Print
حسام أبو حامد

"نقاش السلاح".. أسطرة الكفاح المسلح وأفول الظاهرة الفدائية

8 يونيو 2020
قراءات
في وقت يُلحّ فيه فلسطينيا سؤال: ما العمل في مواجهة صفقة القرن؟ ويحتدّ فيه النقاش حول سبل مقاومة تلك الصفقة، ومعها إجراءات الضم الإسرائيلية المقرّرة، في الأول من يوليو/تموز المقبل، لأجزاء واسعة من الضفة الغربية، وحول أفضل الأدوات النضالية المتاحة في هذه المرحلة لمواجهة سياسة "الأمر الواقع" الإسرائيلية – الأميركية، يأتي كتاب ماجد كيالي "نقاش السلاح.. قراءة في إشكاليات التجربة العسكرية الفلسطينية" (بيروت/عمان: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، حيفا: مكتبة "كل شيء") ليقدم مراجعة شاملة لتاريخ التجربة الوطنية الفلسطينية، لا سيما ما يتعلق منها بوزن التجربة العسكرية مقارنة بأشكال النضال الأخرى، وانعكاسات ذلك على القضية الفلسطينية والمشروع الوطني الفلسطيني، محاولا من خلال نقد تلك التجربة أن يفتح أفقا جديدا يؤسس لنقطة انطلاق تؤدي إلى استراتيجية نضالية قادرة على تدارك إخفاقات الماضي، وتوفير سبل تجييش الدعم العربي والإقليمي والدولي للقضية الفلسطينية، والتأثير في إسرائيل، دولة ومجتمعا، لانتزاع الحقوق الفلسطينية.
يتجرأ كيالي على النقد، ويفتح نقاشا حول مسيرة الكفاح المسلح الفلسطيني، رغم أنه حسب قوله «من أعقد المواضيع، وأصعبها، بما لهذه القضية من مكانة ودلالات في تاريخ الفلسطينيين، وبما تحتمله من معان وعواطف، وبما تختزنه من معاناة وتضحيات وبطولات» لا سيما «أن تلك المسيرة ظلّت بمثابة صندوق مغلق يحرّم فتحه، أو المجادلة بشأنه، أو اخضاعه للنقد والمساءلة» مع افتقاد تلك المسيرة لسجلات (أرشيف، وثائق، إحصاءات..) تفيد الباحث الراغب بالمراجعة واستنباط الدروس.
ولا يهدف كيالي من نقده للتجربة العسكرية، التي حكمت التجربة الوطنية الفلسطينية المعاصرة، إلى إنكار مشروعية المقاومة بكافة أشكالها، كما أقرتها التجربة التاريخية للبشرية والأعراف الدولية المعاصرة، بل للدعوة إلى التفكير بأشكال النضال الممكنة، والأكثر مناسبة، والأكثر ديمومة وجدوى، في مصارعة إسرائيل، بعيدا عن العواطف والشعارات والدوغمائية التي تضمنتها خطابات الفصائل المهيمنة طوال عقود ودرجت عليها. 


على خطى "فتح"
من خلال مراجعته للأدبيات التأسيسية لبعض فصائل الحركة الوطنية الفلسطينية، خصوصا "فتح" و"حماس"، يستنتج كيالي أن منظّري الكفاح المسلح الفلسطيني لم يحددوا مفهومهم عن الكفاح المسلح، فاشتغلوا به بطريقة عفوية دون استراتيجية ترسم الهدف والإمكانيات لبلوغ ذلك الهدف، مع تقدير ما يتطلبه ذلك من تضحيات. وأن "فتح" لم تزعم أن تحرير فلسطين يتم بالعمل العسكري وحده، بل كان الهدف من الكفاح المسلح إبراز البعد الوطني الفلسطيني، واستعادة القضية الفلسطينية من وصاية الأنظمة العربية، واستنهاض الشعب العربي من تداعيات النكبة، فحاولت، من منظور فكرة "التوريط الواعي" بالعمليات الفدائية استدراج ردة فعل إسرائيلية ضد الدول العربية، وإجبار الأخيرة على الرد، مما يحافظ على استمرار الصراع، وحيوية القضية الفلسطينية.
ويضيف أن الكفاح المسلح مثّل شكلا جديدا للمقاومة تميّزت به حركة "فتح"، وكان بمثابة عامل استقطاب لقطاعات واسعة من الفلسطينيين لصالح الحركة، وكانت أكثر الفصائل الفلسطينية التي امتلكت إمكانياته البشرية والتسليحية، لذلك فإن "فتح" «تتحمل المسؤولية عن التفكير به وممارسته، على هذا النحو المبسط، أي العفوي والتجريبي، الذي ظلّ يفتقر للحد اللازم من الواقعية والمسؤولية ولمتطلبات استثماره سياسيا».
الكفاح المسلح الذي لم يكن بالنسبة لـ "فتح" وسيلة تحرير أساسية بداية، أصبح كذلك في سوق المزايدة الفصائلية، وجرى تقديسه ورفعه فوق النقد، دون إخضاع الأفكار المتعلقة به للمراجعة والنقد، وبقيت "فتح" دون معاودة إنتاج أفكار أخرى تعبّر فيها عن فلسفتها للكفاح المسلح، وتشرح فيه استراتيجيتها العسكرية على طول مسارها الطويل. لذلك لم يكن مستغربا أنه بالرغم من تحولها إلى المفاوضة والتسوية وإقامة السلطة، بقي الكفاح المسلح ضمن برنامجها. لم يقتصر الأمر على أدبيات الحركة بل أيضا، انشغل مثقفوها بالتنظير للكفاح المسلح وفق طرح الحركة دون إخضاعه للفحص والنقد.
سياسة "التوريط الواعي" لم تورط الأنظمة بالصراع مع إسرائيل، كما كان يؤمل، بل ورطت الفصائل الفلسطينية وجهازها العسكري بصراع مع النظام الأردني 1970، وفي أتون حرب أهلية لبنانية ومواجهة مع الجيش السوري. وأما الخطأ الفادح الذي يراه كيالي فتمثل في الانتقال من معادلة المقاومة الشعبية (والمسلحة ضمنا) إلى معادلة الحرب النظامية، وهو ما سيتكرر في غزة مع سلطة "حماس".
الإخفاقات العسكرية، وانطلاق الانتفاضة الفلسطينية الأولى عام 1987، بوصفها شكلًا من المقاومة الشعبية السلمية، وانخراط المنظمة في العملية السياسية منذ بداية التسعينيات، فرض النقاش بشأن مراجعة أهمية الكفاح المسلح الذي تمت استعادته مجددا مع الانتفاضة الثانية عام 2000، وهيمنة "حماس" على غزة منذ عام 2007. فحركة "حماس" بدأت بانتهاج الكفاح المسلح بعد ربع قرن من انتهاج "فتح" له، ولكنها، كما يذهب كيالي، بدأته انطلاقا من الداخل لا العكس كما كانت الحال مع "فتح"، وتعرّضت "حماس" للمشكلات ذاتها التي تعرضت لها "فتح"، وانتهت منذ أن أصبحت سلطة إلى ما انتهت اليه الأخيرة، فانتقلت من الحديث عن السلاح كوسيلة أساسية لمصارعة إسرائيل، إلى الحديث عن النضال الشعبي وقبول الهدنة أو هدنة طويلة، مما يعني وقف المقاومة.




استثناءات نقدية
تنظيرات الفصائل للكفاح المسلح لم تلق، برأي كيالي، نقدا من معظم المثقفين الفلسطينيين، الذين إما سكتوا أو أداروا ظهرهم للتجربة بعد سيطرة الفصائل على المجال العام، وتحكّمها بمزاج الفلسطينيين الذين رأوا فيها خشبة الخلاص، بل وجد مثقفون في الفصائل فرصًا للعمل والظهور. أما ما توفر من نقد فلا يعدو أن يكون نقدا شخصيا أو سياسيا لم يطال التجربة ذاتها إلا فيما ندر.
يحيلنا كيالي إلى بعض المثقفين الذين وجدوا في نهج الكفاح المسلح وظيفة داخلية هوياتية سياسية أكثر منها وسيلة لمصارعة إسرائيل، فينقل عن يزيد صايغ في كتابه "الكفاح المسلح والبحث عن الدولة.. الحركة الوطنية الفلسطينية، 1948-1993" (بيروت، ط1 2002) تأكيده على أن الارتباك في صياغة مفاهيم الكفاح المسلح وبلورته في مرحلة ما بعد 1968، قد عكس بعض الغموض بخصوص الأهداف النهائية والمرحلية، كما عكس صعوبة بناء الأداة وتطوير الاستراتيجية القادرتين على مجابهة الواقع الجديد، والموازين التي حكمته، وصولا إلى تحقيق الهدف الأساسي، ممثلا بتحرير كامل التراب الفلسطيني. وفي مناسبة أخرى حدد صايغ غرضين حققهما الكفاح المسلح، أنجز أولهما باكرا، وهو إعادة الحياة الى الشخصية والهوية الوطنية الفلسطينية التي تجسدت مؤسساتيا باستيلاء الحركة الفدائية على م. ت. ف، لنكون أمام الغرض الثاني الذي أدّاه الكفاح المسلح، والأهم تاريخيا، وتمثل في تمكينه الفدائيين من تهميش الجيل المؤسس لمنظمة التحرير الفلسطينية، بمعنى أنه ساهم في خلق طبقة سياسية من أناس شكلوا مجتمعا سياسيا أصبحت لهم الكلمة في الموضوع الفلسطيني. ما قدمه صايغ، برأي كيالي، يلخص حال العفوية والتخبط في انتهاج الكفاح المسلح ويبين حدوده وتوظيفاته، ناهيك عن إخفاقه في تحقيق الأهداف المرجوة كما بيّنت التجربة.
يعود كيالي الي تجارب نقدية مبكرة، ترافقت مع صعود الكفاح المسلح في السبعينيات من القرن الماضي، وفي وقت كان فيه حماس المثقفين العرب للكفاح المسلح الفلسطيني، وحرب التحرير الشعبية، في أوجه، إذ ظهرت بعض الأصوات التي طالبت بفحص تلك الظاهرة، وربطت القضية الفلسطينية وقيام إسرائيل بواقع التأخر العربي، وأن مواجهة إسرائيل لا تقتصر على الجيوش أو على العمل المسلح فقط، وهذا ما خطّه إلياس مرقص في كتابيه "عفوية النظرية في العمل الفدائي" (1970) و"المقاومة الفلسطينية والموقف الراهن" (1971)، وياسين الحافظ في كتابيه "العقلانية في السياسة" (1975) و" الهزيمة والأيديولوجيا المهزومة" (1978).

مرقص بيّن قصور الشعارات المتعلقة بالصراع ضد إسرائيل، واضطراب المفاهيم المتناولة في تحليله، وانتقد العفوية وغياب الاستراتيجية، وفقدان الاتصال بين العمل الفدائي وحرب التحرير الشعبية، وتحويل المقاومة الى أيديولوجيا استغلها المنتفعون بالقضية الفلسطينية. أما الحافظ، فشرح الصعوبات التي تعترض تطور العمل الفدائي في ظل الأنظمة العربية السائدة، التي تشتغل على احتواء القضية أو توظيفها في خدمة سيادتها، فلا حرب تحرير يمكن أن تقوم بمعزل عن الظروف السياسية السائدة في البلدان العربية المحيطة بإسرائيل، فمهما استنزف الكفاح المسلح إسرائيل لن يكون هناك بديل عن الجيوش النظامية، فشرط نجاح كفاح الشعب المسلح يقوم على اتساع مستمر للنواة، وتحويلها خطوة فخطوة من حرب عصابات إلى حرب متحركة نظامية.
يمكن أن أضيف تجربة نقدية لم يأت الكتاب على ذكرها، صاحبها هو صادق جلال العظم، التي بدأها بكتابه "النقد الذاتي للهزيمة" (1968) طال النقد فيه حركة التحرر العربية التي قادها جمال عبد الناصر، والأسباب التي أدت إلى هزيمتها في عام 1967، واستكملها بنقده للتجربة الوطنية الفلسطينية في كتابه "دراسة في نقد فكر المقاومة" (1973)، والتي رأى فيها أن هزيمة المقاومة الفلسطينية كانت طبيعية ومتوقعة، باعتبارها امتدادا لحركة التحرر العربية من حيث تركيبتها وعقليتها ومصالحها وعقيدتها، مؤكدا على افتقاد المقاومة الفلسطينية بقيادة "فتح" للنظرة الاستراتيجية، منتقدا أساليبها التقليدية؛ سواء في الممارسة السياسية أو بالاستقطاب الجماهيري، وعدم قدرتها على إدراك أهمية التحولات الاجتماعية في صفوف الجماهير، ما أدى إلى فشلها في الارتقاء بالجماهير، وفي مساعدتها في التخلص من وعيها الشعبي العفوي الموروث من خلال إعادة صوغ وعيها من خلال مؤسسات الثورة. ولم يغفل العظم عن فضح التناقض بين ثورية المقاومة الفلسطينية المعلنة وتصرفاتها على الأرض، ناقدا عسكرة المقاومة وأساليبها.

في مسارات التجربة
يلاحظ كيالي أن الفلسطينيين ركّزوا على الكفاح المسلح شكلا رئيسيا لنضالهم على حساب الوسائل الأخرى المتناسبة وظروفهم، وإمكانياتهم، وقدرتهم على الاستمرار. ففي معظم محطات التجربة الوطنية، لا سيما فيما يخص التجربة العسكرية، لم تكن المعطيات الدولية والعربية تعمل لصالح الفلسطينيين، ليُستَدرجوا في كل مرة لبذل أقصى طاقة كفاحية لديهم، والذهاب إلى المربع الذي يتفوق به العدو، ليدفعوا ثمنا باهظا. تكرر ذلك، منذ ثورة 1936 التي وجّهت ضد البريطانيين والهجرة اليهودية في ظروف إقليمية لم تكن في صالح الفلسطينيين داخليا وخارجيا، مما أدى إلى نزف حاد في المجتمع الفلسطيني بشريا واقتصاديا وسياسيا. وحين قامت إسرائيل في عام 1948 وجد الفلسطينيون أنفسهم منهكين ومشتتين، دون قيادة أو سلاح، وكان بإمكان الفلسطينيين على الأقل منع اليهود من اغتصاب 77% من أرضهم والحيلولة دون تشريد هذا العدد الكبير من الفلسطينيين، وربما التمكن من إقامة كيان سياسي خاص بهم، فيما تبقى لهم من أراض في الضفة وغزة. تكرر ذلك، أيضا، في الانتفاضة الشعبية الثانية (2000 الى 2005)، التي اعتمدت خط المقاومة المسلحة عالي الوتيرة، مستخدمة كل قواعدها دفعة واحدة، فاستنزفت وهدرت طاقاتها، في مواجهة عسكرية مكلفة. وبدلا من التركيز على الوجود الاستيطاني والعسكري الإسرائيلي في الأراضي الفلسطينية المحتلة جرى استهداف المدنيين في المدن الإسرائيلية نفسها، مما أدى الى حشد مزيد من الإسرائيليين وراء شارون ورؤيته بشأن الطابع الوجودي للصراع مع الفلسطينيين، بدل توليد التناقضات بينهم. وتواطأ المحافظون الجدد وإدارة بوش الابن مع إسرائيل في محاولات عزل وتغيير القيادة الفلسطينية، تماما كما حصل مع الحاج أمين الحسيني في الثلاثينيات والأربعينيات من القرن الماضي.
حرب الصواريخ التي انتهجتها "حماس"، جعلتها بعيدة عن أي قراءة لتجربة الحركة الوطنية في جنوب لبنان، والاستفادة من نتائجها، إذ كان أحد محركات الاجتياح الإسرائيلي لجنوب لبنان القصف المدفعي للمستوطنات الإسرائيلية شمالي فلسطين. ومع أن وضع الحركة الوطنية كان هناك أفضل بكثير من وضعية "حماس" اليوم، لوجستيا وعدديا، وحتى من ناحية الدعم العربي والإقليمي، تحدثت "حماس" عن توازن الرعب والردع مما يوحي أنها ومن معها من فصائل فلسطينية تستطيع فرض ما تريد على إسرائيل، وكأنها جيش في مقابل الجيش الإسرائيلي. فمن خلال العمليات التفجيرية والحرب الصاروخية، بحسب كيالي، تكون المقاومة الفلسطينية قد خرجت عن قواعد حرب التحرير الشعبية طويلة الأمد أو حرب العصابات التي تستخدم استراتيجية الضعيف ضد القوي لتحيد قوة العدو العاتية، وتستنزفه، وترهقه، وتخلق التناقضات بين صفوفه، وترفع من كلفة احتلاله للأرض. خرجت "حماس" عن ذلك كما سبق أن خرجت عنه "فتح" في وقت مبكر إبان المرحلة اللبنانية، باعتمادها القواعد الثابتة أو بتحولها نحو التجييش.


الفصائل الفلسطينية تستهلك دورها
يعتقد كيالي أن الفصائل الفلسطينية لا تتعلم من تجاربها، ولا تتصرف وفقا لإمكانياتها، بل تتكل على روح التضحية والعناد، وما يسمى "سلاح الديمغرافيا" عند الفلسطينيين، أكثر من أي شيء آخر، في مواجهة دولة تعتمد التخطيط، وتمتلك مرونة عالية في اقتراح البدائل، وصوغ السيناريوهات التي تحبط كفاح الشعب الفلسطيني أو تفرّغه من مضامينه، وتلتفّ على إنجازاته الوطنية المتحققة. فمثلا استطاعت بانسحابها من غزة وضع الفلسطينيين في مواجهة بعضهم البعض بدلا من مواجهة إسرائيل، وأسهمت في تعزيز واقع الحركة الوطنية الفلسطينية من حركة تحرر وطنية إلى سلطة. مما وضع "فتح"، في الضفة، و"حماس" في غزة، في مواجهة مع المجتمع الذي تسيطران عليه.


أما بخصوص عمليات المقاومة ذات الطابع العفوي والفردي والشعبي، التي شهدتها الأراضي المحتلة في السنوات الأخيرة، واتسمت بالعنف أحيانا؛ دهس؛ طعن؛ إطلاق رصاص، فيحتسبها كيالي ضمن ردود الفعل الطبيعية للبشر، وتعبيرا فطريا عن الدفاع عن معنى الوجود ضد الاحتلال، فالبطش الإسرائيلي، والامتهان والتهميش، كل ذلك يخلق بنية لردود أفعال من هذا الطراز، ولكن ذلك لا يمنع من رؤية النصف الثاني من الحقيقة المتمثلة بافتقاد الفلسطينيين للاستراتيجية النضالية، وبالفجوة بينهم وبين حركتهم الوطنية التي أضحت بمثابة سلطة أخرى في الضفة وغزة. أما التهليل والتنظير لتلك العمليات الفردية من قبل الفصائل، فهو دليل عجزها، واستهلاكها لدورها، وافتقادها القدرة على توليد استراتيجيات كفاحية جديدة تتناسب وإمكانيات شعبها وقدراته، والظروف المحيطة به، دون امتلاكها الشجاعة لمصارحته بذلك.


الكفاح المسلح في ميزان الربح والخسارة
يلجأ كيالي للإحصائيات، ملخصا التجربة الوطنية الفلسطينية المسلحة باحتساب الكلفة والمردود. فإن بدا أمرا طبيعيا أن تقدم أي حركة وطنية، في مواجهة دولة استعمارية متفوقة عسكريا، ثمنا باهظا، يتعاظم في حالة الصراع الوجودي مع إسرائيل، فإن ذلك لا يعفينا من احتساب الموازنة النسبية بين الكلفة والمردود، وإلا أصبح الكفاح المسلح غاية في ذاته لا وسيلة ينبغي اختبارها من منظور الاستثمار السياسي، وبالتالي عاملا لاستنزاف الشعب وإرهاقه دون جدوى. وهنا يجب ألا ننسى أن إسرائيل هي التي تتقوى وتتطور من كل النواحي، وأن خسارتها للمليارات لا توازي خسارة الفلسطيني للملايين، وأن استنزاف المجتمع الفلسطيني أكبر بما لا يقاس من استنزاف المجتمع الإسرائيلي، كما أن اللجوء إلى لغة الأرقام يقينا، برأي كيالي، من البقاء أسرى العواطف والرغبات والخطابات الإنشائية التي تستغلها الفصائل، مستندة إلى موروث يقدّس التضحيات، وكيانات سياسية لا تعتمد المساءلة.
يتبين للكاتب من خلال الإحصاءات التي يوردها، حجم الفجوة الكبيرة بين خسائر الفلسطينيين البشرية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية، وبين خسائر إسرائيل في هذه المستويات، وأن الميزان يميل لصالح تلك الأخيرة. كما تبين الأرقام انحسار المقاومة المسلحة في السنوات الأخيرة بشكل تام تقريبا، إذا استثنينا العمليات الفردية وعمليات القصف الصاروخي المتقطع من داخل غزة. ذلك برأيه، يؤكد عدم قدرة الفصائل على مواصلة الكفاح المسلح بوصفه مبررا لوجودها، لأسباب ذاتية وموضوعية. وبينما تتحدث الفصائل عن الكفاح المسلح فهي لا تمارسه منذ عقد من الزمن.
ومن خلال الإحصاءات، المتفرقة والموزعة على مصادر متفرقة احتاجت إلى جهد كبير لتتبعها وتوثيقها، يستخلص كيالي ست نتائج على صعيد العامل البشري:

1-   أن الكفاح المسلح الفلسطيني المنطلق من الخارج أدى دوره في استنهاض الشعب الفلسطيني وتوحيده حتى مطلع السبعينيات.

2-   الكفاح المسلح الذي انطلق من الداخل كان أكثر فعالية وتأثيرا في إسرائيل.

3-   تأثير الكفاح المسلح، سواء المنطلق من الداخل أو الخارج، لم يصل إلى عتبة تأثير تجبر إسرائيل على تقديم تنازلات سياسية.

4-   يفيد درس الكفاح المسلح عموما، لا سيما بعد الانتفاضة الثانية، أن أي عمل لم تتوفر ضمانات لاستمراريته وديمومته وفقا للإمكانيات الذاتية والمعطيات الموضوعية لن يستطيع التأثير على إسرائيل.

5-   ان الخسائر البشرية الناجمة عن حوادث السير في إسرائيل كانت أكبر بكثير من خسائرها البشرية في حروبها في المنطقة، وفي خسائرها البشرية الناجمة عن الكفاح المسلح الفلسطيني.

6-   على صعيد الخسائر البشرية دفع الفلسطينيون ثمنا باهظا، إلا أن تقديس البطولات والتضحيات تعفي القيادات الفلسطينية من المساءلة عن حسابات الجدوى والكلفة والمردود.





أساطير الثورة وأسطرة الكفاح المسلح
الوعي السياسي السائد الذي رسخ فصائليا جرى فيه تقديم الكفاح المسلح باعتباره بديهية للفلسطينيين جميعا في أماكن تواجدهم كافة، في خلاف مع الواقع، ودون إخضاعه للنقاش والتفحّص، بغض النظر عن مستوى ممارسته وتوفر إمكانياته والقدرة على استثماره سياسيا. ويذهب كيالي إلى أن الكفاح المسلح بعد أن كان وسيلة للتحرير تمت أسطرته والتعاطي معه كمقدس غير قابل للنقاش، وبمعزل عن إشكالياته وحدوده وجدواه وتداعياته ومآلاته. وقد تمت هذه الأسطرة ضمن حملة أساطير كانت روجت لها الفصائل الفلسطينية التي تحكمت بإدراكات الفلسطينيين السياسية في نظرتهم لذاتهم ولمحيطهم ولدورهم منذ أكثر من نصف قرن، إلى درجة باتت معها تلك الأسطرة بمثابة عائق يحد من تطور تفكيرهم السياسي، ويثقل على قضيتهم، ويضر بصدقية كفاحهم من أجل استعادة حقوقهم الوطنية المشروعة والعادلة.
تلك الأساطير أصبحت بمثابة بديهيات أو يقينيات مقدسة أخرى في وقت كانت أحوج ما تكون فيه للنقاش. ويأتي في مقدمتها "مركزية القضية الفلسطينية" التي لم تكن مركزية الا بالنسبة للفلسطينيين. ورغم تقدير الكاتب لعواطف الجماهير العربية فإنها برأيه لم تتحول الى قوة مادية فاعلة، وبقيت القضية بالنسبة للأنظمة مجرد وسيلة للمزايدة والاستهلاك والابتزاز في حقل العلاقات العربية البينية، وغطاء يبرر مصادرتها لحقوق وحريات مواطنيها، أما أن تلك الأنظمة قد سمحت بالكفاح المسلح الفلسطيني في حقبة سابقة فكان بهدف توظيفات سياسية لا علاقة لها بالصراع ضد إسرائيل، بل رغبة منها بالتغطية على هزيمة عام 1967. هذه الأنظمة ذاتها نكّلت بالفلسطينيين أصحاب القضية، وحاولت السيطرة على خياراتهم وقراراتهم، حدث هذا مع سكوت فصائل فلسطينية عن امتطاء تلك الأنظمة قضية شعبها الفلسطيني لمصادرة تطلعات المجتمعات العربية نحو الحرية والمواطنة والمساواة، بل سهّلت ذلك أحيانا لأسباب نفعية أو بحكم التبعية. يؤكد كيالي على أن فلسطين ليست فقط جغرافيا، بل هي قضية شعب، وهي جزء من قضية الحرية والحقيقة والعدالة في العالم العربي.


الظاهرة الفدائية
يرفض كيالي النظرة الساذجة واللاواقعية التي ترى إمكانية الحوار مع إسرائيل لإقناعها بإعادة الحقوق الفلسطينية، وهذه النظرة، برأي كيالي، لا تعدو أن تكون مجرد اعتقاد أيديولوجي آخر. وعقم المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية الحالية يؤكد ذلك. فلم تقم إسرائيل بالطرق السلمية، ولا نتيجة تطور طبيعي للمجتمع اليهودي في فلسطين، بل هي دولة استعمارية أسستها حركة سياسية صهيونية جلبت مواطنيها عبر الهجرة والاستيطان، بدعم من الاستعمار البريطاني، وعبر وسائل القوة، فأقامت كيانا استيطانيا إحلاليا واقتلاعيا غير مسبوق. هذا الكيان ينظر للصراع مع الفلسطينيين كصراع وجودي، وأما طابعها الأيديولوجي الديني فيجعل منها دولة شمولية لا تصلح معها الأساليب السلمية.

لكن في المقابل، يجد كيالي القدر نفسه من السذاجة واللاواقعية في النظرة التي تتأسس على الاعتقاد أن الكفاح المسلح، الذي جرّبه الفلسطينيون طوال عقود مضت، يمكن أن يحرر فلسطين، ويعيد الحقوق لأهلها، أو على الأقل هزيمة إسرائيل وتحرير الضفة والقطاع. فطوال 55 عاما من عمر تلك التجربة لم تتغير قواعد الصراع بين الفلسطينيين والإسرائيليين فقط، بل أيضا تعرّضت مجتمعات الفلسطينيين ووجودهم للانكسار، في حين تواصل إسرائيل تطورها قوة نووية متفوقة عسكريا، وتمتلك قوة مضافة متمثلة بالدعم الأميركي. فتثمير كفاح الفلسطينيين مهما كانت أشكاله في بناء المجتمع الفلسطيني أو إثارة التناقضات داخل إسرائيل أو رفع كلفة الاحتلال أو جلب التعاطف الدولي، غير ممكن من دون تغييرات مواتية في المعادلات الدولية والإقليمية والعربية، ومن دون تغييرات ثقافية واجتماعية وسياسية في إسرائيل ذاتها. فعلى الفلسطينيين ترشيد أشكال كفاحهم، والاقتصاد في تصريف طاقاتهم، والموازنة في نشاطاتهم بين حاجتهم لبناء مؤسساتهم وبين كفاحهم ضد عدوهم، وبين أشكال ومستويات كفاحهم وبين الأوضاع الدولية والإقليمية والعربية، كي يتمكنوا من المراكمة على انجازاتهم.
لقد ظهر الفدائي في زمن كان فيه الفلسطينيون بأمسّ الحاجة إلى بطل أو مخلّص، لذا جرى التعامل مع هذه الظاهرة، كما يذهب كيالي، بتَطَلّب، فتم تقديسها وتنزيهها. في لبنان والأردن انكشف الفدائي ملوثا بواقعه المضطرب والمعقد والمأزوم، وتشوشت صورته، وبدا إنسانا طبيعيا عاديا بقوته وضعفه، وكمالاته ونواقصه، ولم يكن القصور في الفدائي الفرد بذاته الذي هو نتاج مجتمعه وبيئته الخاصة بما له وما عليه، بل كمن في قصور مشروع التحرر الوطني الذي بالغ بالعسكرة على حساب جوانب أخرى، فكان أفول الظاهرة الفدائية حصيلة عاملين: الأول، عدم امتلاك المقاومة الوطنية الفلسطينية مشروعا ثقافيا ولا تربويا ولا مجتمعيا لصيانة هذه الظاهرة وتطويرها إيجابيا؛ الثاني، تحول الحركة الوطنية بعد الخروج من لبنان وبعد أوسلو إلى سلطة، تحول معها الفدائيون القدامى إلى رجال أمن، وميليشيات مسلحة، لتعزيز سلطة الفصائل دون صلة بمهمتها الوطنية الأساسية.
النقاش عند كيالي لا يدور إذًا حول شرعية المقاومة المسلحة ضد الاحتلال، بقدر ما يتعلق بجدوى الأشكال النضالية المتّبعة بحسب الزمان والمكان والهدف، وإمكانية استثمار العوائد المتأتية منها إيجابا، والقدرة على التحكم بإدارتها بأنجح ما يمكن. كما يتعلق بعدم حصر المقاومة بالكفاح المسلح، وتأكيد المقاومة بكافة الأشكال الشعبية الممكنة، وضمنها بناء الذات، والكتاب دعوة إلى التعامل بمسؤولية عالية مع التجربة الوطنية الفلسطينية المسلحة، بوعي واقعها، ومتطلباتها، وتوضيح استراتيجياتها، وتحديد أفضل السبل لاستمرار النضال الفلسطيني، وتفعيل أشكاله المتناسبة، والظروف الذاتية والموضوعية. وفي الانتفاضة الفلسطينية الأولى يجد كيالي إضافة جديدة إلى التجربة الوطنية الفلسطينية، والشكل الأنسب والأجدى للكفاح الذي يعزز صمود الفلسطينيين ويبني على إنجازاتهم.