Print
حسام أبو حامد

النكبة والشتات الفلسطيني في الكويت.. الغزو العراقي والفرص الضائعة

12 مارس 2020
قراءات
الصراع جزء من حياتنا اليومية، فلا ينظر شخصان إلى جميع الأمور بالطريقة نفسها، فتنوّع تجارب الحياة تنتج وجهات نظر مختلفة حول مواضيع بعينها. والصراع ليس في حد ذاته شيء سيء؛ فقد يساعدنا على فهم العالم بشكل أفضل من خلال وجهات نظر أخرى، إلا أنه قد يصبح حالة مستعصية ومحفوفا بعوامل تبدو غير قابلة للحل، حين تدوم تؤدي إلى نتائج سلبية، مع عدم قدرة أحد الأطراف على حسم الموقف لصالحها، أو عدم توافر الاستعداد لديه لتقديم تنازلات من أجل التوصل إلى تسوية سلمية.

وبالرغم من العلاقات التفاعلية التي ترسخت بين الفلسطينيين والكويتيين في سياق التطورات التي شهدتها الكويت منذ الخمسينيات، كما يذهب شفيق الغبرا في كتابه "النكبة ونشوء الشتات الفلسطيني في الكويت" (بيروت/ الدوحة: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات 2018)، بدأ يظهر حاجز مبهم بين الفلسطينيين من جهة، والنظام السياسي في الكويت وبعض قطاعات المجتمع الكويتي من جهة أخرى. الاعتماد المتبادل بين الطرفين كان ساترا منع ظهور هذه المشاعر السلبية علنا بينهما، لكنها تفجرت مع الغزو العراقي للكويت العام 1990.

ومستندا إلى جون بيرتون، يرى الغبرا أن الصراعات والخلافات في الكثير من الأحيان بين الفرقاء ليست نتاج أحوال صعبة تتحكم بعلاقة بين أصدقاء أو حلفاء، بل الأهم من ذلك أنها نتاج إدارة غير سليمة بين أطراف ومكوّنات عدّة ينتج عنها تحويل الأصدقاء إلى أعداء. هذا ما حدث في العلاقات الفلسطينية الكويتية، وهي عموما مشكلة عربية ينوه الغبرا، حيث كمن الخطأ في غياب أي إطار رسمي أو شبه رسمي تجري خلاله مناقشة المشكلات، وأسباب الخلاف، وإيجاد حلول لها. بمعنى آخر، لم تكن هنالك مؤسسة كويتية تملك الشرعية الكافية لتفرز القضايا المتعلقة بالعلاقات بين الأطراف المعنية.


نقاط تحول
كانت الكويت قاعدة آمنة للشتات الفلسطيني، حمت وطنيتهم واستقلاليتهم، وكانت في المستويين الرسمي والشعبي من أكثر الدول دعما لقضيتهم، ورغم القيود الحكومية الكويتية والاغتراب الفلسطيني العميق الناتج عنها، استفاد الفلسطينيون من الرفاهية الاقتصادية التي تمتعت بها الكويت، كما ساهموا فيها في الوقت نفسه، ولولا الغزو العراقي للكويت لاستمرت هذه الترتيبات والإجراءات لعقود مقبلة.
يشير الغبرا إلى جملة من الأسباب الاقتصادية والمهنية والأخلاقية والسياسية، حالت بين الكويت وبين اللجوء إلى صدام مباشر مع الفلسطينيين، كما كانت حال عديد من الدول العربية الأخرى، فكانت الكويت أرضا للشتات وليست معبرا حدوديا إلى فلسطين المحتلة، كما هي حال الأردن ولبنان، أو حتى مصر وسورية. كما كان للقضية الفلسطينية ثقل سياسي واجتماعي في الكويت، وحتى العام 1990كانت تسود في الكويت أجواء الثقة بالفلسطينيين وبإخلاصهم في عملهم، والتقدير لإسهاماتهم في نهضة الكويت منذ الثلاثينيات، ولولا الغزو العراقي لربما وفرت الكويت لقطاع كبير من كفاءات الفلسطينيين المقيمين فيها شكلا من أشكال الإقامة الدائمة، بالإضافة إلى المواطنة لقطاع من المجتمع، بل لكان في الإمكان، في مرحلة لاحقة، تجاوز أزمة الثقة التي تبلورت في الثمانينيات.
هناك نقاط تحوّل عديدة عملت على تعزيز الشعور بالحاجز بين الفلسطينيين والكويتيين وتوضيحه قبل الغزو العراقي، أبرزها:
أولا: عقب حرب العام 1973 غير الحاسمة تزايدت المخاوف الكويتية من احتمالات فرض حل سياسي إقليمي يؤدي إلى فرض جالية كبيرة من الفلسطينيين تساوي أكثر من نصف المواطنين، ليصبح هذا الأمر همّا داخليا كويتيا يتزايد مع ضغوط مثّلها نمو الطبقة الوسطى الكويتية، التي أفرزت مئات وآلاف الخريجين الكويتيين الذين أصبحوا يرون في الوجود المدني الفلسطيني الكثيف عنصر منافسة لهم.
ثانيا: بدأ الفلسطينيون يشكّلون همّا أمنيا لا سيما بعد التورط الفلسطيني في الحرب الأهلية في لبنان في عام 1975، وقبلها حوادث أيلول/سبتمبر 1970في الأردن، وبعد صلات وثيقة ربطت منظمة التحرير الفلسطينية بالمعارضة الكويتية، واليسار اللبناني، الأمر الذي فاقم الشعور بالقلق فيما يتعلق بالناحية الأمنية في الكويت، وأصبحت احتمالات أن يخلّ الفلسطينيون بميزان الجوالي في الكويت، وسط تحولات جذرية وتيارات سياسية سادت المنطقة آنذاك، من القضايا التي أخذت تقلق المسؤولين الكويتيين.

ثالثا: تعرّضت الكويت لضغوط المجتمع الكويتي وفئاته المعارضة في شأن التغير والإصلاح، وتم حلّ مجلس الأمة للمرة الثانية عام 1986، كما شهدت الكويت في أواسط الثمانينيات موجة من الإرهاب على يد جماعات موالية لإيران. هذا كله انعكس على العلاقة بالفلسطينيين؛ الجالية الأكبر في الكويت، من حيث حدة الإجراءات الأمنية الداخلية والتدقيق في هويات المقيمين. وبدأت السلطات الكويتية منذ أواخر السبعينيات وخلال الثمانينيات بفرض قيود على الإقامة، وتأشيرات الدخول، وتصاريح العمل، والتعليم، وحصول غير الكويتيين على رخص السيارات، وما إلى ذلك، ما خلق توترا وضيقا بين قطاعات كبيرة من الفلسطينيين خصوصا في أوساط الأجيال الجديدة من الفلسطينيين الذين ولدوا وترعرعوا في الكويت.
رابعا: حالة الاغتراب الفلسطينية التي ساد الشعور بها بحلول عام 1990، وعلى عكس طبقة المهنيين والطبقة العليا من المجتمع الفلسطيني، التي تمكنت من إدارة شؤونها وترتيب احتياجاتها عبر الاستثناءات الإدارية التي تقدمها الدولة مستفيدة من علاقاتها بالنخبة الكويتية ومن ثرائها، فإن الطبقة الوسطى والدنيا من الفلسطينيين، والتي لا تملك علاقات قوية مع السلطات العليا، كانت دائمة الشعور بالاغتراب والخوف من المستقبل نتيجة لتلك القيود التي فرضت خلال عقد الثمانينيات.

 الموقف الفلسطيني من الغزو
كان المجتمع الفلسطيني في الكويت معتمدا على النظام الكويتي لتأمين عيشه وإقامته، بينما تميز المجتمع الكويتي بارتباط مشاعره بمصير القضية الفلسطينية. ويذهب الغبرا إلى أن خليطا من المواقف والمشاعر المتناقضة مثلت ردة الفعل الأولى على الغزو بين الفلسطينيين في الكويت، واتخذت المجموعات الفلسطينية في الكويت موقفها من الغزو العراقي بناء على خبرتها التاريخية.

الذين وقفوا على الحياد بدوا على يقين أن العراق سيخرج من الكويت خلال أيام، وهم من الفئة التي عاشت في ظل النظام الكويتي منذ ما قبل آب/أغسطس 1990، ولم تكن أساسا تشارك في نشاط سياسي فلسطيني أو غيره قبل الغزو، وكان جلّ اهتمامها هو أن تستمر عجلة الحياة بشكل طبيعي قدر الإمكان، ولكنها تراجعت عن موقف الحياد بعد أن رأت طبيعة الممارسات العراقية في الكويت ونالهم نصيب منها.
هناك من عارض الغزو، بوصفه خطوة رعناء، وكان هؤلاء بغالبيتهم من الوافدين الأوائل، الذين ربما مثّلوا، بحسب الغبرا، 30% على الأقل في بداية الغزو، لترتفع النسبة مع مرور الوقت بسبب وضوح نيات الرئيس العراقي، وعدم اتّزان قراراته ورعونة تصرفاته، وعدم انسحابه بعد أيام أو أسابيع، عانى خلالها الفلسطينيون من تصرفات الأجهزة الأمنية والجيش العراقي غير المسؤولة في الكويت، واستند هؤلاء إلى العلاقة الأخلاقية والاقتصادية والمهنية والاجتماعية التي بنتها الكويت عبر عقود من الزمن مع الفلسطينيين والذين خبروا المصاعب ذاتها من قبل في لبنان والأردن، وغيرهما من الدول التي استضافتهم، وبالتالي لم يكونوا راغبين في تكرار تلك التجارب المريرة في الكويت أيضا. بعض المعترضين شارك في العمل الشعبي الكويتي المقاوم، أو ترك الكويت في أثناء الاحتلال ومغادرتها نهائيا. ولعل أول تعبير علني لتضامن الفلسطينيين مع الكويتيين جاء على هيئة تظاهرة علنية وحاشدة، لها طابع شبه عفوي هتفت لأمير الكويت وشعبها في منطقة الحولي ذات الغالبية الفلسطينية، خرجت في الرابع من آب/أغسطس 1990.
أما من تعاطف مع العراق، فيلاحظ الغبرا أنهم فئة شكّلوا النسبة الأكبر من قطاعات الفلسطينيين الأقل حظا اقتصاديا، تأثروا بتعقيدات المشهد، لا سيما بعد خلط صدام حسين للأوراق وقلبه الطاولة حين أعلن أنه مستعد للانسحاب من الكويت شريطة أن تنسحب إسرائيل من الضفة الغربية وقطاع غزة. استحضر هذا الإعلان مسألة القيم القومية والوطنية لدى فئة، أخذت في الازدياد فلسطينيا، رأت في الغزو العراقي للكويت عملية موقتة، بل اعتبروا أن هذا الحدث قد يأتي بوضع مفيد للعرب ولقضية الفلسطينيين في الأراضي العربية المحتلة.
حسمت الجالية الفلسطينية في الكويت موقفها بصورة أوسع باتجاه رفض معظمها للاحتلال العراقي، وذلك عندما تبيّن لهم أنه احتلال باق ويمارس نهبا وتدميرا لا يسمح في المدى القريب بحل سياسي، وانسحاب سلمي.



بين فكي كماشة
اسهمت التدخلات الخارجية وضغطها وحضورها الدائم وسط الجالية الفلسطينية في توتير العلاقات الفلسطينية – الكويتية، وغيّرت الموازين بين المتعاطفين الفلسطينيين مع العراق، وبين المحتجين منهم على الغزو العراقي، فتر هؤلاء الأخيرون ونزلوا تحت الأرض تجنبا لدفع ثمن احتجاجهم، وعلت أصوات المؤيدين للعراق. ومع أن أعداد المتعاطفين الفلسطينيين مع العراق تناقصت مع مرور الوقت، اعتبرت الجالية الفلسطينية، ولسوء حظها، منذ البداية في الأوساط العربية، كما في الإعلام الخليجي والمصري، مؤيدة للعراق بغض النظر عن موقفها الحقيقي.
ظهرت تصريحات متناقضة لقادة فلسطينيين، وكانت زيارة ياسر عرفات للعراق بعد يومين فحسب من الغزو، وتصويت المنظمة ضد قرارات القمة العربية التي عقدت في 10آب/أغسطس، والتي تشجب الغزو، عوامل أسهمت في تسميم العلاقات الفلسطينية- الكويتية.
لعب العراقيون على الانقسام الفلسطيني واعتمادهم على الأمن المعاشي وعلى نظام الإقامة السابق في الكويت، فاستخدموا النظام نفسه، مستغلين بذلك حاجة الفلسطينيين للإقامة والعمل والتعليم والتأمين الاجتماعي لدفعهم للتعاون معهم، وهددت الرافضين منهم بالطرد وفقدان حقوق الإقامة والتعويضات الناتجة عن عملهم على مدى العقود. هكذا، وقع الفلسطينيون بين فكي كماشة؛ فهم إن لم يتعاونوا مع العراق فقدوا أعمالهم وإقاماتهم وتعويضاتهم، وغيرها من الأمور التي عملوا من أجلها على مدى عقود، وإن تعاونوا واستأنفوا أعمالهم يصبحون في نظر الكويتيين خونة للكويت.

الفرص الضائعة
بالرغم من العلاقة السلمية والتعاون بين الشعبين على امتداد زهاء 55 عاما، تبلورت حالة من حالات نزع الصفة الإنسانية لدى كل طرف تجاه الآخر؛ وهي نزعة معروفة في الصراعات. ويعتقد الغبرا أنه كان من الممكن التخفيف من حدة التوتر، على الرغم من الأوضاع العدائية السائدة، لكن ما زاد الطين بَلّة هو ما جرى من تصنيف الشعوب طبقا لمواقف حكوماتهم (الفلسطينيون والمصريون والسوريون وغيرهم)، فاعتبر الفلسطينيون في صف العراق، بصرف النظر عن الانقسامات الفعلية في صفوفهم، وعن وجود مؤيدين حقيقيين للموقف الكويتي مثّلوا قطاعا كبيرا وأساسيا في الوسط الفلسطيني في الكويت.

أيضا أسهم الإعلام في العديد من الدول العربية، بشكل مقصود أو عفوي، في نشر معلومات غير صحيحة عن قيام الفلسطينيين بعمليات سلب ونهب وتعاونهم الكامل مع العراق. وصوّر إعلام بعض الدول العربية الاحتلال العراقي للكويت وكأنه احتلال فلسطيني، وفي الوقت نفسه، وقع الفلسطينيون ضحية السياسة الرسمية الفلسطينية، التي ونتيجة سياسة غير مدروسة، غلبت عليها الانفعالات والحسابات غير الصائبة، أوحت للفلسطينيين بإمكان إيجاد حل عربي للأزمةُ. إضافة إلى ذلك، وقع الفلسطينيون في الكويت في حيرة من أمرهم، فهم في هذه الأزمة كانوا بلا قيادة حقيقية (فمعظم وجهاء الجالية المعروفين كانوا خارج الكويت عندما وقع العدوان) وبلا معلومات؛ وقعوا وسط رمال متحركة ودول ومنظمات وأحزاب أرادت جميعها استخدام ورقتهم بما يعود إليها بالكسب السريع. وهكذا تقاذفت المخاوف الفلسطينيين في الكويت من كل صوب. ويذهب الغبرا إلى أن هذا المثال على إخفاق السياسة العربية ومدى انحطاطها، هو دليل على قدرة الأزمات المفاجئة على تغيير العلاقات الطبيعية وتحويلها إلى صراعات عميقة بين الشعوب.



لماذا لم يستطع الفلسطينيون الحفاظ على موقف حيادي من الغزو العراقي للكويت منذ البداية كما فعل الأرمن مثلا، إبان الحرب الأهلية في لبنان؟
يجزم الغبرا باستحالة حياد الفلسطينيين في الحالة الكويتية، في ظل العوامل الإقليمية والخارجية والعراقية التي سادت حينذاك، فإن العوامل الخارجية، كموقف منظمة التحرير الفلسطينية، والأردن، والسياسة العراقية التي استهدفت الفلسطينيين في الكويت، كلها صبت في إعطاء الجالية الفلسطينية في الكويت بعدا لا يعبّر عن حقيقة موقفها. وبينما نجد أن الأرمن في لبنان كانوا مواطنين لبنانيين ولم تقلقهم يوما قضايا الإقامة والضمان الوظيفي والحقوق والمستحقات والتعليم والصحة، ولم تقضّ مضاجعهم المخاوف من احتمالات ترحيلهم، نجد في المقابل أن تلك القضايا كانت تؤرق الفلسطينيين وسط الأزمة، وكانت مصدر ضعف موقفهم.
وفيما يتعلق بعملية نزع كل طرف عناصر الأنسنة عن الآخر، يؤكد الغبرا أن كلا منهما لم تتوافر لديه المعلومات عن الوجه الإنساني الكلي للطرف الآخر؛ فبدا أن الطرفين انقطعا عن التواصل مع مناطق الطرف الآخر إبان الاحتلال، فلم يعلم الكثير عن معاناته وحقيقة مواقفه، لترتفع نسبة الخوف والتشكك لدى كل طرف من الآخر. وخلال فترة الاحتلال كانت شقة الخلاف والتباعد تتسع بين الشعبين حيث كان كلاهما يفسران الحدث الواحد من منظورين مختلفين متناقضين، إذ لم يقترب أي من المنظورين من تفهم أحوال الآخر واحتياجاته وحقائقه. انعدام الثقة بين الطرفين، وتداخل القوى والعوامل الخارجية مع العوامل والديناميات الداخلية، أبقيا الجالية الفلسطينية عموما في معظم تشكيلاتها وأفرادها خارج المعادلة، متأثرة سلبا بالغزو الذي قام به صدام حسين وكارهة له في الوقت نفسه. لكن الصوت الأعلى كان في خارج الكويت، وبين فئات مختلفة من الفلسطينيين، ما أدى إلى تشويه الصورة.

أصبح الإطار النفسي الكويتي بعد التحرير مهيأ للتعامل مع الفلسطينيين باعتبارهم متعاونين، وهذا عنى في التطبيق العملي، صعوبة أن يكون هناك فلسطيني غير متعاون، بغض النظر عن حقيقة عواطفه أو مواقفه في أثناء الغزو. وبعد أن كان الكويتيون ضحايا الغزو العراقي وممارساته القاسية، اقتصر هذا الفعل بعد التحرير على الكويتيين تجاه الفلسطينيين بشكل عام، بينما تحول شعور الفلسطينيين إلى الإحساس بالمعاناة، وبأنهم أصبحوا هم الضحية.
إن انتهاء سريان العقد الاجتماعي- السياسي بين الفلسطينيين والكويتيين (حلفاء وأصدقاء على مدى نصف قرن) كان نهاية حزينة أضرّت بمصلحة الطرفين على صعد اقتصادية وثقافية ومهنية وإنسانية. فالكويتيون لم يدركوا في السابق حجم الضغوط ومشاعر الاغتراب التي عاناها الفلسطينيون في الكويت قبل الثاني من آب/أغسطس 1990، في مجال الحقوق والعمل والمعاملة والإقامة والعلاج ومشكلات يومية لجيل ثالث ولد في الكويت. والفلسطينيون من جانبهم لم يتفهموا حجم معاناة الكويتيين في أثناء الاحتلال. فقد سيطر على مشاعر الكويتيين تجاه الفلسطينيين الشعور بالألم والطعن بالظهر، تماما كما سيطر على مشاعر الفلسطينيين الشعور بأنهم إنما كانوا ضحايا لكل ما حصل.


ووفق الغبرا، كان من الصعب جدا على أغلبية الكويتيين أن يعوا جيدا المشاعر المتناقضة التي عصفت بالفلسطينيين في أثناء الاحتلال العراقي للكويت، وأن كلا الشعبين تجاهلا الدور الإيجابي الذي أداه الناشطون في مجال حقوق الإنسان، ودور الرافضين وغيرهم من الأفراد والجماعات التي التقت مصالحها في إحقاق الحق والعدالة في الكويت. فليس صحيحا أن الفلسطينيين في الكويت ناصروا غزو صدام (وإن كان منهم من فعل ذلك)، كما أنه ليس صحيحا أن الكويتيين كمجموعة سكانية آذوا الفلسطينيين، وإن كان منهم من فعل ذلك بعد تحرير الكويت؛ فقد عانى كثيرون من كلا الطرفين جراء وقفتهم لتأمين حقوق الإنسان في الوقت الذي كان فيه الغضب في كلا الطرفين هو سيد الموقف.

إن الشعبين، الفلسطيني والكويتي، لم يفهما بعضهما حق الفهم، وهو بالتحديد ما يجعل هذه الحالة مثالا عربيا مؤلما لشعبين، كان كل منهما بحاجة للآخر، ولكنهما أخفقا مع ذلك في حل معضلة التعايش والصداقة في أثناء الأزمات والصراعات، التي أثبتت أنها أكبر بكثير من قدرتهما على التعامل معها.
يؤكد الغبرا أنه لولا وجود فلسطينيين مناهضين للاحتلال، ورافضين للتعاون، لارتفع عدد المتعاملين منهم مع سلطات الاحتلال، ولبلغت حدة الأزمة بين الكويتيين والفلسطينيين مستويات أكبر في أثناء الاحتلال. وبالمثل، لولا وجود كويتيين ناشطين في مجال حقوق الإنسان، ولولا ضبط النفس على مستويات قيادية حكومية في الكويت، لارتفع عدد الفلسطينيين ممن تعرضوا للأذى بعد التحرير. ويرى في البعد الإنساني الذي يوفّره أفراد مثل هؤلاء، في أوقات الحروب والأزمات، أساسا لبناء الصلح الأهلي بين المجتمعات المتصارعة.

تفكيك الشتات الفلسطيني
مع تحرير الكويت تراجع عدد الفلسطينيين من نحو 400,000 إلى نحو 150,000 شخص. ومع النصف الأول من عام 1992 تحوّل عدد الفلسطينيين من 150 ألفا إلى نحو 30 ألفا. واستغرق الكويتيون ردحا من الزمن للتخلص من آثار الغزو النفسية وجروحه. وخلال الأشهر الأولى من عام 1992 كانت المشاعر قد هدأت نسبيا وبدأ كثير من المواطنين الكويتيين يتساءلون عن حقيقة مجريات الأمور خلال الغزو، وخاصة فيما يتعلق بدور الفلسطينيين. وهنا بدأ الناس يدركون أنه كان هناك فلسطينيون أيّدوا الشعب الكويتي حقا، كما كان هناك فلسطينيون جاهروا بمواقف معادية للكويت، وهنا أيضا بدأ كثير من أبناء الكويت يفكّرون جدّيا بحوادث الأزمة ووضعها في منظورها الأكثر تعقيدا. فإن كان العدو قد بدا، خاصة في وسائل الإعلام، على أنه فلسطيني، ففي الإمكان القول إن الصديق في الكويت كان فلسطينيا أيضا.
ينبّه الغبرا لحجم التحريض الكبير على الفلسطينيين في الصحافة المصرية الموجهة رسميا، إلى حد الإيهام بأن ما وقع في الكويت كان احتلالا فلسطينيا ولم يكن عراقيا، ويتساءل حول ما إذا كان هناك موقف سياسي بين أكثر من طرف دولي وعربي، إسرائيلي وأميركي، بالإضافة إلى النظام المصري بقيادة مبارك، يرفض مبدأ وجود جالية فلسطينية مؤثّرة في الكويت ومنطقة الخليج، تمثل القوة الداعمة الأهم للانتفاضة الفلسطينية، والقاعدة الإدارية والتنظيمية والمالية الأهم للحركة الوطنية الفلسطينية؟

يذهب الغبرا إلى أن الموقف الأميركي من قضايا الإرهاب والتمويل، واعتبار المنظمات الفلسطينية قواعد للإرهاب، ساهم على الأغلب، بصورة أو بأخرى، في الدفع باتجاه ضرب قواعد هذه الجالية المؤثرة، ويخلص إلى أن الحس المنطقي يقول إن ضرب الوجود الاقتصادي والمالي والديموغرافي للفلسطينيين في الخليج، وخاصة في الكويت، هو المدخل لإضعافهم وفرض شروط تسوية لا تتضمن نيل الحقوق الأساسية. فما أن انتهت حرب العام 1991 حتى تبنّت الولايات المتحدة عملية سلام واسعة النطاق، الهدف منها تعميم السلام الذي بدأ مع كامب ديفيد. وكان ياسر عرفات حينها في أضعف حالاته، في ظل مقاطعة عدة أطراف عربية مؤثّرة له، وفي ظل "المجزرة الديموغرافية" التي ألمّت بالفلسطينيين في منطقة الخليج. وهذه الأوضاع أدت بطبيعة الحال إلى مؤتمر مدريد في عام 1991 ثم إلى اتفاق أوسلو عام 1993.