Print
عماد الدين موسى

بورتريهات شِعريّة في "ظلّ الخوف" لسِوار مُلَّا

4 أغسطس 2020
عروض

يُفاجئنا الشاعر السوري الشاب، سوار ملا (من مواليد 1992) بنبرته الشِعريّة الهادئة والشفيفة، جنبًا إلى جنب مع لغةٍ مُحكمة وذات ثِقل موسيقي آسر؛ جملتهُ، بمفرداتها المنتقاة بمنتهى الرويّة والإتقان، تأخذ القارئ إلى تضاريس الريف ومعالمه، حيثُ الوحشة والبراءة معًا، منبت الشِعر الأول، وحيثُ ينبغي أن ينطلق منه. "قمر ضئيل"، "نحو سُحُب نقيّة"، "الجبل شديد الزُّرقةِ"، "صورة قديمة"، "النهر"، "العشب"، "الأتربة الرحيمة"، "للربيعِ رائحة المقبرة"، "كؤوسُ الشاي الفاتر".. وغيرها كثير من العبارات نجدها بين جنبات قصائد باكورته الشِعريّة "ظلّ الخوف"، الصادرة حديثًا عن منشورات المتوسط في ميلانو (2020)، ضمن سلسلة "براءات"، التي أتتْ في 112 صفحة من القطع المتوسط.
سوار ملا، المولود في مدينة "عامودا"، في أقصى الشمال السوري، يقيمُ في ألمانيا منذ سنوات، حيثُ يدرسُ علوم اللغة الألمانية وآدابها وتاريخ الفن في جامعة غوته الألمانيّة. إلى جانب اللغة العربيّة، يكتب باللّغتين الألمانية والكردية، وينشر في الصفحات الثقافية العربية والألمانية.

تناوب الوعي واللاوعي
ثمّة سردٌ مُحبّب، وذو نكهةٍ خاصّة، يكاد أن يطغى على أجواء معظم قصائد هذه المجموعة، فيما الإيقاع الموسيقيّ يخفتُ رويدًا رويدًا حتى يكاد أنْ يختفي تمامًا، ليحلّ مكانه الموسيقى

الداخليّة للكلمات؛ سردٌ متواصل، حميمٌ وعذب، يتناوب عليه كلّ من "الوعي" و"اللاوعي" أيضًا، يبدأ بالذكريات، وما قد عَلِقَ في الذاكرة من مشاهد ورؤى جماليّة جمّة، حيثُ يأتي في صيغةِ جملة طويلة ومتقطعة الأنفاس، كأنّها شهيقٌ وزفيرٌ، ليُختتم بعبارةٍ مُغايرة ومختلفة عن السياق، وغاية في الإدهاش، آنَ الوصول إلى الذروة، أو ما يسمّى ببؤرة التوتر في النهايات. كما في قصيدة "متعة النقيض"، وفيها يقول: "الغيومُ المرسومةُ كخارطةِ العالمِ في ظهيرةٍ باردة، الذكريات المهرولةُ كأطفالٍ ناجين من مجزرة نُسيَتْ، القبرُ الذي وُلدتُ من شهوتِهِ، الكلمات التي حلمتُ بها دون أن أنطق منها حرفًا، الأُمنيةُ الوحيدة التي ترعرعتْ في قفصي الصدري، وحلّقتْ كعصفور، تُسقِطُهُ أوّلُ نسمة".
في قصيدةٍ أخرى، حملت عنوان "الذاكرة"، تأتي في السياق ذاته، نجد أنّ ثمّة كتابة مدوّرة، ولغة دراميّة، تدنو من السرد مرةً ثانية، نقرأ حكاية يوردها الشاعر، على شكل جُمَل وعبارات قصيرة ومتتالية، تفصل بينها النقطة، أو الفاصلة، لتأتي النهاية كما لو أنها لوحة تم إنجازها بضربة فرشاةٍ، حيثُ يقول فيها: "رُويدًا رويدًا تختفي الأشياء التي في ذاكرتنا عن سطحِ الأرضِ./ الناسُ، الأصواتُ، البيوتُ، الشوارعُ، الأسواقُ، المدنُ، البلداتُ، الجبالُ، الجبالُ... كلُّ شيءٍ، كلُّ شيءٍ يصيرُ تحت الأرضِ. ذاكرتنا تتحوّلُ إلى مقبرةٍ كبيرةٍ،/ وكلّما نتذكّرُ نغدو جثثًا ممدَّدةً".

الشغف بالفنّ التشكيلي
من جهةٍ أخرى، يبدو جليًا لدى الشاعر الشغف بالفنّ التشكيلي، من خلال توظيفه لتقنيّات الرسم ومزج الألوان في بنية قصيدته ومعالمها، حيثُ نجده يحتفي بشخصيّات عدّة ويذكر أسماءها. ثمّة بورتريهات شِعريّة عدة، نتأمّلها وننظر إليها أكثر ممّا نقرأها؛ عن كل من الأب في قصيدة (إلى أبي)، وعن (القتلة) في قصيدةٍ حملت العنوان ذاته، وقصيدة "الباب الأسود" (إلى أحمد ميرخاني)، وقصيدة "مرثاةٌ متأخّرة" (إلى سعد سيدا..)، وعن إيفا في قصيدة (إلى إيفا دومًا)، وقصيدة أخرى عنوانها (إلى "فتاةٍ نسيتُها")، وكذلك قصيدة (إلى ساعي البريد ماريو

روبولو)، وعن بيكاسو في قصيدة (بابلو بيكاسو).
اللغةُ في هذه القصائد/ البورتريهات تبدو رقيقةً ودافئةً، حيثُ تحضرُ المشاهد بصورةٍ جليّةٍ، وتكون الإثارة أولًا لحاسة الرؤية لدى القارئ، عبر شحن القصائد بصور ومفرداتٍ تثيرُ هذه الحاسة دونًا عن غيرها.
ومثلما يقول الشاعر: "المكانُ جذَّابٌ كالغيبِ/ والأشجارُ المتوزِّعةُ في أرجائهِ/ تعرفُ جيدًا كيف تنصبُ للآخرين أفخاخًا/ وسكّانُهُ، مُدهِشو الملامحِ، جميلون كالغوايةِ../ وكلُّ داخلٍ سيطبقُ خَلْفَه البابَ الحديديَّ الأسودَ، إلى الأبد".