Print
أنطوان شلحت

اللغة العربية ومخطط إسرائيل لجعلها "شيئًا خارج مكانه"

4 أكتوبر 2020
عروض
يحاول الباحث الإسرائيلي يونتان مندل في كتابه "لغة خارج مكانها.. العربية في إسرائيل من الاستشراق إلى المخابرات"، الصادر حديثًا باللغة العبرية عن منشورات "معهد فان لير" و"الكيبوتس الموحد"، تتبُع تاريخ تعليم اللغة العربية في أوساط المجتمع اليهودي في فلسطين ثم في إسرائيل، خلال المئة عام الأخيرة، وفحص كيف بات تعليم العربية يساهم في التباعد والفصل بين اليهود والعرب، عوضًا عن أن تستخدم هذه اللغة في قيم أخرى مثل التقارب والحوار والتعارف والتواصل.

والاستنتاج الأبرز الذي يخلص إليه الباحث في أول بحث من نوعه، هو أن تطور حقل تعليم اللغة العربية في إسرائيل، ضبطته على نحو غير بريء بتاتًا سيرورتان تاريخيتان كانتا مسبقتي البرمجة: عملية تكريس المقاربة الأوروبية في تعليم اللغة العربية قبل إقامة إسرائيل من جهة، وعملية تجذير الشراكة بين المؤسسة الأمنية وجهاز التربية والتعليم الحكومي فور إقامتها وعلى طول سنواتها من جهة ثانية. وأسفرت هاتان العمليتان عما يصفه بأنه "لتننة" (من لاتينية) و"أمننة" (من أمن) اللغة العربية بما أدى، بل ما كان من الممكن أن يؤدي سوى إلى جعل العربية لغة خارج مكانها.
كما نشأت إثر هاتين العمليتين لغة اجتماعية اصطلح عليها بـ"العربية الإسرائيلية".

الافتراض المركزي الذي ينطلقُ منه مندل، هو أن ما يظهر اليوم بأنه أمر بدهي أملاه الواقع، إنما هو نتاج سيرورات تاريخية، تحكمت فيها العقيدة الصهيونية حتى باتت مستحكمة فيها.
والتشديد في عبارة "خارج مكانها"- كما نستدل عند الانتهاء من قراءة الكتاب- هو على الإقصاء كحصيلة مُشتهاة، على نحو مسبق. ويمكن ملاحظة أنه إقصاء مزدوج: من جهة زماني، عبر تعليم اللغة العربية وفقًا لمقاربة كلاسيكية استشراقية وليست عصرية راهنة قطّ، ومن جهة أخرى إقصاء عن الناطقين بها كون المقاربة الأمنية حدّدت تركيز يهود أمنيين فقط في هذا الحقل.
يستعرض الكتاب مكانة اللغة العربية لدى السكان اليهود على امتداد التاريخ، ويصف كيف نشأت في فلسطين في مطلع القرن الفائت مقاربة جديدة لتعليم اللغة العربية استندت إلى أساليب ومناهج أوروبية، وعلى وجه التحديد إلى النموذج اللغوي الألماني. بعد ذلك يستعرض التطورات التي حدثت في مضمار تعليم اللغة العربية، وذلك من ضمن أشياء أخرى، إثر ضغوط مورست من أجل مواءَمَتها مع احتياجات ومتطلبات المجتمع الاستيطاني اليهودي (الييشوف)، وفي ضوء الهيمنة المتزايدةِ للاعتبارات الأمنية لا سيّما منذ أربعينيات القرن الفائت. ولعبت شبكات الخبراء اليهود الإسرائيليين، التي تشكّلت بمرور الوقت، دورًا في صَوْغ وبلورة أسس ومعايير تعليم العربية في البلد ورسمت الأفق الذي يتطلع أو بشكل أدّق ينبغي أن يتطلع إليه الطلبة. وهو يؤكد أن هذا الوضع ما زال قائمًا حتى يومنا هذا في معظم المجالات والدوائر التي تُدرّس فيها اللغة العربية في المجتمع اليهودي، سواء في إطار جهاز التربية والتعليم المُمنهج، أو خارجهُ الذي قد يتراءى للبعض بأنه غير مُمنهج.

تجدر الإشارة إلى أن النسخة الأولى من هذا الكتاب، والتي جاءت استنادًا إلى رسالة الدكتوراه التي كُتبت في جامعة كمبريدج بإشراف البروفيسور ياسر سليمان، صدرت باللغة الإنكليزية في عام 2014 عن Palgrave Macmillan، وصدرت باللغة العربية عن المركز العربي للأبحاث ودراسات السياسة في الدوحة عام 2018 تحت عنوان: "تكوّن العربية الإسرائيلية: معطيات سياسية وأمنية في تشكل دراسات العربية في إسرائيل".

تأثرت عملية تبلور تدريس اللغة العربية في جهاز التعليم اليهودي، ليس فقط بالاحتياجات الأمنية والسياسية، وإنما أيضًا بالطرق والمناهج اللغوية الألمانية في مضمار تدريس العربية في الغرب في مطلع القرن العشرين، والتي صاغت أيضًا المقاربة حيال التعليم، وتحكمت بنشوء شريحة " الخبراء" وسلخ تدريس هذه اللغة عن المكان والزمان


غير أن هذه النسخة (العبرية) تضم فصولًا وأبحاثًا إضافية أنجزها المؤلف بعد كتابة رسالة الدكتوراه.

يتوقف مندل، على نحو خاص، عند سيرورتين تتعلقان بموضوع بحثه: الأولى تتمثل في ابتعاد السكان اليهود عن اللغة العربية. ويشير في هذا الصدد إلى أنه في الماضي كانت العربية هي اللغة السائدة في البلد؛ إذ كانت تشكل لغة الثقافة والتجارة، ورابطة التواصل بين شتى فئات المجتمع، كذلك كانت جزءًا من البرنامج أو المنهج اللغوي للسكان اليهود، سواء كلغة أولى أو ثانية، أو كلغة تخاطب أساسية. غير أنها أضحت في غضون مئة عام لغة تنطق بها قلة قليلة من اليهود، ناهيك عن عدم استخدامها في الإنتاج الأدبي أو الثقافي.
أما السيرورة الثانية فتتمثل في أنه، وجنبًا إلى جنب مع تراجع نسبة المُلّمين باللغة العربية، والناطقين بها في صفوف مجمل السكان اليهود، طرأ ازدياد على نسبة معرفة هذه اللغة لدى مجموعة محدودة جدًا، وهم اليهود من مواليد البلد، والذين ترتبط معرفتهم باللغة العربية بمنطلقات ووجهات نظر قوموية وأمنية إسرائيلية، والذين يرون في الإنسان العربي "الآخر المختلف". ويعمل هؤلاء في حيزات وأماكن يهودية إسرائيلية، لا يوجد للمواطنين العرب موطئ قدم فيها تقريبًا، ولم يكن تعلم اللغة العربية لدى هذه المجموعة بهدف "التآلف بين القلوب" أو التقارب مع العالم العربي وثقافته، وإنما العكس تمامًا، بهدف النأي والتمايز عنه.
ومن نافل القول إن تلك المنطلقات القوموية والأمنية صهيونية القلب والقالب، وبالتالي فهي سعت للإقصاء والتباعد والفصل، وتعاملت مع اللغة العربية كأداة وظيفية للدفع قدمًا بهذه المنطلقات.  



اعتبارات أمنية

وفقًا لما يُظهره هذا البحث على نحو غير مسبوق في هذا الصدد، جرى تشكيل ورسم حدود وسمات حقل تعليم اللغة العربية في إسرائيل بواسطة اعتبارات أمنية محضة، في حين أن جذوره تعود إلى الفيلولوجيا (الفقه اللغوي) الأوروبية. وفي هذا الشأن الأخير يشير المؤلف إلى أنه في مطلع القرن العشرين، وقبل أن تصبح الاعتبارات الأمنية عاملًا مهيمنًا في حقل تعليم العربية، تحولت المقاربة التربوية بشأن تعليم هذه اللغة إلى مقاربة أكاديمية ولغوية جافّة نقلها إلى فلسطين مثقفون يهود صهاينة، معظمهم من خريجي الجامعات الألمانية. وكانت العربية، فيما مضى، لغةً للحديث والكتابة السائدة في المنطقة، وقد اعتمدت دراسة اللغة العربية على تقاليد محلية، وعلى خبراء يجيدون اللغة ذاتها من اليهود والعرب على حد سواء. غير أن المقاربة الجديدة في التعليم ركزت بالذات على النحو، وعلى القراءة وتحليل النصوص، كما لو كان تدريس اللغة العربية في المجتمع اليهودي في فلسطين موازيًا لتدريس اللغة العربية الكلاسيكية، أو اللغة العبرية التوراتية أو اللغة اليونانية العتيقة في الجامعات القديمة. وعلى سبيل المثال، فمن بين المؤسسين العشرة، وجميعهم من اليهود الغربيين (الأشكناز)، لـ"معهد علوم الشرق" في الجامعة العبرية في القدس عام 1926، والتي كانت وقتئذٍ المؤسسة الأكاديمية الوحيدة في البلد وهي التي وجهت نوعية تعليم اللغة العربية، كان تسعة منهم من خريجي جامعات ناطقة بالألمانية، وعاشرهم خريج قسم الدراسات الكلاسيكية في جامعة كمبريدج. بعبارة أخرى فإن أيًا من الباحثين في "معهد علوم الشرق" لم يكن يهوديًا من أصل شرقي، أو يهوديًا يجيد العربية، أو باحثًا عربيًا فلسطينيًا. ومن ناحية عملية وبموجب وثيقة تأسيس المعهد التي صيغت في فرانكفورت يوم 14 أيار/ مايو 1925، كتب الأب المؤسس للمعهد يوسف هوروفيتس أن "على رئيس المعهد أن يكون مستعربًا خبيرًا باللغة العربية وآدابها تلقى تأهيله إما في أوروبا، أو في الولايات المتحدة الأميركية فقط. في الوقت الحالي ليس هناك باحثون من المشرق مُلمون بطرق وأساليب العلم الحديث بأكملها".

وفقا لوجهة النظر السوسيولوجية النقدية، فإن التنكر للغة العربية فُرض على اليهود العرب. فقد انتهجت إسرائيل سياسة تمييز واضحة بين اليهود والعرب، واعتبرت نفسها دولة غربية، وأنها وإن كانت موجودة في الشرق الأوسط فهي ليست جزءا من هذه المنطقة



كانت لهذا التغيير، حسب ما يلفت المؤلف، تداعيات بعيدة الأثر على اللغة المدروسة من حيث المنهج التعليمي، والكفاءات المكتسبة. فضلًا عن ذلك، ساهمت هذه العملية في فصل اللغة العربية عن مكانها، عن الناطقين بها وحيّز حياتها، وأدت في نهاية المطاف إلى الفصل بين العرب واليهود، حتى وإن لم يكن ذلك هو الهدف في الأصل، على ما يؤكد.
هذه العملية اصطلح عليها مندل بـ"لتننة" اللغة العربية (من اللاتينية). وينطوي هذا المصطلح على السياقات الأوروبية لدراسة اللغة - طرق التدريس الأوروبية وخصوصًا الطرق الألمانية التي جُلبت إلى البلد. كذلك ينطوي على نظرة إلى اللغة العربية مصحوبةً برهبة التحدث بها كونها تقبع في ماضٍ كلاسيكي ومُنفصل عن الواقع الحديث، بما يحيل إلى انفصالها عن الزمان الراهن أيضًا.
إذًا تأثرت عملية تبلور تدريس اللغة العربية في جهاز التعليم اليهودي، ليس فقط بالاحتياجات الأمنية والسياسية، وإنما أيضًا بالطرق والمناهج اللغوية الألمانية في مضمار تدريس العربية في الغرب في مطلع القرن العشرين، والتي صاغت أيضًا المقاربة حيال التعليم، وتحكمت بنشوء شريحة " الخبراء" وسلخ تدريس هذه اللغة عن المكان والزمان.
غير أن الفيلولوجيا لم تكن العامل الوحيد الذي وجه عملية تبلور تعليم اللغة العربية في البلد. ففي أعقاب اشتداد الصراع الصهيوني – الفلسطيني، وتفاقم القطيعة الجغرافية والاجتماعية والسياسية بين اليهود والعرب، ازداد وزن الاعتبارات الاستراتيجية والقومية في تعليم اللغة العربية. وإثر ذلك بدأت عملية أخرى اصطلح عليها بـ"أمننة" هذا الحقل.
وأدى إقحام هذه الاعتبارات في مجال تعليم العربية في أربعينيات القرن الماضي، والسنوات التي أعقبت إقامة إسرائيل، إلى ظهور ما اصْطلِحُ عليه بـ"عربية – إسرائيلية"، ويدور الحديث حول لهجة أخذت تتبلور لدى مجموعة اجتماعية معينة (Sociolect).
هاتان العمليتان - اللتننة والأمننة - لم تكونا سائرتين جنبًا إلى جنب دومًا، غير أنه كان لكلٍ منهما تأثير كبير على تعليم اللغة العربية في المدارس، وفي مراكز التربية والثقافة التي عملت خارج إطار جهاز التعليم، والمؤسسات الأكاديمية الإسرائيلية.  فقد صاغتا معًا نمط تعليم اللغة العربية كمضمار لا يخدم في معظمه مجالي الاتصال والإنتاج، ولا يتضمن مواطنين عربًا وتبادلًا للحديث بالعربية، كما أنه استند على مقاربات تقليدية في الترجمة والنحو لتعليم اللغة. وهكذا جرى رسم مسار يبدأ بتعليم اللغة العربية في المدرسة، وفق مقاربة استشراقية، مرورًا بدراسات العربية في الجيش الإسرائيلي، وينتهي بالدراسات العربية والشرق – أوسطية في الجامعة. من هنا جرى استيعاب خريجي هذا المسار في مؤسسات وأُطر أمنية ومدنية إسرائيلية. وكانت النتيجةُ بالتالي تكريس وإبقاء واستدامة الخطاب في هذا المضمار وتطبيعه.
وبرأي مندل لا يمكن فهم المقاربة التي ترسّخت في مضمار تعليم اللغة العربية على امتداد سنوات وجود إسرائيل من دون تفحص العلاقة الثنائية بين المقاربة الأوروبية المبكرة، وبين المقاربة الإسرائيلية المتأخرة ذات السياقات الأمنية والسياسية السافرة. وهو يشير في هذا الصدد، مثلما سبق التنويه، إلى أن "لتننة" اللغة مهدت لإيجاد حقل منفصل يهودي- صهيوني حتى لو لم يكن يحمل الطابع الأمني، وفي مرحلة لاحقة ساهمت عملية "أمننتها" في شحن هذا الحقل بالمدلولات الأخرى التي اكتسبت صفة الديمومة.
وفعلًا يبيّن الكتاب كيف أن "لتننة" العربية كانت عاملًا مساعدًا في عملية "أمننتها". فقد أدى ذلك إلى فصل مجال تعليم العربية عن الخبراء والتوجهات والتقاليد القديمة، وأوجد حقلًا يتضمن خبرات وتوجهات تعليمية ومجالات تخصص جديدة. وبات من الممكن عقب فصل حقل تعليم هذه اللغة عن سياقاته العربية، وتحوَله إلى حقل يهودي صهيوني، تشكيله وبلورته وفقًا لمتطلبات واحتياجات قومية إسرائيلية في جوهرها. عندئذٍ، وفي ظل احتدام الصراع، ازداد دور التوجه القومي الذي تأثر باحتياجات الزعامة السياسية، والذي كان يغرق بكُليته في اعتبارات الأمن.
وخلاصة القول: أدى العاملان المذكوران (اللتننة والأمننة) إلى تحويل اللغة العربية في البلد، وفي المجتمع اليهودي، إلى "شيء خارج مكانه"، وفقًا لمصطلحات الباحثة ماري دوغلاس.

 

معرفة العربية في أوساط السكان اليهود الآن



في عام 2015 نشرت مجموعة من الباحثين برئاسة البروفيسور يهودا شنهاف- شهرباني تقريرًا بحثيًا تحت عنوان "معرفة العربية لدى اليهود في إسرائيل". وأجرَت هذه المجموعة - التي كان المؤلف في عِدادها - استطلاعًا في صفوف عينةٍ تمثيليةٍ للسكان اليهود في إسرائيل  تكونت من 500 شخص، طُلب منهم إعطاء تقرير حول كفاءاتهم العامة في موضوع اللغة العربية. ثم سُئل المشاركون في الاستطلاع عما إذا كانوا يمتلكون مهاراتٍ لغويةٍ ملموسةٍ.
وبيّن الاستطلاع نتائج ومعطيات مُزريةٍ فيما يتعلق بهذه المسألة ذاتَها. فعلى الرغم من أن ما نسبته 9.8% من المشاركين في العيّنة، وصفوا درجة معرفتهم باللغة العربية بأنها عالية، إلا أن 6.8% قالوا بأنهم يستطيعون فقط تشخيص الحروف بالعربية، وقال 2.6% بأنهم يستطيعون قراءة نص قصير باللغة العربية، وأجاب 1.4% بأنهم قادرون على كتابة رسالة بريد إلكتروني، أو رسالةٍ قصيرةٍ بالعربية، فيما صرح ما يقل عن 1% بأنهم قادرون على قراءة كتاب باللغة العربية.

السياق الأمني أضحى جزءًا لا يتجزأ من مضمار تعليم اللغة العربية كقاعدة وحتى مع وجود استثناءات تحاول أن تجاهر بكونها كذلك فإنها لا تنفي القاعدة الراسخة



علاوة على ذلك، أتت هذه المعطيات في بعض الأحيان "مُطريةً" بصورةٍ مبالغٍ بها، ذلك أنها أخذت في الحسبان أيضًا مشاركين في الاستطلاع، أو على الأقل أحد آبائهم أو أجدادهم، من مواليد الدول العربية (أطلق على هؤلاء في البحث " يهود- عرب").
وقد اتضح، بعدما استبعدت من العيَنة المستطلعة هذه الفئة من المشاركين، أن 3.1% فقط من الذين وجه إليهم السؤال، أفادوا بأنهم يستطيعون التعرف على الأحرف العربية. وقال 0.4% بأنهم قادرون على قراءةِ نصّ قصير بالعربية، وقالت نسبة مماثلة- 0.4%- من المشاركين إنهم يستطيعون كتابة رسالة بريد إلكتروني، أو رسالة قصيرة باللغة العربية، فيما ذكر أقل من 0.1% أنهم يستطيعون قراءة كتاب باللغة ذاتها.
بعد ذلك وسّعت العينة التمثيلية، وأضيف اليها 261 مشاركًا آخر من أصل شرقي. وقد أتاح ذلك إمكان الوقوف والتعرف على الفوارق بين جيل المهاجرين الشرقيين الأول، أي مواليد الدول العربية، وبين الجيل الثاني من هذه المجموعة، وكذلك بين الجيلين الثاني والثالث. هنا ظهرت بوضوح صورة محو اللغة العربية لدى اليهود العرب في إسرائيل، فقد تبين من الاستطلاع أن 41% من أبناء الجيل الأول (غالبيتهم من مواليد عشرينيات وثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي) ما زالوا يتحدثون بالعربية في المنزل، غير أن هذا المعطى هبط لدى أبناء الجيل الثاني (مواليد الخمسينيات والستينيات) إلى 13.5%، ووصل هبوطه بين أبناء (الجيل الثالث) إلى 2.4%.
كذلك اتضح وجود تدهور أيضًا فيما يتعلق بمستوى المعرفة العامة باللغة العربية، بالمقارنة بين الأجيال. ففي أوساط أبناء الجيل الأول من اليهود العرب، أفاد نحو 26% بأنهم ملمون باللغة العربية، وهو ما أفاد به أيضًا 14% من أبناء الجيل الثاني، فيما هبطت نسبة المصرّحين بالأمر ذاته في صفوف أبناء الجيل الثالث إلى 1% فقط.
ويؤكد مندل أن محو اللغة العربية يجب أن يثير، حسب اعتقاده، أصداءً وقلقًا أكثر بكثير من عملية محو لغات أخرى تكلم بها اليهود الأشكناز في البلد كاللغات الألمانية والروسية والرومانية، أو حتى الييديش، والتي جرت في السنوات الأولى لقيام دولة إسرائيل. فالعربية لغة سامية منطوقة في بقاع واسعة من العالم، وهي اللغة الحيّة الأقرب إلى اللغة العبرية. ولقد كانت العربية وما زالت لغة المنطقة، فضلًا عن ذلك، فهي اللغة الأم للعرب الفلسطينيين الذين يعيشون إلى جانب اليهود في البلد. وظلت تتمتع بمكانة لغة رسمية منذ عام 1922، وحتى شهر تموز/ يوليو 2018، عشية سن" قانون القومية"، الذي أُعطيت هذه اللغة في أعقابه "مكانةً خاصةً" حلّت محل المكانة الرسميّة. كما أن غياب الكفاءات باللغة العربية لدى اليهود في البلد بصورة عامة، ولدى اليهود الشرقيين بصورة خاصة، له انعكاسات وتداعيات بعيدة الأثر على الصراع العربي- الإسرائيلي وعلى التوتر القائم بين اليهود والعرب في إسرائيل، وكذلك على العلاقات داخل المجتمع اليهودي، والسياقات التي تستخدم وتعمل فيها اللغة العربية ذاتها. فقد تحولت العربية من لغة مرتبطة بحياة الجاليات اليهودية، وعلاقاتها مع جوارها سواء في البلدان العربية، أو في إسرائيل، إلى لغةٍ هامشيةٍ أو ذات مكانة متدنية وغير متداولة.
وأشارت معطيات إضافية، تبينت من الاستطلاع، إلى نظرةٍ مركّبة، وأحيانًا غير متّسقة أو منسجمةٍ، إلى اللغة العربية. وعلى سبيل المثال، عندما سُئل المشاركون في الاستطلاع عن مواقفهم تجاه اللغة العربية في إسرائيل، وافق قسم كبير منهم (55.8%) على أهمية معرفة اللغة العربية من أجل اندماج إسرائيل في الشرق الأوسط، ورأى قسم أكبر (57.8%) أن للغة العربية أهمية للحياة في إسرائيل. كذلك قال قسم لا يستهان به (38%) إنه يجب تدريس اللغة العربية من الصف الأول الابتدائي. غير أن القسم الأكبر من المشاركين في الاستطلاع والذين أقروا بأهمية وقيمة تعلم العربية (65.4%) قالوا "إن هذه اللغة مهمة لأسباب واعتبارات أمنية، وذلك من باب ’إعرف عدوك’"!
بعد تحليل هذه المعطياتً بناء على الأصول الإثنية، ظهرت نتيجة لا تقل إثارة للقلق. فقد تبيّن أن اليهود الشرقيين يحتفظون بصورة منهجية بآراء سلبية أكثر تجاه اللغة العربية، وعلى سبيل المثال اعتقد (58%) من اليهود غير الشرقيين، أن العربية يجب أن تكون لغة رسمية في إسرائيل وذلك في مقابل (49%) من اليهود الشرقيين، تبنوا الرأي ذاته. كذلك صرح (29%) من اليهود غير الشرقيين، أن "مواطني دولة إسرائيل يجب أن يتحدثوا اللغة العبرية فقط" مقابل (39%) من اليهود الشرقيين صرّحوا بذلك. وفيما رأى (59.8%) من اليهود غير الشرقيين أنه يجب معرفة اللغة العربية من باب "إعرف عدوك" بلغت نسبة الذين يتبنون الرأي ذاته في صفوف اليهود الشرقيين (74.2%)، وذلك على الرغم من أن العربية هي لغة التراث بالنسبة لآبائهم وأمهاتهم.
وفقا لوجهة النظر السوسيولوجية النقدية، فإن التنكر للغة العربية فُرض على اليهود العرب. فقد انتهجت إسرائيل سياسة تمييز واضحة بين اليهود والعرب، واعتبرت نفسها دولة غربية، وأنها وإن كانت موجودة في الشرق الأوسط، فهي ليست جزءًا من هذه المنطقة. وكان اليهود العرب مُطالبين بالتخلي عن عربيّتهم، ولغتهم العربية، كي يتمكنوا من الانتماء إلى المجتمع اليهودي، ومن ناحية عملية أضحى تعلم العربية أكثر رواجًا لدى الجمهور غير الشرقي بالذات، إذ يشير البحث إلى أن نسبة اليهود الغربيين (الأشكناز) الذين درسوا اللغة العربية في الجامعات، زادت أربعة أضعاف عن نسبة دارسي هذه اللغة لدى اليهود الشرقيين، كما أن نسبة اليهود الأشكناز الذين تعلموا العربية في الجيش الإسرائيلي تشكل أربعة أضعاف مثل هذه النسبة لدى اليهود الشرقيين. وعليه يمكن القول استنادًا للافتراض بأن أبناء الجيل الشاب من اليهود الشرقيين لم يعودوا يكتسبون اللغة العربية في البيت أو الحي، إن أكثر الملمين بهذه اللغة هم من أحفاد وأنساب ناطقين باللغات الروسية، والييديش، والألمانية أو البولندية.
هذه المعطيات تشير، كما يبين الباحث، إلى عمليةٍ تاريخيةٍ واسعة من القطيعة بين اليهود وبين اللغة العربية. على هذا الأساس يمكن فهم تحول اللغة العربية من لغة تُميّز الحيّز والمنطقة، إلى لغةٍ تخص العدو.
وثمة انعكاس أو بعد آخر لتلك العملية السوسيولوجية والسياسية، يتمثل في عملية الفصل التي راحت تتعمق أكثر فأكثر في البلد، بين الحديث والقراءة. ويقتصر التحدث باللغة العربية حاليًا بصورة رئيسة على أقلية آخذة في التناقص أكثر فأكثر لدى اليهود القادمين من دول عربية. فنسبة اليهود الشرقيين، الذين أفادوا في الاستطلاع المذكور بأنهم يستطيعون التحدث باللغة العربية، بلغت (17%)، وغالبية هؤلاء من مواليد الدول العربية، وذلك مقابل (1.1%) من اليهود الأشكناز أو غير الشرقيين، والذين يشكلون أكثرية دارسي اللغة العربية حاليًا، إذ أن تعلم العربية يتركّز على اكتساب مهارات القراءة والاستماع، وليس على التواصل بين الأفراد. وهذه الفجوة في مهارات التحدث (بالعربية) بين الجيل الآخذ في الانقراض لدى اليهود مواليد الدول العربية وبين جيل المستقبل، إنما تدل على العمليات التي مرت بها هذه اللغة لدى اليهود في إسرائيل.



خارج إطار التعليم الرسمي

يوجه المؤلف في أحد فصول الكتاب الأنظار إلى ما هو خارج إطار جهاز التعليم الرسمي، مُركزًا على مؤسستين برزتا في مجال تعليم اللغة العربية: "معهد غفعات حبيبا" و"معهد أولبان عكيفا"، وهما مؤسستان ترفعان راية "السلام والتفاهم المتبادل والتعايش"، ومن هنا فإن تحليل أنشطتهما يكتسب أهمية خاصة باعتبار أنهما تتظاهران بكونهما استثناء. ويتفحص الفصل الأهداف المعلنة لهاتين المؤسستين في كل ما يتصل بتعليم اللغة العربية، كما يتفحص عملهما والتطورات التي طرأت عليه منذ ستينيات القرن الماضي، مبينًا أنه في هاتين المؤسستين أيضًا تكونت شبكات تعليمية أمنية مشابهة للشبكات العاملة في جهاز التعليم الحكومي، وأنه كان للاعتبارات الأمنية كذلك دور وتأثير في تعليم اللغة العربية فيهما، ما يحيل إلى أن السياق الأمني أضحى جزءًا لا يتجزأ من مضمار تعليم اللغة العربية كقاعدة وأنه حتى مع وجود استثناءات تحاول أن تجاهر بكونها كذلك فإنها لا تنفي القاعدة الراسخة.



يعرب يونتان مندل عن اعتقاده بأن الطريقة التي تبلور فيها حقل تعليم اللغة العربية على امتداد السنوات في إسرائيل تقف حائلًا دون تحوّل اللغة العربية إلى لغة حيّة وديناميكية، وهذه الطريقة كانت مضبوطة على إيقاع غايات مسبقة البرمجة والأدلجة



وفي فصل آخر يسعى مندل لفحص الوضع الراهن في مضمار تعليم اللغة العربية، والمواقف السائدة تجاه هذه اللغة. ونظرًا لأن الكثير من الوثائق الأرشيفية التي تخص هذا الشأن ما زالت سرية، يرتكز الفصل بصورة أساسية على منشورات علنية ومقابلات شخصية وأبحاث ومقالات. ولذلك فإنه يختلف في مبناه عن الفصول السابقة ولكن مع ذلك فهو أيضًا يبيّن أن الكثير من المقاربات التي وسمت الفترات السابقة ما انفكت قائمة، ومطبقة في الوقت الحالي أيضًا. ويتعلق الأمر بصورة رئيسة بالمكانة المتدنية للغة العربية، وضعف معرفة اللغة لدى اليهود في إسرائيل، وتحكم الدافعية الاستخباراتية في تعليمها، والمكانة المتدنية للمواطنين العرب في مضمار تعليم اللغة، في مقابل تفوق اليهود الإسرائيليين الذين لا يلمون بهذه اللغة.

ولا بُدّ من التنويه بأن الجزء الذي يتناول الموضوع المبحوث خلال الأعوام الممتدة بين 1935-1985 يستند إلى وثائق من الأرشيف تم كشف معظمها لأول مرة في الكتاب، إما لأنه لم يسبقه أحد في التطرّق إليها، أو لكونها كانت مُصنفة بأنها سريّة وكشف النقاب عنها في الآونة الأخيرة. وهي وثائق من أرشيف المؤسسة الأمنية، والأرشيف الصهيوني، وأرشيف الدولة. بكلمات أخرى يمكن القول إن الكتاب ينفض الغبار عن تاريخ كان ضمن المسكوت عنه أو الخاضع إلى الإنكار.

أخيرًا يعرب مندل عن اعتقاده بأن الطريقة التي تبلور فيها حقل تعليم اللغة العربية على امتداد السنوات في إسرائيل تقف حائلًا دون تحوّل اللغة العربية إلى لغة حيّة وديناميكية، وهذه الطريقة كانت مضبوطة على إيقاع غايات مسبقة البرمجة والأدلجة. وفي الوقت ذاته يؤكد أنه طالما لم يجر فحص السيرورات التي تبلورت فيها عملية وكفاءات تعليم اللغة العربية بصورة انتقادية، فإن كتب التعليم الجديدة أو مجرّد عملية توسيع مواضيع ومواد التعليم لن تكون مجدية. وبدون إحداث انقلاب في المفاهيم لن يحدث أي تغيير حقيقي في مجالات تعليم اللغة العربية ومكانتها والنظرة إليها وقدرات استخدامها.

*****

في هذا الكتاب يمضي مندل في مسار يميّز عددًا من النُخب الإسرائيلية الثقافية الانتقادية، قوامه النبش عن سيرورات جرى الالتجاء إليها في الماضي وتأتت عنها ما يعتبر أنها تشوهات الحاضر، سعيًا لمحاولة ضخّ مدلولاتها إلى وعي إسرائيلي عام مسوّر بتلك التشوهات. وفي العادة يكشف هذا المسار، كما في ممارسة غيره من تلك النخب، عن مزيد من الزوايا السوداء في ذلك الماضي، والتي خضعت لمنظومة المسكوت عنه، بحسب ما أشرنا سالفًا. وبقدر ما إن هذه الزوايا السوداء تهمّه من أجل تشخيص الحاضر ولكي يشير إلى سكّة التغيير الحقيقي المنشود، كما يؤكد، ينبغي أيضًا أن تهمنا ولو من أجل الغايتين نفسهما فقط.
وأرى أن مثل هذا الكتاب يصُبّ في هكذا اتجاه، ومع أنه متركّز في جزء واحد من مخطط أعم وأشمل، فإنه بمنزلة الجزء الذي يدل على الكل.