية لهذا الكتاب: "صوتٌ تتقاسمه الغريزة والثقافة معاً دون، أيضاً، أن يتخطى أحدهما الآخر أو يتخلف عنه"، لغة "تقنص ما تستطيع قتله/ قبل أن يصرخ".
هذه، ربما، علاقة فريسة هذا النص بصائدها: تمشي الضحية بمحاذاة الجلاد، قرينان، جسد وظله، في اتفاقٍ ألا تخون خطى أحدهما الآخر، طيلة وحدات النص الشعري الخمس الكبرى، ليدخلا النص معاً ويخرجان معاً، أو ليولدا في المهد نفسه ليدفنا في المقبرة ذاتها.

 (3)
يوزع عماد فؤاد نصه على خمسة أبواب، تبدأ بالدخول، وتنتهي بالخروج، كأنه يلوّح ببنيةٍ سردية اضطرادية من البداية للنهاية.
بلغة السينما، بمشهديةٍ وصفية، تبحث عن الشعري في الالتقاط الرصدي المشهدي والالتفات "السلوكي" للشخوص، يفرد الدخول لقطة بانورامية للعالم، سبع لقطات متجاورة لا متتابعة، تتخلق دلالتها من الـ"فوتومونتاج" حيث "المزج" ما يُسلم "كادر" شعرياً لتاليه، وقصيدةً للاحقتها، عوضاً عن "القطع" الذي يُنهي نصاً ليبدأ غيره، وحيث "الذوات" الرئيسية التي ستكون، هي وأشباهها، ذوات هذا النص الشعري وأشباحه، بالأحرى، فرائسه: شخوصٌ قائمون في وجودهم الغريزي (لغة الفرائس). ففي نصٍ يُسائل الثقافة واللغة، ينهض الحضور الغريزي دون التفاتٍ لأدبيات "المنطق" أو مجريات "الاتفاق".
من لقطة بانورامية "وصفية" أولى، يولد الشخوص (شخوص هذا العالم، هذه المدينة، وهذا

النص): سكيرٌ يغيب وعيه لصالح سخونة دفق بوله الحرة، شحاذٌ يخاصم لغة المنطق انتصاراً للغو الهذيان، ظلٌ يمنح الأولوية للطيف أو الشبح لا الجسد المرئي، رجلٌ آخذٌ في التحول لذئب مستعيضاً عن اللغة الإنسانية (نظام العلامات العقلاني) بالعواء الحيواني، وحيث "بأقل قدرٍ من الحروف/ بانعدامها أصلاً/ تقول الصرخة/ كل شيء". هذه هي شخوص الدخول، ذواتٌ قررت الخروج عن الإنساني نحو الحيواني، الفطري، الغريزي، الحر. يؤسس بها عماد عالم النص. مع النص الأخير من الدخول يحدث الانقسام، الذي سيظل يلاحق الفدر كلعنة.

(4)
ستطرد المدينة فردَها مثلما طرد الفردوس ذات يومٍ بطله. لكن المطرود من الفردوس هذه المرة ليس الإنساني "المحرَّض" بل الحيواني: "المحرِّض"، ذلك الثعبان، الشيطان. والذي بانقسامه لاثنين (آدم وحواء الجانب الآخر من الحكاية) تبدأ، في ظني، رحلة الفريسة الحقيقية على الأرض ومنها ستنهض جميع الفرائس التي ستعرض "لغتها"، أو "لغاتها" في هذا النص الشعري. وحيث الثعبان أب لجميع الفرائس مثلما آدم هو أب لجميع الصائدين.
"خيطان على الرمل/ لا يعرف إلى أي اتجاه/ يبدأ الزحف": عندما ينقسم الكائن إلى اثنين، تنهض الحياة، النسل، والدراما، ويصبح لزاماً أن توجد اللغة. خيطان على الرمل، هما أيضاً خيطا لعاب، منهما ستحصل اللغة، لاحقاً، على تعريفها الشعري في هذا النص: "من أين تنبع اللغة؟/ من ريقٍ../ يمتزج بِرِيق". لغة تلائم الغريزي أيضاً وتشبهه، فليست منظومة علامات مجردة، بل التقاءٍ حسي يمثل فيه اللحم والدم مفردات معجمها..  حيث: "لسانكِ/ حين أتمكن منه/ بين شفتيّ/ اللغةُ/ وهي تعود/ إلى مهدها الدافئ".. هي اللغة التي، تبعاً للتعريف نفسه، يغدو من المستحيل الحصول على معنى إن نحنُ حاولنا فصل مفرداتها خارج "عبارة": "الريق:/ كيف نفصله/ ونقول: هذا لكِ../ وهذا لي؟".
بالنزول من الفردوس إلى الأرض عثرت الأقدام على دورها، فماذا والنزول من الأرض هذه المرة؟ ستختفي الأقدام ليكون الزحف.. وهكذا يزحف هذا النص ناظراً للعالم من هامشٍ سفلي وليس من متن ٍعلوي. هل سنكون أمام نص تحولات (يتحول فيه الغريزي رويداً رويداً، في رحلةٍ عكسية جديدة، إلى إنساني حتى ينهض مجدداً على قدمين في آخر المطاف؟).

(5)
ربما تكون الحركة الثانية من "لغة الفرائس المحظوظة"، والمعنونة بـ"بلاغة الدم" هي "دنيا"

الكتاب إن جاز التعبير. اثنان وسبعون مقطعاً، تصلح عمراً لشخصٍ من الميلاد للشيخوخة. هنا، ثمة حكاية في الخلفية، حكاية تنهض بين الميلاد (الرغبة في كتابة قصيدة) والموت (إنهاء القصيدة).
بين "أريد أن أكتب قصيدة" في المقطع الأول و"يموت الشاعر" في المقطع الأخير، حياة كاملة، البطل فيها هو بلا مواربة: اللغة. إنها اللغة التي تشبه "لوناً ينعكس عليه الضوء مرتين، مرة على الزجاج وأخرى على ما بداخله" (أليست هذه استعارة اللغة كلها، الدوال والمدلولات؟). هي اللغة التي تبحث المقاطع واحداً بعد الآخر عنها، والتي بموت الشاعر، ينادي الله ملائكته: "سأعلمكم اللغة من جديد".
هنا لغةٌ تبحث عن نفسها، أو بالأحرى، تفتش عن منابعها لتصبح شعراً. لغة تدرك عجزها كونها تدرك أن "بأقل قدرٍ من الحروف/ بانعدامها أصلاً/ تقول الصرخة كل شيء". وأن البلاغة الوحيدة هي بلاغة الدم، الدم الذي "لا يحتاج لغةً/ ليصرخ في الناس"، الدم الذي يلد الطعنة، ليجعل "البقاء للندبة"، اللغة هي "الندوب": "الأثر الأخير، لجروحٍ/ شقت الجلد الواحد/ نصفين./ تلك التي/ كحرفٍ/ يلتئم بحرف".  اللغة التي هي كل شيء، عدا الكلمات، والتي، ربما بسبب ذلك، تبدأ بحثها عن نفسها من نقطة الصفر، ربما تعثر على نفسها في الموسيقي، تلك اللغة التي، كالدم والقبلة، لا كلام فيها.
تذهب اللغة أيضاً "للومضة الشعرية" لتعثر على نفسها في تعريفها "بأقل قدرٍ من الحروف"، بينما يكون موضوعها هو نفسها كلغة، عبر محاولة تعريفٍ "شعرية"، لما تمثله كلمة "كلمة". اللغة ستلجأ أيضاً للحكاية، بينما تتساءل في قلب الشعري: "عماذا سنحكي؟"، مفتشةً عن الشعري في السردي، في "محكيته" ومفارقته، ربما كان سرد العالم هو قصيدته.
وربما، مصرًة على حيرتها، تنطق اللغةُ الحيوان (الفريسة) نفسها، أو تنطق عبر مشهدها، سواء كان الحيوانُ روحاً تستعير من الإنسان اللغة، أو دمية تستعير منه قدرتها على الفعل الإنساني.
بين كل هذه اللغات، تبحث اللغة عن نفسها، وبين جميع هذه الذوات، تقرر الذاتُ الشاعرة أخيراً أن تقتنص لنفسها مساحةً محررة، قصيدة طويلة "من بابها" غير مجزأة، لتبحث بشكلٍ أقرب عن لغتها، فربما كانت اللغة المنشودة هي ذاتها بحثها هذا، فيما تتحدث، دون مواربةٍ، عن نفسها كذات، ربما اللغة هي نفسها الذات.
"عن نفسي"، حركة الكتاب الثالثة، وقصيدته السائلة: طويلة، غنائية، مُسترسلةٌ ومحتفيةٌ بالتداعي، بلا فواصل، قصيدةٌ تُمثل، وحدها، باباً. هي واسطة الكتاب بالضبط، يسبقها بابان وسيتلوها بابان، كأنها الصوت الذي يقبض على التجربة من المنتصف، وهي "مونولوج" هذا الكتاب الذي يعتمد "الحوارية"، هي أيضاً نص الذات وهي تكتب نفسها كأنا، كمركز للنص، وليس فقط كمشاهدٍ متوارٍ أو مراقبٍ يخلق نصه. هي أيضاً نص الكتاب الكبير عن حيرة اللغة، وهي تبذر، المرة تلو المرة، مشاهد "حكائية"، يكاد كل منها يكون محكية كاملة تولد وتنتهي في أسطر قليلة. إنها قصيدة تسأل نفسها عن اللغة التي يمكن بها أن تُِّحول نفسها إلى قصيدة، وهي تثبت أن حيرة اللغة هي نفسها لغة الشعر، وحيث من المحكيات الصغيرة، يحدث أن تولد حكايةٌ كبرى، وليس العكس كما تعودنا.
ربما، من هذه الذوات الضالة المهمشة يظهر الإله، وربما من قصص اليومي العابرة، تُستعاد قصة الخلق.. حكاية العالم الكبرى، وقصيدته الكبرى أيضاً.

(6)
لماذا تأخرت قصة الخلق إلى قرب النهاية، لماذا تزحزحت، في خيانةٍ لسياقها الزمني التعاقبي (الكرونولوجي) رغم أن مكانها هو - بداهةً - البداية؟ لماذا تلي قصةُ الخلق الدنيا في هذا

الكتاب، كأنها حلت محل القيامة، كأنها البعث وليس الميلاد؟ لماذا ترتد التجربة بعد كل ما شيدته إلى ما قبل التشييد؟ ما قبل اللغة والحكاية والعالم؟ كأن النص يلعب لعبة زمنية بالعكس، يبدأ من التشييد للهدم، من الوجود للعدم، من الصوت للصمت. هل هو "الفلاش باك" بلغة السينما التي بدأت بها الرحلة؟ ربما، لكنها أيضاً النظرة للزمن، الزمن الذي ليس بالضرورة أن يكون خطاً باتجاه الأمام، حيث يمكن له أن يكون خطاً باتجاه الخلف، أو ألا يكون خطاً بالأساس.
في "هشاشة المغفرة" تحل لغةٌ جديدة، لغة قصة الخلق، وهي تتبنى شكلها لتنقض محتواها، لتصبح معارضةً وليس  محض محاكاة. إنها تبدأ بـ"كان يا ما كان": الفاتحة المرعية للحكايات الدنيوية، وهي تبحث عن وجودها حيث "لم تكن بعد".
وهكذا تنقلب اللعبة من إلهٍ واحد وعدد لا نهائي من المخلوقات، إلى آلهة لا نهائية تعمل من أجل مخلوقٍ واحد، هو اللغة: "وندهنا في الخلائق أن: انطقوا".
هنا، ليس ثمة إله واحد، بل آلهة، ليس من خالق، بل حفنة خالقين، يعبّرون عن نفسهم بالمتكلم الجمعي. نقضٌ أكيد لواحدية الإله ومركزيته، وعلى العكس من قصة الخلق التوراتية، يأتي الخالق متحدثاً كأنا (أنا جمعية) وليس بضمير الغائب.
غير أن ضمير المتكلم لن يلبث أن يعود ليهيمن على الخروج (منتقماً لكل أنا، منتقماً من كل قطيع حتى لو كان قطيع آلهة). كأن لا ذات تنجو دون أن تكون أنا. كأن الذات الأولى، ذات الاستهلال الصفرية، نهضت، أخيراً، على قدمين، لتكتسب فرديتها الكاملة، ولتحسم التباسها، منفلتةً للأبد عن القطيع.
تبدأ الرحلة من الصفر، لتنتهي بالصفر. لقد كنا إذن أمام بنيةٍ دائرية، تصلح كل نقطة في محيطها لتكون بداية ونهاية معاً، مهد ولحد، ميلاد وموت، لا خط مستقيم، لا زمن يجبرنا على التقدم فيه، لا حكاية آمنة تنتج قصيدةً مقلمة الأظافر. فالأظافر، ربما، أكثر من اليد، هي ما يجب أن يبقى بطلاً.
"أشكرُ يدي اليُسرى../ الصّبورة/ التي تحمّلت مهانةَ/ ألّا تكتب/ أبداً": تلك اليد اليسرى، تلك الضامرة، المنسية، غير المستعملة، تستحقُ ذلك الشكر، لسببٍ مختلف عمّا أورده الشاعر، وربما لعكس هذا السبب بالذات، ذلك أن تلك اليد، وحدها، أداة الهامش الأشد هشاشة، هي من كتبت النص كله.