Print
وارد بدر السالم

"الأدب والشر".. الشر مفهومًا أدبيًا وفلسفيًا عند بتاي

18 يونيو 2020
قراءات

في مقدمة قصيرة ربما يشوبها بعض الالتباس يقرر جورج بتاي أن الجهد المبذول في الدراسات التي ضمها كتابه- "الأدب والشر"- هو (من أجل استخلاص الأدب الجوهري..) باعتبار أن الأدب (هو العثور ثانية على الطفولة المضيعة) وحينما ينشغل مفكر شغلته الفلسفة وأربكته كثيرًا كبتاي بموضوعة الشر فهو ينطلق من تنظيم معرفي ونسق فلسفي قبل أن يكون أدبيًا خالصًا؛ فالشر - مجردًا - يُفهم على أنه نقيض الخير كما ورد في الكتب السماوية والأخلاق القديمة لكن قد يكون هذا تجريدًا سريعًا لمفهومية المفردة وربما يكون تسطيحًا لها إنْ بقيت معزولة من دون مرادفها، غير أن جورج بتاي يحاول أنْ يُخضِع ويناقش مفهوم الشر- فقط - عند كبار الأدباء من ذوي القامات المعرفية والإسهامات الفكرية والسردية كإميلي برونتي/ بودلير/ ميشله/ وليم بليك/ المركيز دو ساد/ بروست/ كافكا. وهكذا يأتي كتابه تنويعًا بين عمالقة الكتابة، ولنقل بأنه نقد تحليلي - جمالي على محطات سردية مهمة في تاريخ هؤلاء الكبار عبر أعمالهم الروائية والشعرية والمعرفية بشكل عام.


"الأدب والشر" ليس نقدًا أدبيًا قائمًا على نظريات القراءة أو على منهجيات نقدية لما بعد الحداثة، بقدر ما هو استئصال لفكرة الطفولة في حواضنها المتعددة وكيف يمكن لها فيما بعد أن تكوّن أكثر من مفهوم في ظروف مختلفة أعقبت الحربين العالميتين، وما تخلف عنهما من (شرور) و(مهيمنات سلبية) على الحياة العامة، وبالتالي انعكست على الحِراك الثقافي والأدبي، بظهور تيارات ومدارس أدبية وفنية وأيديولوجيات متعددة الأهداف، أفرزتها الحربان العالميتان كنتائج ومحصلات لا بد منها.
جورج بتاي نفسه قضى شطرًا طويلًا من حياته يعاني من عُقدٍ كثيرة في مفهومية الشر في الحياة وتجلياتها، بدءًا من الطفولة القاسية عندما عاش صراعًا اجتماعيًا ودينيًا وروحيًا ودخل أزماتٍ نفسية كثيرة قرّبته من الانتحار، لكنه أنقذ نفسه حينما انتبه الى أن القراءة الواعية تخلّصه من أسوأ الحالات النفسية التي تلازمه؛ فانغمر في القراءة الصارمة لبرجسون ونيتشة وكيركغارد وأفلاطون وهيغل وسواهم من أساطين الفلسفة وتوابعها المعرفية والفكرية والسردية من دون أن يخطط لشيء ـ سوى ولعه وهوسه في اكتشاف العالَم الآخر عبر الكتابات التي أغرقته فيما بعد بروح الحياة في صخب باريس المتشظية، وتمعّن في الفلسفة وعلم الاجتماع كثيرًا وتواصل بطريق متعددة حتى يصل الى مفاهيم الحياة  بفلسفتها المعقدة.

نريد من كل هذا أن نرسم لمحة سريعة وعابرة لبتاي وهو يتقصى الشر مفهومًا أدبيًا وفلسفيًا في أطروحاته التي تناولت عددًا من المفكرين والكتّاب، مع أن هذا الكتاب (تشكلت ولادته الأدبية في ضجة السوريالية التي أعقبت الحرب العالمية الأولى في وعي انفعالي مبكر) بقى مؤشرًا على نضج الكتابة لدى بتاي، حتى في محاولة إعادة ترتيبه مع (وضوح الوعي) لاحقًا في مسيرة التفاعل المتعدد مع الثقافات، وبالتالي فإن هذا التأليف القديم تناول موضوعة دقيقة وحساسة في توسيع نطاق المصطلح والقبض عليه في أعمال روائية كبيرة كما حصل مع إميلي برونتي وسرديتها (مرتفعات وذرنج) التي فكّك فيها مفهوم الشر مع (أنّ أحدًا لم يصل الى معرفة الشر) مثلما عرفته برونتي في هذه الرواية الخالدة كما يقول وهو يتوسع في الدخول إليها عبر بوابات الجنس/ التمرد/ الموت/  السادية/ الشر/ لـ (يظهر الشر في صيغته الأكثر اتقانًا) عندها، ولعل ذلك ينسحب علي دراسة بودلير شعريًا باعتبار أن شعره ينطوي على عنصر الشر، حينما يكون البحث في العلاقة بين الشعر والشر ناتجًا من نواتج الطفولة المرغمة على البقاء في القصيدة/ الطفولة التي لم يغادرها، وحتى "أزهار الشر" التي ذاع صيتها في الأوساط الفرنسية لم تكن إلا خضوعًا لجاذبية الشر؛ فمعنى أزهار الشر هنا هو معنى بودلير الشعري وربما الفردي الخالص، في حين يصنّف المؤلف وليم بليك ضمن جماعة الانفعاليين وهو الذي يعرف (كيف يختزل الإنساني الى الشعر والشعر الى الشر) مارًّا على تأسيساته الحياتية الأولى الفقيرة وربما الانطوائية والظروف الخارجية التي مر بها، وهو استقراء أولي لحاضنته كما فعل بتاي مع برونتي وبودلير وسيفعل مع آخرين: كافكا/ ساد/ وغيرهما، في أرجحية التقصي عن جذور اجتماعية/ نفسية يبتغي من خلالها رسم الصورة الأكثر دقة لمثل هؤلاء الكبار وكيف يستخلص مثل هذه النزعات الداخلية التي تظهر في بواطن كتاباتهم الإبداعية الخالدة، لا سيما وأن معظمهم (عاشوا) الحربين الأولى والثانية وبعضهم شاركوا في الثورات العسكرية والجماهيرية وبعضهم كانوا حبيسي السجون.
وعلى هذا التأسيس يظهر (الشر) في أعمالهم مفهومًا أيديولوجيا أو سياسيًا أو اجتماعيًا؛ فالمركيز دو ساد الموصوف بالإباحية والقذارة الجنسية والإلحاد الديني (120 يومًا في سدوم - جوستين - فلسفة المخدع) هو الأكثر جدلًا في تقديمه (الشر) مفهومًا أيديولوجيًا للجنون السادي الذي اصطلحهُ سيجموند فرويد حينما قرأ هذه (مدرسة الخلاعة) قبل وقت طويل فاشتق السادية من هذا الجبل الحافل بالخلاعة والقسوة والوحشية والشرّانية التي عكف عليها المركيز دو ساد وهو في سجن الباستيل.




في حين يضع جورج بتاي بروست في تناقضات الأيروسي لانبثاق فكرة الشر، يبقى كافكا أحد الجدليين في كتاباته حتى اليوم في (المحاكمة) و (القصر) بعد أن وصل الى (جريمة الكتابة) هاربًا من السلطة الأبوية ومتمردًا عليها، وبالتالي متمردًا على الأيديولوجيات كالشيوعية مثلًا. لهذا فإن "الأدب والشر" خلاصات معقولة لأيديولوجيات أدبية شاعت بعد الحربين العالميتين بظروف جديدة وأرضية أدبية تثير الكثير من الجدليات والقراءات.

(بغداد)