Print
عماد الدين موسى

"حكاية الكاشف والمسرح والثمانية والأربعين".. عن حكّاء فلسطين

10 أكتوبر 2021
عروض


مذكَّرات، حكايات، بوح، أو نجاحات، فشل، صعوبات. كتابٌ هو: "بحق إحدى الشهادات المهمة على مسيرة المسرح الفلسطيني هنا في الداخل، وأقول ذلك من منطلق معرفتي بجوهر المساهمة التي قدمها المؤلِّف لهذه المسيرة، ولا ينفك يقُدّمها، سواء كممثّل، أو كمؤلِّف، أو كمنتج، لا يزال فاعلًا في صلب الحركة المسرحية. إذ يغلب على كتابة طرابشة نمط السيرة الذاتية، حيث يصادفنا في صفحاته كافة مقصد الحديث عن تجربته، بما في ذلك في الحياة العامة، والعملية، والروحية، والسياسية"، كما يقول الكاتب أنطوان شُلحت في تقديمه للِكتاب.



فرقة الحكواتي
يلخص الفنان والكاتب المسرحي الفلسطيني، عدنان طرابشة، في إصداره الجديد "حكاية الكاشف والمسرح والثمانية والأربعين"، الصادر عن مكتبة دار الشامل 2021، تجربة أربعين عامًا في العمل المسرحي كانت مصحوبة بالصعوبات والنجاحات والفشل، كما يؤكِّد، داخل صفوف الفلسطينيين في أراضي 1948. وإذ يأخذ عليه الكاتب أنطوان شُلحت وجود قدرٍ من النزعة الفردانية، فهو يبررها بالقول إن هذه من متلازمات السيرة الذاتية، لأنَّها تقوم في أكملها على إيمان قوي بالأنا/ الفرد.




الكتاب سيرة ذاتية لحكاية المسرح الفلسطيني، خاصة سيرة "فرقة الحكواتي المسرحية الفلسطينية"، التي تأسَّست عام 1977 في القدس المحتلَّة، وكان طرابشة من مؤسِّسيها، وقادت الحركة المسرحية في فلسطين حقبة من الزمن، ألبستها خلالها هويَّة الحكواتي الفلسطيني وحُلَّتَه الزاخرة بالألوان. سيرة غنية بالملاحظات والتعليقات، وما لاقى طرابشة من صعوبات وهو يصنع خيطًا يشبكه مع خيوط نسيج المسرح الفلسطيني، بين خشبة مُتخيَّلة وخشبة واقعية يتفاعل فيها الممثل مع المتفرج. وكما يقول في كتابه، كانت الخشبة متخيلة، أو واقعية، إلى اليوم الذي جَلَس فيه على مَقاعِد الدِّراسة، حيث بدأ الْبَحْث عن شركَاء لِإقامة فِرقة مسرحية في الجامِعة. وكان هاجس المسرح والتّمثيل قد لازمه منذ الطفولة بسبب الحكواتية أُمَّهُ "بيكة شوفاني الكاشفة"، وكان أوَّل عرض شارك فيه مسرحية "البيت القديم" للكاتب المصري محمود دياب، من إخراج راضي شحادة، وكان حينها في الصف التاسع، وعمره 15 سنة.



إقامة مسرح فلسطيني
يحكي المؤلف في كتابه هذا بعفوية وصدق عن تجربته؛ كيف يمثل الإيماءات التأشيرية والمقولبة، والحركات الغريزية، وعن تنويعه للنطق، سواء كان مفاجئًا، أو متكررًا. وعن الخواص النفسية لذهن الشخصية التي يمثلها، وعن الموسيقى المسرحية، والديكور المسرحي، وعلاقة النص الدرامي بهما، ولكن بعفوية رغم دراسته في الجامعة العبرية للمسرح والجغرافيا. هذه العفوية نفتقدها حين يكتب أصحاب المذكرات مذكراتهم، تراهم يصنعون الفرح، أو الحزن، ويبدون كما المتفوقين؛ السوبرمانات. طرابشة يكتب بصراحة ومن دون مخاتلة، وبتدفق، بدفق حيوي، كيف صنع لحظات الضعف ولحظات القوة في المسرح؛ مسرحه الفلسطيني إذ يحكي عن تلك "العربدة وتحديد الحريات والبلطجة الإسرائيلية في الجامعة العبرية التي جعلته يفتش عن عمل مسرحي يحكي عن القمع الفكري والجسدي، ويعزز ويدعم المظاهرات التي كان يقوم بها مع زملائه الطلبة في الجامعة العبرية تنديدًا باحتلال وأعمال القمع وملاحقة الطلاب العرب. إذ شارك في نيسان/ أبريل 1977 بعرض لمسرح الشارع مع المخرج "موطي ليرنر"، وكان اسم العرض (مسيرة الموتى)، نددوا فيه بقرع طبول الحرب الدائم للدولة الصهيونية". يستطرد المؤلف في نثر ذكرياته، فيروي كيف تردد في العمل في مسرح عبري، حتى لا تضيع فلسطينيته، فلسطين أوَّلًا وأوَّلًا، ولكنه لا ينسى أنَّ العديد من الممثلين الفلسطينيين، مثل مكرم خوري، ويوسف أبو وردة، وسليم ضو، ومحمد بكري، وسهيل حداد، وراتب عواودة، وسلوى نقارة، وأديب جهشان، وغسان عباس، عملوا في المسارح العبرية من دون أن يتراجعوا عن فلسطينيتهم، أو يُساوموا عليها. مع ذلك، فالأمر بالنسبة لطرابشة كان محيِّرًا، وهذا ما دفعه ليستشير بعض الفنانين من أصدقائه، وكان من بينهم الفنان مكرم خوري، وأنَّ المخرجين الإسرائيليين الذين سيعمل معهما، شولي كوهين، ودافيد معيان، هما من اليسار، وكذلك لأنَّ عكا قريبة من سكن والده، ولذا وافق على خوض التجربة. كما اتفق معهما على أن يكون محور المسرح الذي يؤسِّسونه عن عكا والصراع الفلسطيني الإسرائيلي. لم يستمر العمل مع المسرح العبري، ما دفعه إلى البحث عن شركاء لإقامة مسرح فلسطيني.



رسم صورة جديدة للعالم
لا ينفك المؤلف في حكاياته المسرحية يحكي بمباشرة عن تفاعله المتزامن والمتوالي مع الأحداث التي عاشها وتوتراتها كصانع فرق مسرحية، وعن علاقاته المادية المتغيرة مع شخوصه المسرحية، وكيف يستمد قوته من الخشبة كحكواتي، ومن أمِّه الكاشفة التي توفيت في 11 سبتمبر/ أيلول 1979، حيث أدخله موتها هذا مع تركه لمسرح الحكواتي في نهاية عام 1983 في أزمة نفسية، فاُمُّه كانت بوصلته والحكواتي كان بمثابة روحٍ ثانية.




طرابشة يكتب ويحكي قصته مع المسرح الفلسطيني بعفوية، وهو يحوِّل المعاني اللغوية إلى أنساق سيميائية، فيرسم صورة جديدة للعالم والناس، وكيف كان يقوم هو والممثلون بأشغال شاقة، إذ كانوا يقدمون عروضهم التي لا تحصى في ظروف قاسية جدًا، معظمها في ساحاتٍ تحت لهيب الشمس، وبروح جماعية وتحدٍّ، مدَّتهم بطاقةٍ سحرية، فما قدموه من عروض باسم (مسرح الكرمة) في مهرجان عكا في تشرين الأول/ أكتوبر 1989، كان قد شغل الإعلام العبري والعربي، وفوز مسرح الكرمة بجوائز المهرجان كلها تقريبًا. كما كتب عن فشله وإخفاقاته، كذلك عن طموحاته وقدراته الإنسانية كمسرحي. وإذا أخفق أو فشل، فلا يقدم تبريرًا، وتبريرًا دراميًا. هو يحكي عن مسرحية "رأس المملوك جابر" لسعد الله ونوس، التي عرضت ما يزيد على 250 عرضًا في الوسط اليهودي، وفي القرى والمدن العربية في فلسطين التاريخية من النقب إلى الجليل، وعن إنتاج مسرح الكرمة لـ(مهرجان المونودراما الأوَّل) عام 1992، وكان اسمه "مسرحيد" من دمج كلمتي: مسرحية، ووحيد، كجوابٍ عربي لمهرجان المونودراما العبري الذي يقام كل عام في تل أبيب، كما يحكي عن "مسرح الصم"، الذي قدم باكورة أعماله عام 1998، وعن إقامة مجموعة سيرك في عام 2001، بالتعاون مع أصدقاء يهود يساريين غير صهاينة. طرابشة حكى، وهو الحكَّاء، عن الصراخ في المسرح، وعن الهدير والهسيس، والتمثيل الواقعي، وربما السوريالي، وعن كيف يغضب، وكيف يتنفس، وعن التعارض بين التمثيل العقلي والواقعي، مخيفًا مرعبًا، أو مضحكًا، وعن التراتب الهرمي لنمو الفعل، كان لفظًا حواريًا، أو فعلًا من حركة. وعن انكسار الفعل وتهدمه لفهم جوهر اللعبة المسرحية مع العدو الصهيوني الذي يلعب على كامل خشبة فلسطين، فجاء حكيه رسالة ملحمية عن تحديات العقل الفلسطيني الذي يصر على خلق مسرح خلاَّق.