Print
عمر شبانة

الميتاشِعريّة عربيًّا.. بين المُحدَثين العبّاسيّين وحداثيّي القرن العشرين

13 أكتوبر 2021
قراءات




تخوض الناقدة والأكاديميّة اللبنانية د. هدى فخر الدين عبر كتابها "الميتاشعريّة في التراث العربي: من الحداثيّين إلى المُحدَثين"، وفي الأصل الإنكليزيّ (Metapoesis in the Arabic From Modernists to Muḥdathūn Tradition)، في خضمّ قراءات شعرية تتناول ما هو "ميتاشعريّ" في القصيدة العربيّة المعاصرة، قبل أن تنطلق إلى قراءات شبيهة في متون عددٍ من شعراء العصر العبّاسيّ، لتقول لقارئ بحثها إن مصطلح الـ"ميتاشعرية" يجد حضوره، على نحو ما، في قصائد وأشعار المحدثين العباسيّين، كما في شعر الشعراء الحداثيّين العرب المُعاصِرين.

البحث الغنيّ بالتفاصيل، المطوّل (حوالي ثلاثمائة وستين صفحة)، والذي ترجمته آية علي (وصدر في دار أدب للنشر والتوزيع، الرياض، 2021)، يعمل ضمن منهجية بنيويّة توليديّة منفتحة على قراءات متعددة الطبقات للشعر العربي وما حوله، ليستخلص ما مفاده أن نظرية الميتاشعريّة وتطبيقاتها، اتّخذت صورًا وأشكالًا عدة في الشعر العربي، قديمه وحديثه، وبتصنيفاته كلّها، من غزل وهجاء ومديح و"معارَضات شعريّة" بين الشُّعراء، كما في تحوّلات بعض المفاهيم والعناصر التكوينيّة التي عليها وبها تنبني القصيدة العربية.

تنتمي دراسة فخر الدين هذه إلى حقل الدراسات النقدية العلمية الرصينة، حيث تتّخذ من المراجع والمصادر العربيّة والأجنبية، الحديثة والقديمة، مصدرًا أساسيًّا تتّكئ عليه لتُنتج دراستها النقديّة "الخاصّة" والمتخصّصة، بين القليل من الدراسات النقدية المشابهة التي تعمل في الحقل نفسه، إذ قلّما قرأ المتلقّي العربيّ دراسة على هذا القدر من التخصّص والدقة. إنّه حقل جديد في أرض الدراسات النقديّة العربية. ورغم ما يبدو عليه المصطلح من "ضبابيّة"، فهو يظلّ يُعنى بما هو حول الشعر وفوقه وتحته من عناصر وعوامل تُسهم في بناء القصيدة/ النصّ الشعريّ، كما يُعنى باستحضار الشاعر نفسه في قصيدته، والتعريف بطريقته في بناء هذه القصيدة.

ولعلّ استناد الناقدة (العربيّة) إلى أحدث المراجع الغربية، ومن بينها كتابات أستاذتها الجامعية سوزان ستيتكيفيتش، الباحثة المتخصصة في الشعر العباسي، التي أشرفت على رسالتها هذه (للدكتوراه)، وكذلك كتابات ياروسلاف ستيتكيفيتش ومايكل سيللرز، وما قاربها من مصادر يكاد يكون الكثير منها مجهولًا للقارئ العربيّ، ولعلّ كتابة الرسالة باللغة الإنكليزيّة أصلًا، توحي كلّها بأن هذه الأطروحة وفرَضيّاتها موجّهة إلى القارئ الغربيّ أوّلًا، وأساسًا، وأنّ ترجمتها إلى العربيّة هي عودة من "الغربة" و"الاغتراب" في لغة وثقافة مختلفتين، ولتكون حاضرة في النقد العربيّ، وللمتلقّي العربيّ. وهي كما تقول المؤلّفة "عودة بعد اغتراب، وتوجّه إلى القارئ العربي العارف بالشعر، الذي طالما كان في ذهني هو المتلقي المقصود لهذه الدراسة".






عناوين وقضايا رئيسية


تبدأ الباحثة دراستها بمقدّمة تقسّمها إلى عناوين عدّة؛ فتقدّم تعريفًا بالميتاشعرية في التراث العربي، وتنطلق من الشعر العربي في القرن العشرين، وحركة الشعر الحُر بوصفها مشروعًا ميتاشعريًّا، وتتناول الجيل الثاني بعنوان "الميتاشعريّة قيد التطوّر"، قبل الانتقال إلى التعريف بمفهوم الميتاشعرية في العصر العباسي، من خلال عناوين وقضايا تشكّل بِنيةَ الكتاب، مثل: "الجمهور والنقّاد والنقاشات الشعريّة"، و"الشعراء العباسيون وتأمّلات شعرية"، و"الميتانسيب العباسيّ"، و"المقدمة الطللية: استحضار الصوت في القصيدة"، ثمّ تتفرّع العناوين فتتناول الباحثة تجربة "أبو نواس: العبث بموتيف الأطلال"، و"مقدمات أبي تمام الطلليّة: التجريد والتغيير"، و"تحرير موتيف الأطلال: ما بعد أبي تمام"، وثيمة "الرحلة في الشعر العباسيّ"، ونرى "أبو تمام يسوق قطيع "معانٍ بِكر"، و"ابن الرومي يرحل مجاوزًا "بيتًا بعد البيت"، وصولًا إلى "تجربة البحتري وعبيد الله بن طاهر: والتبادل الفاشل"، وهكذا حتى "الخاتمة".
وتشير مقدّمة الناشر إلى صور من المعاناة في ترجمة الكتاب إلى العربية، وإلى "صعوبة العمل وتشعّبه، مع وجود الكثير من المصطلحات التراثية العربية التي ستُعاد إلى أصلها الصحيح، وكذلك المصطلحات الأجنبية التي تحتاج إلى تسكينها في مقابلها العربي الأنسب، وما قد ينشأ من اختلاف في اجتهادات المترجمين، إلى غير ذلك من الإشكالات التي يعرفُها من يعمل في الترجمة وعوالمها المربكة".

مقدّمات وأساسات للدراسة

يأتي كتاب "الميتاشعرية" هذا، في سياق البحث عن أصول هذا المفهوم -الذي يبدو حداثيًّا في مصطلحه- لدى الشعراء المحدثين في العصر العباسيّ (ابن الرومي/ البحتري/ أبو تمام/ أبو نواس، والمتنبي)، ويتتبَّعُ الكتابُ، بنَفَس علمي دقيق وروح أدبية نقدية شفَّافة، مظاهرَ "الميتاشعرية" عند المُحدَثين والحداثيين بلغةٍ راقية وممتعة.

ومنذ مطلع تقديمها للكتاب، تقول المؤلّفة إنه يدرس "مفاهيم الإبداع والتجديد في تجربة الشعر الحر في القرن العشرين، والشعر المُحدَث في العصر العباسيّ"، وترى أنّ "القاسم المشترك الأساسي بين هاتين التجربتين هو وعيٌ نقدي ميتاشعري لدى الشعراء بمواقفهم من التراث، وتطلّعٌ إلى التجديد". وهي تتعمّد إقامة حوار بين النظريات الغربية والنظريات العربية في الأدب والنقد قديمًا وحديثًا. وتقول إنها قد دُفعت إلى هذا الاغتراب الثقافي والأكاديمي بسبب خيبتها من الأنظمة والمؤسسات التعليمية العربية "فنحن لا نهتمّ بلغتنا وأدبها، ولا نوجّه طلابنا نحو الدراسات الأدبية أو الإنسانية إلا نادرًا".

وتشير فخر الدين إلى أن بعض دارسي الأدب العربي في الجامعات الأجنبية يقدّم دراسات قيّمة، إلا أن موقع الأدب العربي لا يزال على هامش الإنسانيات والدراسات الأدبية في الأكاديميا الغربية. وهي تواجه تحدياتٍ يتعلق بعضها بحصر "الحديث" و"الحداثة" بما هو زمنيّ، واعتبار كلّ قديم "تقليديًّا"، لكنها تثبت أن في الحديث قديمًا، كما أنّ في القديم حديثًا، فالمسألة لا ترتبط بالزمن، بقدر ارتباطها بالتحوّلات التي تعمل على خلخلة بنية فنية- شِعريّة، والذهاب بها إلى آفاق جديدة، وهو ما ترى الباحثة أنّ عددًا من الشعراء العبّاسيّين عملوا على إنجازه، عبر تجاوز بعض التقاليد في الشعر العربيّ، مثل تغييرهم الفهم الشائع للقصيدة الطّلَليّة، أو لقصيدة المديح التي تبدأ بالوقوف على الأطلال ورحلة الناقة للوصول إلى الممدوح، هذه "المنظومة" التي جرى الاستغناء عنها، واستبدالها بسواها من المقدّمات التي توضح وعي الشاعر العبّاسيّ لقصيدته ودورها ووظيفتها، ما يجعله مُدركًا لبنيتها ومساراتها وأسرارها.
ويلفت النظر، لدى مقارنة الباحثة بين "ثورة" الشعراء العبّاسيّين، و"ثورة" الشعراء الحديثين- زمنيًّا- أصحاب قصيدة التفعيلة وقصيدة النثر، ما يقارب الانحياز للطرف الأوّل، فهي ترى إنجازهم، المتمثّل في الخروج على قصيدة الأسلاف، أعظم شأنًا من شأن الثورة في تجارب السيّاب والبيّاتي والملائكة وسواهم من الأجيال اللاحقة: سعدي يوسف، محمود درويش، جودت فخر الدين وشوقي بزيع، مثلًا. أو ربّما هذا ما يفهمه المتلقّي من "حماستها" لذلك القطع مع الموروث، قطعًا حافظ على الأساسيّات في بنية الشعر وروحه، وسعى إلى التجاوز والتغيير بلا شطَط أو مبالغات.




وممّا يستوقف قارئ هذا الكتاب وقوف الباحثة مطوّلًا وعميقًا لدى ثيمة المديح الشعريّ ومفرداتها، وطريقة كلّ شاعر في بناء قصيدته "المَدحيّة"، وتقديمها إلى الممدوح، والتفصيل في موتيفات القصيدة وروحها التي تختلف من شاعر لشاعر، بحسب مستوى علاقة المادح بالممدوح، وهي علاقة توجّه بنية القصيدة ومدى صدقيّتها وحرارتها، وما إذا كانت ملتبسة بافتخار الشاعر بنفسه، أو أنها تنطوي على تهديد الشاعر للممدوح بأن يُجزل له العطاء، أو تنقلب الحالة إلى عدوانية وهجاء. وذلك كله ضمن وعي كامل وعميق لما يقوم به الشاعر، خصوصًا في تناول علاقة البحتري بممدوحه عبيد الله بن طاهر، التي بدأت تهتزّ حين لم يحصل البحتري على ما يتوقّعه من مكافأة للمديح، فراح يهجوه بعنف، حتى تدخّل ابن الرومي لمناصرة صديقه عبيد الله، وهجاء البحتري.


تفاصيل كثيرة وخاتمة

تفاصيل كثيرة، وحكايات طريفة، تحيط بكتابة الشعر وإلقائه بين يدي "الجمهور" في الزّمنين اللذين تغطّيهما الدراسة، الأمر الذي يصعب معه الإمساك بذلك كلّه، وبدلًا من ذلك أرى الاقتصار على وصف "روح" البحث وجوهره، حيث التركيز على منهج يجمع مناهج عدّة، وينفتح على قراءات متخالفة ومتعارضة، ليصل إلى "مقولته" الأساسيّة، متمثّلة في طريقة قراءة القصائد والنصوص، بقراءة مكوّناتها الأوّليّة وتفكيكها إلى عناصرها ودلالاتها، وذلك بموضوعيّة تتوخّى الموازنة بين الشعراء أنفسهم أوّلًا، وبينهم وبين نصوصهم أساسًا، لنقف على بنية النصّ والشاعر في آن واحد.

وفي خاتمة الكتاب تلخّص الباحثة الأمر فتقول باختصار: إن هذا الكتاب، كما يوحي عنوانه، لم يتبع مسارًا كرونولوجيًّا، فقد بدأ بالحداثيين العرب في القرن العشرين؛ نظرًا لسهولة الوصول إلى الأدوات والمصطلحات الخاصة بدراسة الميتاشعرية في أعمالهم. فالحداثة في الشعر العربي هي عمليّة تشكيك في التقاليد والبحث عن بدائل، فهم يتحدّثون عن المسائل الميتاشعرية أكثر مما يمارسونها. لقد وجدوا شكلًا جديدًا يُمكِّنهم من التحدث عن العلاقة الإشكالية مع الشكل التقليدي.

وعلى الرغم من أنّ إنجازات شعراء القرن العشرين، لا سيما من حيث الشكل والموسيقى، قد تكون أكثر وضوحًا وأسهل على التحديد من إنجازات المحدثين العباسيين، إلا أن الإنجازات النقدية للشعراء العباسيين رائدة وأصيلة بالقدر ذاته، وإن كانت دقيقة وكامنة على نحوٍ أكبر. إنها تمثّل معنًى مختلفًا للتجديد، يبرز بشكلٍ أوضح في إطار القديم، ويكتسب قوّةً وإلحاحًا من تمسّكه بما يتحداه ويسعى لتغييره.

وأخيرًا تقول هدى فخر الدّين إن هذا الكتاب، باستعارته لعدسة الميتاشعرية التي نُظر من خلالها إلى الشعر العربي في القرن العشرين، رمى إلى تسليط الضوء على بعض الإنجازات الرائدة التي حققها شعراء العصر العباسي، في محاولاتهم للتوفيق بين الشكل الشعري الراسخ وتطلّعاتهم الإبداعية للتغيير.