Print
شيرين أبو النجا

"سوريّات يروين": كيف يتم تطبيع العنف ضد النساء

10 يونيو 2019
عروض
اهتمت المنظمات الدولية بالانتهاكات الواقعة على النساء، واهتمت وسائل الإعلام بتصويرهن كضحايا (دائما ما تقترن النساء بالأطفال في نشرات الأخبار). لكن ماذا عن حياتهن اليومية في ظل الحرب؟ ماذا عن أصواتهن المنسيّة؟ ماذا عن شبكة علاقات القوى التي تُفرض عليهن؟ ماذا عن البنية الاجتماعية التي تتغيّر تلقائياً في ظل الحرب، بناء على فرضية أن شرف الوطن يساوي شرف المرأة وعلى النساء دائما تسديد ثمنها؟ إن هذه الأسئلة تجعلنا نعيد النظر في الثنائية الضيقة التي يطرحها محللو الحرب: البطل والضحية. ففي كتاب سمر يزبك "تسع عشرة امرأة، سوريّات يروين" (منشورات دار المتوسط، 2018) تسرد تسع عشرة امرأة قصصهن أثناء الحرب والأدوار التي قمن بها، ويظهر في هذه القصص الأثر المباشر على علاقات الجندر ووضع النساء في المجتمع.
تقول فاتن: "كان الضغط الاجتماعي أسوأ من القصف، بخاصة أن البنية الاجتماعية كانت تتغيّر وتتراجع إلى مزيد من الانحدار، وهذا التغيّر كان يتم بقوة السلاح". سمحت الحرب بظهور التخلف إلى العلن، وظهر بفجاجة كل ما كان مضمراً من قبل. تقول منى فريج (42 عاماً) من الرقة إنه عند اندلاع التظاهرات في شهر أيار/ مايو 2011 كان الرجال يعترضون على مشاركة النساء، "قال أحدهم إنه إذا خرجت النساء في التظاهرة، فلن يخرج الرجال معهن. قلت له: ابق أنت في بيتك، أنا سأخرج للتظاهر، وهذا من حقي". أما عليا (23 عاماً) من معرة النعمان فتقول: "لم تخرج نساء المعرة في تظاهرات. فالمجتمع مغلق، وعندما حاولن الخروج بتظاهرة، وهن متعلمات وجامعيات، قيل لهن إن شغل السياسة ليس للنساء. كان الخوف الأكبر هو من الاعتقال، حيث هناك هاجس الاغتصاب الذي سيلحق العار بالعائلات" (221). وتحكي سارة (21 عاماً) من المعضمية عن نشاطها أثناء الحرب حيث افتتحت مراكز تأهيل نفسي للأطفال، فتقول: "توسع نشاطنا، ولكن نشأ خلاف بيننا وبين المجلس المحلي، لم يرض أعضاؤه أن نكون نحن النساء في هذه القوة. لم يقبلوا أن نؤسس
مشاريع، ونكون مستقلات عنهم بهذه الطريقة، وقد هاجمونا بشكل علني. كانوا جميعهم رجالاً، ولكنني أنا والنساء عملنا بلا توقف". أما ريم (50 عاماً) وهي من حي برزة بدمشق فتحكي: "في إحدى تظاهرات الثورة، تحرّش شاب بفتاة، فأصدر الرجال قراراً بعدم خروج النساء في التظاهرات. ذهبت لرؤية الرجال الذين أصدروا هذا القرار، وقلت لهم إننا نصف المجتمع، فقالوا إن مشاركتنا حرام، فقلت لهم انظروا إلى مسيرات النظام، نصفها من النساء، فقالوا إن أعراض النساء يجب ألا تُمس. بعد جدال طويل، سمحوا لنا بالتظاهر، ولكن، من غير الاختلاط بالرجال. كان هذا في أواخر 2011".  

أهمية النضال النسوي
توضح هذه الشهادات أن الحراك الثوري الذي انخرطت فيه النساء بصدق وحماسة قد أدى إلى إعادة وضع جسد المرأة في صدارة المشهد حتى تحول جسد المرأة إلى جسد الأرض وجسد السلطة المتنازع عليهما. وأصبح هذا الجسد مُحاصراً من النظام والفصائل والعائلة والمجتمع. وأدى هذا الضغط الشديد إلى زيادة نسبة أشكال العنف الواقع على النساء والأطفال وأهمها العنف المنزلي لتعود المعادلة القديمة إلى الظهور، فرجل العائلة المقهور يُخرج هذا القهر على أجساد النساء بالمنزل. وتتعقّد الإشكالية هنا لأن العنف ضد النساء هو أحد القضايا الرئيسية التي تشكل جوهر النضال النسوي في العالم العربي. إلا أن الحرب في سورية أدت إلى التقليل من أهمية كل أشكال العنف في مقابل العنف الأكبر الواقع على الوطن بأكمله، ومن هنا يتحول العنف ضد النساء إلى نتيجة ثانوية، وهو ما يزيد نسبته ويؤخر الاشتباك مع القضية بوصفها انتهاكا مباشرا، لنجد أنفسنا محاصرين مرة أخرى بالسؤال القديم: ما أهمية النضال النسوي في سياق النضال الوطني؟ وبنزع الشرعية عن النضال النسوي يتم تطبيع العنف ضد النساء ولا يُلتفت إلا إلى العنف الذي يقع عليهن في المجال العام بوصفه عنفا يمارسه "الآخر" ضد "شرف المجتمع". أما كل العنف الواقع داخل حدود المنزل فهو مقبول ومفهوم وتبدو إثارته ضرباً من العبث. وفي تقرير مطوّل بعنوان "أصوات من سورية 2018" أصدرته الأمم المتحدة تظهر أشكال العنف المنزلي الناتجة عن الحرب. تقول شابة من درعا: "بالطبع يعاني الأب نفسياً بسبب الحرب والصعوبات الدائمة. وهذه الحالة النفسية السيئة تجعله يضرب زوجته وأبناءه. وبالتالي يصبح شديد العنف". أما أشكال العنف الأخرى وربما الأخطر فهي ظاهرة الزواج المبكر، أو بالأحرى زواج الأطفال، وهو ما يلجأ إليه الأهل من أجل توفير الحماية للفتاة أو للتخفيف من وطأة الفقر. وأخيراً هناك تقييد حركة النساء كنتيجة طبيعية للخوف الشديد من العنف خارج المنزل وعلى رأسه الاغتصاب. تقول شابة من حلب: "إن تأثير العنف على حياتنا اليومية عميق للغاية. حركة النساء مقيدة لأنهن خائفات على الدوام من الخطف أو الابتزاز".
وبوصف النساء مؤشراً على الهوية الثقافية يظهر الاغتصاب كإحدى وسائل إذلال الطرف

الآخر عبر كسر الإرادة. على سبيل المثال، أوضحت سوندرا هيل، في دراستها عن النساء في دارفور السودان والتي صدرت عام 2010، أن الارتباط الوثيق بين النساء وهوية المجتمع يحفّز المحاربين على القيام بعمليات اغتصاب جماعي من أجل هدم تماسك المجتمع. بهذا لا يدفع الحراك الثوري بعلاقات الجندر إلى الأمام بل يعيدها إلى الخلف حتى أنه يضعها في أزمة شديدة. يتحول جسد النساء إلى المعادل الموضوعي لجسد الوطن والأرض: فهو إما مُحاصر أو مُغتصب أو منتهك أو مُختف أو مقيدة حركته. ويزداد الأمر صعوبة عندما نتأمل النظرة المجتمعية للنساء اللاتي تم اعتقالهن مثلا في سجون النظام. فالوصمة الاجتماعية- التي يعرفها الجلاد- تلاحقهن لمعرفة الجميع أن المعتقلة قد وقع عليها اعتداء جنسي. ولذلك تختار هؤلاء النساء التكتم على الأمر والكثيرات لا يجدن وسيلة للدعم الطبي أو النفسي من أجل إعادة الاندماج في المجتمع. تؤكد برهان مثلا أن اعتقالها كان نقطة محورية في حياتها، إذ لم تتمكن من إكمال دراستها وتم دفعها إلى الرحيل عن سورية لأن عائلتها خافت أن يتم اعتقالها مرة أخرى. وفي كل الأحوال تتحمل النساء وأجسادهن عبء ومسؤولية حرب كاملة تُنتزع فيها إرادتهن وتكتسب أجسادهن دلالات جديدة تُصاغ من وجهة نظر الجندي وطبقا للجبهة التي يؤيدها.
كم سنة نحتاج لعلاج هذه الآلام، وكم سنة يحتاج النضال النسوي ليعود ويتصدّر المشهد؟