Print
عماد الدين موسى

"مملكة آدم": رحلة الفناء إلى الفناء

1 يوليه 2019
عروض
تبدو قصيدة الشاعر أمجد ناصر (1955) عبارة عن مزيج جمالي حميم، أدبيّ وفنّي. قصيدةٌ شديدة الغنى والتنوّع من جهة، ومن جهةٍ أخرى نجدها غايةً في الخصوصيّة، مبنى ومعنى؛ إذْ تأخذ من معظم الفنون الإبداعيّة، من مسرح ورواية وقصّة وغيرها، دونَ أنْ تفقد سطوة الشِعريّة الكامنة بين جنباتها. شِعريّة أمجد، المُتدرجّة من عالم الوزنِ، إلى فسحة النثر، شِعريّة مُتحرّرة من أَسْرِ "النمذجة"، بحيث يصعب تصنيفها أو إدراجها في خانةٍ كتابيّة معيّنة.
في كتابهِ الشِعريّ الأحدث "مملكة آدم"، الصادر عن منشورات المتوسط في ميلانو 2019، يسعى ناصر إلى كتابةِ نصّ ملحمي، قصير ومكثّف. ثمّة حكاية قصيرة وموجزة، بالرغم من أنها حكاية الخلق منذ آدم الأمس، القريب/ البعيد، الخارج للتوّ من جنّته، وصولاً إلى آدمِ اليوم، الراقد تحت حطام بيته، بفعل الحرب والحقد والقصفِ والبراميل، براميل الموت اليوميّ، إنّها الخطيئة ذاتها، لكن الأنثى هذه المرة ليست امرأة وإنما "الحريّة" ومحاولة كسر الأغلال والقيود وتحطيم عرش الدكتاتور المؤلّه: "عالِجوني بروح الخردل/ والأياهوسكا/ والداتورة/ بالسّذَّاب السُّوريّ/ والحِداءِ الذي يشبهُ بكاءَ الجِمال/ لأصعدَ إلى السماء الخامسة/ حيثُ قَدَمُ اللهِ المتشعِّبةُ، تغسلُها النوايا الطّيّبةُ/ وأيدي الحور العين".

النزول إلى الجحيم
ولعلّ اللافت في هذا الكتاب تلك اللغة الشِعريّة السلسة، حيثُ يكتب الشاعر ناصر بأريحيّة أكبر، فيأتي كتابه مُغايراً عن أعمالهِ الشِعريّة السابقة؛ إذْ ثمّة، هنا، هامش من الحريّةِ في البوح

الشفيفِ، طالما أنّه يتناول عالماً لم يعد غريباً أو سريّاً في زمن الدم والموت المجانيّ، إنّها صرخةٌ طازجة ومدويّة، شبيهة بصرخة المولود، تماماً، تلك التي تبدأ منذ لحظة النزول إلى الجحيم الأرضيّ وإلى ما لا نهاية، إلى ما بعد الموت؛ الصرخة التي تبدأ بتمزيق "الصمت" وتنتهي إلى "الصمت" وحده: " كنتُ يوماً هذهِ الورقةَ التي تَسقطُ في بُطءٍ،/ الغصنَ الصامدَ في وجهِ الريحِ،/ الوردةَ التي أنكرتْ نفسَهَا عندما قدَّمَها الخريفُ/ إلى مُلهمتِهِ الصهباءِ،/ النمرَ الذي يظنُّ أنَّه حُرٌّ فيما هو في حديقةٍ مُسيَّجةٍ،/ الأَرَضَةَ التي تأكلُ المهدَ والصولجانَ،/ الترابَ الذي يَتفتَّتُ في أصيصِ جيرانيوم/ لم تعدِ اليدُ التي اعتادتْ سقايتُهُ موجودةً،/ القاربَ الذي خرقَهُ رجلٌ صالحٌ/ لأنَّ مَلكاً في الأرجاء يأخذُ كلَّ سفينةٍ غصباً،/ العينَ التي أطفأتْ قنديلَهَا بعدما رأتْ ما رأتْ،/ الوجهَ،/ الذي صارَ قناعاً/ لحقيقةٍ غاصتْ بين الضِّلعِ والنبضةِ ولا أملَ في استردادِ زيتِ ولادتِها المراق..".
تتداخلُ الأصوات في "مملكة آدم"، الواقع في اثنين وثمانين صفحةً من القطع المتوسط؛ تداخلاً هارمونيّاً، فنجد أنّ هذه الأصوات قد تعلو أو تخفت تبعاً للحالة أو الدفقة الشعوريّة، وهو ما ينسحب على الجُملة أو العبارة أيضاً، والتي بدورها تطول أو تقصر، وكأنّها الشهيق أو الزفير؛ كما يُلاحظ ذلك النَفَس السينمائي/ التصويري في سرد تفاصيلَ متناقضة ومألوفة في الآنِ معاً؛ الحياة والموت، الأمس واليوم، الأب والابن، الصمت والضجيج؛ "لا تغفرْ لهم، يا أبتِ/ لأنهم يعلمون ما كانوا يفعلون"، يقول الشاعر.

مملكة الرعب والكوارث
ثمة من يشعل الحرائق، ويمارس دورة الشقاء الأبدي لكل شيء، يزرع الموت، ويحشر الأجساد ليدفعها نحو المقصلة، ليكون المرقى صعباً، ويفتح المجهول يديه ليستقبل أولئك الهاربين من

تواريخ مجنونة، تكتبان من جديد بالدم والحديد، وتتخذان من نشيد الفناء لغة متداولة صارت مألوفة لدى الجميع، وحدهم من يذوقون العذاب يفهمونها جيدا، وحدهم من يدفعون ثمن تذكرة العبور إلى الحياة ضريبة الحياة نفسها، وضريبة الولادة؛ لأن هناك: "من يلعب بالتواريخ والأرقام في رزنامة الربّ الكبيرة"، وليس إبليس من يفعل ذلك، لأن من يقوم بذلك: "يستغل قيلولة الله، ليلعب بالتواريخ والمصائر"، لذلك يتوجب على: "أحدٍ ما أن يسكب ماءً بارداً على جبينه الهائل، على أحدٍ أن يرفع هذه الغرّة الضخمة عن عينيه، ليرى ما يجري هناك في مملكة مخلوقه آدم".
آدم الذي سمي الكتاب باسمه، وتعلّقت به مصائر البشر أيضاً، فهو أبو الخليقة، وهو أول من أوجده الربّ عليها، عندما لم يكن أحد، ليكون مصير الجميع إلى زوال بسبب الدمار الذي حلّ بالبشرية فهم أموات ولكن: "الدم والنّفَس والذكريات تطرّي الجسد، وتجعله قابلا للانثناء. بسبب كثرتنا، لأننا ملأنا الأرض التي كانت خضراء بما لا أدري، فصارت خضراء من القيء وبرادة النحاس المجنزر، وراحوا يرموننا على عجل في العربات"، لتفتح النهاية أبوابها على أشدّها لاستقبال القادمين من رحلة الفناء إلى الفناء نفسه الذي كانوا يعيشون فيه عندما أخذ من يلعب بالتواريخ والمصائر يمارس اللعبة التي أتقن فيها دوره بشكل جيد، لتبقى "مملكة آدم" مملكة الرعب والكوارث والخوف.