Print
عماد الدين موسى

"سنةَ ألفٍ وَ993" لساراماغو.. حساسيّة شِعريّة مختلفة للكلمات والأشياء

7 أبريل 2020
قراءات

لعلّ أبرز سمات قصيدة جوزيه ساراماغو (1922 - 2010) هي تلك اللغة الهادئة والسلسة في تناولها الحميم لجوانب حياتيّة عديدة، جنباً إلى جنب مع تلك اللمسة السرديّة التي تطغى على أجوائها، بالإضافة إلى عنصر المفاجأة، أو ما يسمّى ببؤرة التوتر في النهايات، والذي، بدورهِ، يُضفي عليها مزيداً من الإدهاش.
ساراماغو، الروائي البرتغالي الشهير، و"صاحب أكثر المؤلفات قراءة وإثارة للإعجاب بين القراء في العالم"، يُعدُّ من الأسماء الروائيّة الهامة على خارطة الأدب العالمي، حيثُ نال جائزة نوبل للأدب سنة 1998، وتُرجم له عدد من الروايات إلى العربية، من مثل ("العمى"، و"سنة موت ريكاردو ريس"، و"قابيل"، و"الإنجيل يرويه المسيح"، و"الكهف"، و"كتاب الرسم والخط"، و"مسيرة الفيل"، و"ثورة الأرض"، و"انقطاعات الموت"، و"الطوف الحجري"، و"المنور"، و"قصة حصار لشبونة")، فيما كتابه الشِعري "سنة ألف و993"، الصادر حديثاً عن دار رواشن 2019، بترجمة الشاعر والمترجم السوري أمارجي، هو الأوّل في مجاله، يترجم إلى العربية.
"تحتَ الظلال الحادّةِ الحوافِّ، بسبب شمسٍ تبدو ثابتةً بلا حراكٍ، يجلسُ النّاسُ في مشهدٍ من مشاهد دالي السُّرياليّة./ حين تتحرّك الشمسُ، مثلما يحدثُ أحياناً خارج اللّوحات، تصبحُ الحدّةُ أقلّ، ولا يعرف الضّوءُ أين يحطُّ ويرتاح"، ثمّة لغة تشكيليّة نجدها بين جنبات قصيدة ساراماغو، سواء من جهة التداخل والتمازج الحميم ما بين العوالم التشكيلية وأجواء شِعره، أو من حيثُ الشفافيّة والرقّة والمرونة اللغوية؛ قصيدة مرئيّة وغير مرئيّة في الآنِ معاً، تبدو وكأنها خارجة للتو من رحم الطبيعة.. لتعود إلى أحضانها.

السلطة المستبدة
"سنة ألف و993" هو الكتاب الشعري الثالث لجوزيه ساراماغو، بعد كتابيه الشِعريّين (قصائد محتملة) الصادر سنة 1996، و(الفرح احتمالاً) الصادر سنة 1972، وضمّ بين دفّتيه قصائد نثريّة تقترب من الشعر، ولكنها تنطوي على كثير من القواسم المشتركة مع رواياته التي ستأتي تباعاً في ما بعد؛ هذه القصائد، بحسب المترجم في معرض تقديمه للكتاب، تشي بعمق

الرؤية، وبحساسيّة شِعريّة مختلفة تجاه الكلمات والأشياء.
"لثلاثةِ أيّامٍ هبّتْ دونما انقطاعٍ ساحبةً سُحُبَ الحرائق ورائحة اللحم الميّتِ، لحمِ الغزاة./ لثلاثةِ أيّامٍ رُجّتِ الأشجارُ رَجّاً، ولكن لم تُقتلَع ولو واحدةٌ منها، لأنَّ هذه الرّياح كانت أشبه بيدٍ تكادُ تكون ثابتة"؛ سخرية وتحدٍّ، عالمٌ سوريالي مليء بالغرابة والدهشة والسحر، صور لبشر تدهسهم رحى المستبد الذي يقهر شعبه، بل يفترسه. صورٌ عن أنطونيو دو أوليفيرا سالازار (28 أبريل 1889 – 27 يوليو 1970) الديكتاتور الذي حكمَ البرتغال من عام 1932 وحتى 1968. سالازار الذي فرَّخ ما لا يُعد ولا يُحصى من "السالازاريين" الذين (فقعوا) دماغ جوزيه ساراماغو. فجميع الآلام والفجائع إن لم تقع فالطاغية كما يرى ساراماغو كفيل بأن يصنعها، ويصير الشعب يتحدث، أو يستجلب الأمل في الموت. فانتحار الشعب بكل مكوناته صار أمراً وارداً، ولا يحتاج إلى أخذ رأي أحد، الشعب موافق على الموت - أن يموت.
ظلم، موتٌ أرحم منه، عبث، لا معقول، واقع من أفعال ما فوق الواقع، فاللحم الآدمي؛ لحم الناس هو الغذاء الأفضل للسلطة المستبدة - أي سلطة، وإن كان يقصد ساراماغو بها سالازار وحكومته.

الألم قرين الوجود
"ساراماغو في "سنة ألف و993"، الذي كتبه في عام 1976، يدوّن ما رأت عيناه، وما سمعت أذناه، يكتب شعراً، لكنه النثر/ السردُ الصادم، الشعر الرئة التي يتنفس منها ساراماغو. فالشعر هو هنا عنده نثرٌ شعري، نثرٌ، شعرٌ يشرب من نبع الكرامة والحرية الإنسانية، وليس

من آبار الأنظمة القمعية. ساراماغو في كتابته يبدو فضولياً وهو يحكي ويصور وحشية البشر عندما تتسلَّط، وتستلم السلطة فتبدو أياديها الدامية وهي تُجهز على (الخير)، فالشر هو مَنْ يحكم ويحكم، ويقتل ظمأ الناس إلى الحياة، ينشر الجوع، ويدفعهم في سباق جنوني نحو ما يتمنونه وما لا يتمنونه، كان في صقيع الحياة، أو حريقها.
ساراماغو في هذا الكتاب يتحدث عن مأساوية البشرية، وكأن الألم قرين الوجود؛ أنت تتألَّم أنت موجود. إنه التوحش، التغول الذي يمحو ويبيد الأنسنة في أعماق من يستبدون بالسلطة، فمآدبهم الصاخبة والماجنة تكشف عن شذوذهم وتهتكهم وهم يسحقون بذرة الإنسان الحق، فيما يعيشون في حالة ديدانية، وقد تجمد الإنسان الحقيقي في ضمائرهم، فما يزالون في كابوس شيطاني.
عام 1993 مضى، فهل تتحقَّق نبوءة ساراماغو، فيعمَّ العدل وجه الأرض؟