Print
أنور محمد

رواية "قمل العانة".. الوطن وقد صار فردوسًا ضائعًا

21 يوليه 2020
عروض

لا عقلانية؛ بل تغوُّلٌ لا حقوق للإنسان فيه. جبروت، تجبُّر، فوضى، اختلال، زيف أيديولوجي، تفلسف يُشرعن الاستبداد. وهذا ما يرفضه الرسِّام جفان والرسَّامة هند و.. و، فلا يتحوَّل الإنسان إلى حيوان للاستهلاك، بفعل الأساليب القهرية التي تفرضها إرادة القوَّة عليهم. هذا ما يكشفه الكاتب المسرحي والروائي غسان الجباعي في رواية "قمل العانة"، دار شامة 2020. هذا القمل الذي تسبَّبَ مِنْ قبل في هزيمة نابليون بونابرت في روسيا عام 1812 حين حاول غزوها، كون أنَّ جيشه أُصيبَ بمرض "حُمَّى القمل" الذي انتشر في فروات رؤوس عساكره وعاناتهم.
مَنْ سيربح في هذه الرواية: السجين أم السجان، أم العقد الاجتماعي الذي يتفتَّت ويُسحق، ويصير الوطن فردوسًا ضائعًا تسكنه العفاريت والأشباح؟ غسان الجباعي وإنْ مهَّد لفعله، أفعاله، بصورة موحشة لشخصياته وما لحقها من دمار وموت نفسي ومادي في هذه الحرب التي لم تنتهِ، يقص ويسرد ويوتِّرُنا، لنبقى مع (أنا) روائي، يكتب في صيغة حوار ثنائي مآسي الحرب وما جنته على البلاد والعباد. فيتركنا مع لحظات مشحونة بالخوف والرعب تعيشها هند، صاحبة الكندرة الصفراء الرسَّامة المرأة الجريحة التي بلغت سن اليأس، وهي تدخل مع فرج عبد الله مرسم جفان الذي دمَّرته القذائف، في تلك البناية الشاهقة بمدينة داريا والتي

تمزَّقت شققها وتراكمت أمام مدخلها، مثل كومة من قشور اللوز، فيما روائح الجثث تفوح من قبوها الذي لا لوحات ولا ألوان ولا فئران- الفئران التي هي الأبقى كما يقول جفان، لأنَّها الأقدر على العيش مع الخراب، عسى أن تجد تلك اللوحة التي رسمها وهي عارية كما ولدتها أمُّها، فلا تقع بيد أحد. وإنَّ جفان الرسَّام الذي كان كلَّما انعقد ماؤه اللزج في رحم هند تمحوه خلسة بالدم! كَمْ مرَّةً رسمها فأجهضت، ثمَّ حبلت، ثمَّ أجهضت، ثمَّ.. وذلك أفضل من أن تموت الأجنَّة ذبحًا بالسكاكين وحرقًا بالنار، أو خنقًا بالغازات السامة، أو وأدًا تحت الأنقاض والركام. وهما في هذا الجو الكابوسي إذا بأحد يطلب منهما: اطلعوا لبرَّا وَلاَّ. ربَّما يكون جفان، وما روَّعها أنَّ هذا الوجه يشبه وجه الفأر: جبينه، أنفه، شارباه الطويلان، حتى شعر عانته يشبه عانة جفان. لتستيقظ من نومها فتجد نفسها عارية في سريرها وهي لا تصدق ما حدث معها عندما ذهبت برفقة فرج لزيارة مرسم جفان، فتبدأ بالتنكُّر وترمي فستانها الذي تمزَّقَ في القبو راوية للكاتب/المؤلِّف: لا يا سيِّدي الكاتب! ليس حلمًا ولا كابوسًا! لم أذهب مع فرج إلى أيِّ مكان.. لم أكتشف أنَّني عارية. وتبدأ هند مع غسان في كتابة الرواية؛ وتسأله: من قال لك بأنَّ اسمي هند!؟ أنا "طهران زهر البان"، أنا لا أحبُّ الكتَّاب العرب، ولا أقرأ إلاَّ الروايات المترجمة. وتبدأ روايتها بالهجوم على الكتَّاب العرب، فمعظمهم تافهون لديهم عقدة اضطهاد مزمنة، منافقون،

غير مهنيين ولا موهوبين، جبناء، والمرأة تُدفنُ حيَّة في الحقول والمطابخ وغرف النوم! تُدفن في ثيابها وحجابها وعبوديتها، تخاف الفئران والصراصير ولا تخاف القذائف والقناصين. وتُكمِّل سرد سيرتها في حوارٍ بينها وبين الراوي لوقائع سنتعرَّف على فرج عبد الله اليتيم الذي لا يعرف أبويه والذي ولد في المعتقل بعد شهرين من اعتقال أمِّه عوضًا عن والده الذي اختفى في مطلع الثمانينيات كما قيل؛ وفي رواية أنَّ أمَّه صبية جميلة تدرس الهندسة في جامعة دمشق، اغتصبها المعلِّم أبو صالح أوَّلًا وتتالت عمليات اغتصابها مئات المرات، فكان كل واحد من السجانين بالنسبة له أبًا، وُلِدَ وسمُّوه (عرسااااا) أي: عرصة. وَكَبُرَ في المعتقل وهو لا يدري ماذا تعني عرصة؛ اسمه الذي كان يناديه به السجانون. وجفان الرسّام حبيب هند أو طهران زهر البان الذي قضى بضع سنوات في الاعتقال، ورئيس فرع الموت الذي استدعى الكاتب وهو المُعارِضُ المعروف والسجين السياسي السابق أبو اللسان الطويل "الشعب السوري ما بينذل"، ليُحيلنا المؤلِّف إلى أجواء كابوسية كافكاوية وإلى حفلات تعذيب وإعدامات، فيروي أحداثًا واقعية مع شريكته في كتابة الرواية، كأنَّها حملة على الموت، موت واقعي ومرعب يصف فيه الضابط أبو صالح الذي تدرَّج حتى صار مُعلِّمًا كبيرًا لا يمكن أن يتحدَّاه أحد، فكيف برهائنه. حتى زوجته لو أفلتت منها كلمة عما تعرفه ولا تعرفه من أسراره فقد تعرِّض حياتها للخطر، بعد أن كانت حياتها ملكها، وهي التي رفض والدها تزويجها للمعلم أبو صالح وكان حينها في رتبة رائد، الوالد هذا كان قد تمَّ نقله من التعليم إلى مؤسَّسة الريجي نظرًا لانتمائه اليساري/الشيوعي، والذي كان يعتبر نفسه في عداءٍ مُطلق مع الرائد، وله ما يبرِّر رفضه بأنَّ العسكري قدره أن يكون قاتلًا أو مقتولًا، فالعسكر صُنَّاع الموت، والساسة يعرفون كيف يجعلون الجنود يَقتلون ويُقتلون باسم الوطن، وأنَّ ابنته ميساء ستكون أرملةً في أقرب فرصة. هذا الوالد الذي استشهد ابنه الضابط المجنَّد في لبنان، سرعان ما يغيِّر رأيه ويقبل بالمعلِّم أبو صالح الأرمل أبو الولدين من زوجته الأولى المتوفاة عريسًا لابنته ميساء، التي حصلت على الثانوية العامة بفارق عمر بينهما يزيد على ربع قرن. أبو صالح، وبعد زواجه، منع ميساء من حلاقة شعر عانتها لأنَّه يحبه بصفته عشَّ يمامة، هكذا. كما منعها من دراسة الفن التشكيلي

وأرغمها على دراسة الحقوق بعد مضي أربعة أشهر على الدوام في الجامعة. وهو المعلم الذي عنده من المسوغات الأخلاقية والثقافية، وحتى القانونية، ما يبرِّر أفعاله، هو يريد أن يحافظ على الدولة التي حلَّت فيه. ثمَّ ما هذه الحريَّة؛ أو ماذا تعني فكرة الحريَّة- يجب أن تختفي من الضمائر.
الروائي الجباعي في روايته "قمل العانة" يقوم برد فعل دفاعي عن الحياة التي انسحبت من الحياة، عن أحداث حدثت ولكنَّها لم تحدث، مع أنَّها أحداث ضارية، وبغاية الحماسة للحياة. حدثٌ، أحداثٌ مركَّبة، ولكنَّها في شكل مأساوي لموقوفين جاؤوا إلى المأساة من خارج إطار المأساة، أراد غسان الجباعي أن يذهب بهم نحو الجدل التراجيدي؛ فهم مبصرون مُبصرون، وكلُّهم، كلُّ مَنْ هبَّ ودبَّ في الزمن الروائي، ولكنَّهم عُميان؛ عُميان مُبصرون يُعاقبون بشتى أنواع العقاب من التعذيب الذي يصل حدَّ الموت، مع أنَّهم لم يقترفوا ذنبًا أيَّ ذنب.
النصر كما الهزيمة، ثمَّة ثمن يُدفع، ولكن عليك حسب ميكافيللي أن تُخيف الآخر بدل أن تكسب حُبَّهُ. وأظن أنَّ هذه الثيمة هي ما تلعب عليها الرواية، ولكن التخويف يذهب إلى إراقة الدماء. ثمَّة متعطِّش للدم، وهذا ليس عبثًا مسرحيًا أو مسرحًا/ روايةً عبثية، فالرواية لا تقارب ولا تذهب نحو اليأس ولا الأمل. ضحايا ولا جدوى، لا عدمية ولا أقنعة. "قمل العانة" رواية جارحة عن مأساة بشرٍ، كُتبت بنبرة واقعية شيِّقة ساخطة وعنيفة.