Print
صدام الزيدي

"ضوءٌ هناك".. قصائد بطعم الموت في المنفى

5 أكتوبر 2021
عروض

 


يفتتح الشاعر الكردي السوري المقيم في ألمانيا، زكريا شيخ أحمد، مجموعته الشعرية الأولى "ضوءٌ هناك"، بنص عنوانه: "جزءٌ من سيرة ذاتية" يستهله بالقول: (لا أعرفُ كيف ولدت؟/ لكني ولدتُ وانتهى الأمر)، وهي سيرة طفل مختلف، كانت أمه إذا أرادت زيارة الجيران، تأخذه معها، وثالثهما حبل، لتربط به قدم الطفل حين تصل بيت الجيران، ولا تكتفي بالحبل هناك، بل تقيده أيضًا، بأثقل شيء تجده هناك، كي تكون المساحة التي يتحرك فيها ضئيلة جدًا، وكي تكون كل الأشياء بعيدة عن متناول يديه "المُدمِّرتيْن"، كما يصفهما في نصه الافتتاحي.

تقع المجموعة في 216 صفحة من القطع الوسط، وهي من إصدارات دار "المثقف" للنشر والتوزيع، في القاهرة، محتويةً على 100 نص، لا تخلو في سياقاتها وانفعالاتها من دمار، يكتسح مشهدية في الداخل السوري، ومثله دمار في روح شاعر اعتقد في بادئ الأمر، أن الحرب مجرد سحابة عابرة، ستنقشع، عما قريب، ثم، الطيور المغادرة، ستعود إلى أعشاشها، دون أن يكون في حسبانها، أن منفىً لا نهاية له، ينتظر، خلف أمسيات من حيرة وتشرد، في ألمانيا، حيث استقر بالشاعر المطاف بعد رحلة نزوح وتغريبٍ مضنية.

مثل براكين تندلع من بين صفحات كتاب، سلاح زكريا أحمد الأخير هو البوح والحنين، وتدوين ما يشبه "تغريبة شعرية سورية".. تعرّي قصائد المجموعة، ذاك القبح المرعب، الكامن في مفردات - اتسعت لها النصوص، على كثرتها: الحرب؛ النزوح؛ الغربة؛ العزلة؛ المنفى؛ شوارع الدم، إذ تحمل شاشات التلفزة، بشكل يومي، أنباء جديدة، بلون الدم وبطعم الموت، وهذا بدوره، يحفر عميقًا في روح الشاعر، فينتج، بغزارة وحرقةٍ، "كتابة السجن المفتوح"، حيث لا امكانية إلا للمزيد من عذابات القيد الذي يطبق على الروح.

"سجون" العزلة...

يكتب الشاعر، عن "يوميات في سجن"، فقد انتبه أخيرًا، إلى أنه في سجن (غير معلن/ افتراضيّ)، ومن هنا، تبعثرت لديه، أدوات التفكير، فذهب يعدِّد قيود هذا السجن الروحي، ليقرّ أخيرًا، بأن السجن ما هو إلا مشهدية أولى، تنفلت عنه سجون عدة: سجون العزلة التي تكثر وتتضاعف، وسجون القيد غير المرئي وغير المحسوس: أبوابها "أقاصي الروح"، وثمة أيضًا، سجن أن لا تكون حرًا، وأن تستعد كل ليلة لمزيد من نزف دم أحمر، هو خلاصة لمشاهد الدمار والخراب والعويل والعزاء، في وطن بعيد، تأتي أخباره عبر نشرات الأخبار...

في سياق محاولات (فاشلة) لنسيان الراهن واليوميّ وأنباء الوطن، يتجه زكريا أحمد لابتكار طرق مغايرة، لم تخطر على بال أحد: "أن يغتال كل يوم شعورًا أو أكثر من مشاعره" المنهارة والحزينة والمكلومة والمنكسرة والبائسة، ورويدًا رويدًا، سيكتشف يومًا ما أنه لم يعد يشعر "بأي شعورٍ"، وأنه لا يفتقد "أحدًا"، أو "شيئًا" مما يؤرقه، ويضاعف من عزلته الروحية، دون أن يهتمّ لمضاعفات كل ذلك على جسده، وهكذا تستمر محاولاته، وصولاً إلى لحظةٍ (متخيلة)، سوف لن يشعر فيها بالاهتمام أو الشغف بكل ما يحدث. ولكي يحقق ذلك، وضع مقطع ختام لنص (يتوق فيه إلى عدم الإحساس بشيء، أو التفكير في شيء) اختار له عنوان "طريق العزلة"، وقد ركن إلى نهاية مرتقبة لعذاب يوميّ: (ستعيش بروحٍ ميتةٍ/ لن تحاول تفادي رصاصةٍ/ تسعى لاختراق جسدك/ لأنك إن فعلت/ لن تبلغ العزلة/ وأنت لست حرًا، بعد).





استذكار
...

يتذكر الطفل ذو اليدين المُدمِّرتين (في أحد النصوص) كيف أن أمه كلما ذبحت دجاجة أو خروفًا، أخذ يبكي، غير أنه لم يكن يدري، أنه حين يكبر، سيصبح شاعرًا في منافي الثلج، وسيرى بأم عينيه، دماء البشر "تسيل في شوارع ما يسمى بالوطن"، عبر شاشة تلفزيون مسطحة صغيرة، لا ترحم ولا يجف نبع دمها...

مجبرًا، مثل آلاف السوريين، سلك الشاعر، طريق النزوح والتشرد، وهي طريق أشبه بأرصفة من نار وبرد... ففي أوج اشتعال الحرب، قطع دربًا قاهرًا، قبل أن يصبح لاجئًا بعد ذلك، في ألمانيا، حيث يعمل (الآن) متطوعًا في أحد المستشفيات هناك: يومياته تزداد وجعًا وحنينًا وغربةً، بعد أن كان يعتقد أن الهروب من مجرم كبير (من أرض الوطن)، سيكون حلًا، وسينهي معاناته وأحزانه، حتى وإن لم تتوقف الأنباء القادمة من هناك، التي تحمل شرارات الدم وأخبار الدمار والموت، كما أن أحواله في بلد اللجوء، ليست مهيأة تمامًا، وتضفي المزيد من الشعور بالغربة والتشظي.

(الشاعر الحقيقيّ في نزفٍ داخليٍّ دائم....)، ولهذا، فزكريا أحمد، يبرر (في أحد النصوص) أنه لم يكن يحلم أن يكون شاعرًا، لأنه لا يريد أن يكون في بكاء وقلق وشرود، بشكل دائم، كما يقول، غير أن قدرًا (جميلًا) هو ما يأبى إلا أن يجعل منه شاعرًا، لكي يستنطق خفايا ما لم تقله (بصيغة علنية مباشرة) الحرب، وما لم يقله القتلة للضحايا، وما لم يقله "حطام سيارة مفخخة، للأشلاء"......

اشتباك مع القارئ

كتابة تندلع كبراكين، وقصائد تشتعل كأرض قتال، وتقنية مبتكرة في أكثر من نص، يتحدى فيها القارئ، كأن يقول له في تنويه مختصر يتصدر أو يتذيل النص، تارةً: "من فضلك، اقرأ النص من الأعلى ثم من الأسفل"، وحينًا: "انتهى النص/ الآن أعِد قراءته من الأسفل إلى الأعلى".

وفي حين افتتح المجموعة بنص يشتبك مع ما يشبه سيرة طفل كردي سوري، سيصير لاجئًا في بلد الثلج (أوروبا) لا بيت له ولا وطن، ينهيها بحالة من الاستسلام: كائن قلق ومتشرد، يجد في نهاية الأمر أن الحياة، ينبغي أن تكون بسيطة، فتعقيدها يزيد الروح تشظيًا، ولهذا فهو يقترح أن نكتب "بأبسط الكلمات، وأوضحها" وإلا ما معنى أن يكون الإنسان إنسانًا، حتى وإن كان هناك من هو وحشيّ، وهناك أيضا من يبرر له الوحشية، فهؤلاء لا ينتمي إليهم البشر الطيبون، الذين يقبعون في بساطة الظل، دومًا، وهنا، يبتكر الشاعر دربه الأخير، بعد أن يئس من دروب الأماني: يذهب إلى "الظلام"، ليرى فيه ما عجز عن رؤيته في "الضوء"، الضوء الذي، للأسف، يقبع فيه "قتلة ومشعلو حروب وحرائق بشرية"، على حد تعبيره.

زكريا شيخ أحمد، شاعر كردي سوري، من مواليد قرية "معراته"- عفرين، 1972. أقام في مدينة حلب منذ سن الرابعة، وتخرج في جامعة حلب- كلية الحقوق، عام 1999. مارس مهنة المحاماة حتى عام 2012، وفي أواخر 2014، غادر سورية، متوجها إلى تركيا، وبعدها بعام، اجتاز "بحر إيجه" متجها إلى ألمانيا، حيث يقيم حتى الآن.

بدأ في كتابة الخواطر والقصص القصيرة والشعر، منذ عام 1988، بشكل متقطع. إضافة إلى مجموعته الشعرية الأولى "ضوءٌ هناك"، يعد حاليا لطباعة ديوان شعري بالعربية والألمانية، وله رواية جاهزة للطبع.