Print
ليندا نصار

"قبر في الأرض قبر في السماء"..الكتابة منفذ الذات المتألّمة

6 أكتوبر 2021
عروض




الشاعر وخصوصيّة عالمه الداخليّ

يقارب الشاعر يوسف الخضر العالم وفق التجربة المعاشة والمعاناة فيستمدّ منهما قوّة المعنى في قالب شعريّ، يعبّر من خلاله عن الذات المتألمة متّخذًا أطباعًا وشخصيّات تمتدّ منذ مرحلة الطفولة وحتى عمر الشباب. تعدّ قصيدة الخضر عملًا جوّانيًّا واستنطاقًا للذات التي تشحن اللغة الشعريّة وتهرب به إلى عالم الكتابة وكأنّه عالم متوسّط بين السماء والأرض: "أين أهرب وفي الأرض قبر وفي السماء" (ص 76).

يقول يوسف في أحد حواراته، عن العنوان الذي استوحاه لديوانه "قبر في الأرض قبر في السماء" الصادر عن دار أبعاد للنشر والتوزيع، 2021: "كنتُ في معظم الأوقات أسير شاردًا وموجّهًا نظري إلى الأعلى. وكوني كنتُ لا أزال طفلًا، لم أكن أدري أنّ هناك طرقًا أخرى غير الموت لبلوغ المدى، لهذا كانت تسحرني دائمًا فكرة النزول الى داخل حفرة في الأرض، ثمّ الخروج من جانبها الآخر إلى السماء".

تتجلّى تجربة يوسف الخضر ضمن تصّور شعريّ يستحضر فيه لحظات شعريّة كونيّة، يتعايش فيها مع حروبه الداخليّة بكلّ ما فيها من قسوة ومرارة، فطفل الشوارع شاعر مختلف عن الأطفال في مثل سنّه، وهو فاقد الحرية بفعل الخوف وضياع الأمان الذي يحقّ لكلّ أطفال العالم: "أيها الشعراء ليشقّ أحدكم صدري وليخبرني: من أين تنبع كل تلك المرارة".

القصيدة وترميم التشرّد

يسعى الشاعر إلى تضميد الذات المكتوية بالألم والتشرّد لترميمها والولوج إلى ذاكرة أخطأ فيها ميكانيزم النسيان عمله. فيوسف الخضر الذي جال الشوارع يسأل المارّة ويهديهم ورودًا في مواجهة الألم والرفض والصدامات المتكررة، هو الشاعر والإنسان الذي حفر فيه الحزن الذات المتشظية بالتمزّق الداخليّ، مع ذلك استطاع أن يخلق من كلّ ذلك شعرًا، خفّف عنه ما أصابه تحت مطر الشوارع وخوف الليل. "مطر على ملامح غربتي" ديوانه الأوّل الذي يمكن اعتبار هذا الديوان تتمة له، حمّله الشاعر لحظات اتّسمت بالوجع ورسمت استعارات استوحاها من الأرصفة المظلمة حيث طرح أسئلة الكتابة ومن المهمّش مثّل ما عاشه، فجال في أعماق لاوعيه ليخرج إلى عالم واع وكأنّ القصيدة جسر عبور نحو الوعي، ترافقه غربة امتدّت في الشعر معه منذ ديوانه الأول وحتى هذا الديوان.

"بلا موطن جئت يملؤني الحنين/ عائلتي الضياع وأبي التشرّد"

"قاسية الحياة كصفيح بارد أستلقي عليه/ لا الصفيح البارد يأخذ الدفء من قلبي، فيفتر. ولا قلبي يتخدّر فأنسى وأغفو"

"أمشي والخوف في عيني طفل، ذراعه مبتورة"..

يملك الشاعر مخيّلة طفل يعيش الدهشة الأولى في إدراكه الأشياء من حوله ويطلق العنان لمخيّلته التي لا يحدّها حدّ، فهي حرّة بالفطرة تتنامى بفعل الأحداث والقصص التي تمرّ أمامه في الشوارع. ربّما لا يريد هذا الطفل أن يكبر، أو أنّه لا يريد لمخيّلته أن تكبر وتغرق في هموم الحياة، فيترك الشعر. من هنا كان السعي إلى استعادة الطفولة المفقودة.

في مكان من الديوان يكتب الخضر:

كيف أكبر ومخيلتي لا تصلح إلا لطفل: يرفض أن يكبر..


 


اعترافات في ليل بيروت

لبيروت وشوارعها حصة كبيرة من قصائد الشاعر: "هنا وجه المدينة يرشح بؤسًا، هنا بيروت، وأنا... وحيد أصافح الموت بكفّي المثقوبة" (ص 12-13).

استطاع الخضر أن يكتب بحركة انطلقت من الداخل إلى الخارج والعكس. تراه يصف الشوارع وليل بيروت الذي أصابته تحوّلات الكآبة، ويصف ما يخالج نفسه من مرارة، جامحًا بخياله، موظّفًا حواسه على إيقاع ولّاعة سيجارة تحاكي حاسّة السمع أو دخان يسير على هدأة قصيدة تجعله يفكّر في أمّه ويطلب رحمة الله لعلّه يجد منفذًا يُنسيه حالة التشرّد وينتقل إلى مواجهة مصيره.  

يمثّل الخضر صوت كلّ شاب في مثل سنّه، حيث يواجه عمرًا يكبر سريعًا يركض أمام عينيه وتركض معه أفكاره. ومن تجربته الذاتيّة استطاع يوسف أن يعطي قيمة لهذا العالم تجسّدت على شكل القصائد.

هذه التفاصيل التي انتقاها الشاعر واستحضر بوساطتها ماضيًا بكلّ تناقضاته، جعلت من تجربته متفرّدة إذ يأتيك بالصور البعيدة عن المألوف، تراه كمن يلتقط عدسة ويوثّق الليل والشوارع والناس الذين أحبوه أو خذلوه في مكان ما من هذا العالم. إذًا، العالم الداخليّ بالنسبة إليه يحتاج إلى الصدق وهذا ما دعا الشاعر إلى صنع نصوص يضع فيها قارئه وسط أوراق من الاعترافات، تحمل الكثير من الانفعالات والعواطف.

يُبنى الديوان على درجة عالية من التوتّر يرافقه قلق الكتابة الذي يعيشه كلّ شاعر حقيقيّ لا يمكنه أن يطمئنّ ما دام في قلبه نبض. هذه الطاقة السلبية التي تسرّبت إليه من العالم، أثّرت في قوّة التعبير الشعريّ فبدت قصائده على درجة عالية من الجمال صنعت حياة تتناسل منها حيوات وثّقها في نصوصه، وهي التي رافقت حركته حيث السير في الشارع: المكان الثابت في مواجهة الزمان المتحرّك أو الفصول المتغيّرة، فوجد نفسه شاهدًا عليها.

استنطاق اللغة الشعرية

 تتّصل مفردات الديوان بالحياة اليوميّة، فالذات تستنطق العالم وتخلق لغتها الشعرية، فتسير اللغة وفق حاجة هذه الذات إلى التعبير عن أشكال الوعي. هنا المساحة تضيق كلّما اتسعت دائرة الوعي. فالذات الناطقة بالأحداث والممزّقة استطاعت إنتاج كتابة تتّسم بالحرّيّة في التعبير عن الأنا، وكلّما كان الاعتراف صادقًا، ازداد إبداع القصيدة لتتناسب مع رؤية القارئ وتحاكي عقله.

في قصيدة "لم يصل بعد" (ص7) يطلب الخضر العودة بالذاكرة ويحصي نجاته ويعدّ الموت خلاصًا من متعارضات الحياة: ما يحبّه وما يكرهه. فماذا تريد هذه الحياة أكثر من ذلك من بائع متجوّل؟

ملصق فيلم عن الشاعر يوسف الخضر للمخرجة غنا عبود



صورة الوطن والحرب والموت

يبدو جليًّا تأثُّر الشاعر بالحرب السورية واللاجئين الذين لم يستقبلهم كلّ العالم، بالنسبة إليه منهم من رحل لكنّه ظلّ في الذاكرة إلى الأبد.

يعيش الشاعر حالة الشوق المؤلم تجاه "الحسكة"، منطقته، فيقول: "وحدها الطريق إليك تسافر إلى الوراء"

وفي مكان آخر يكتب:

"الحسكة في بالي – عجوز  - لا تملك سوى الشتات --- والكون – كل الكون – يرضع من ثديها المتهدّل"..

يوسف الذي يدرك أنّ نشوة القنّاص في القتل، يراه باحثًا عمّن يتلقّى الرصاصة الأخيرة، تتمثّل الضحية في نفسه بمواجهة سفّاح سافل يريد التعرّف إليه.

يرى الشاعر المكان خرابًا وفراغًا يشعر بالانكسار وكأنّه يكبر في السنّ بسرعة بعد رحيل فارس الأخ الأصغر، والجزء المجروح من الروح الذي أخذته غارة في الحسكة بعد أن ترك بيروت: "إني أرى العالم بموتك دجاجة تقف على ساق واحدة فهل ترى أني شخت فجأة".

الكتابة والذات المتألّمة

الكتابة بالنسبة إلى يوسف الخضر صراخ بل هي عمليّة جراحيّة استأصل فيها كل ما في داخله وألقاه خارجًا، وها هو اليوم يقلّب صفحات الكتاب يلقي حرفيًّا نظرة على نفسه من الداخل كما يقول:

 "أمشي روحي تملؤني صراخًا"..

بعد كلّ ما أدركته حواسه جاءت الكتابة لتكون متنفّسًا له في عالم مشحون بالألم:

"ما كنت لأخرج من هذا العالم صامتًا / ما كنت لأدع هذا الألم يدفن معي".

وكما كل مبدع يعيش الشاعر حالة من مساءلة القصيدة، في محاولة البحث عن إجابات لها:

"إنني أكتب لأثبت للحياة أنها آذت كاتبًا ولم تؤذ شخصًا عاديًا".

"لذة الكتابة تشبه لذة التحديق بها"..