Print
أسامـة الصغيـر

"التيهـاءُ".. سيـرةٌ ذاتِيـة تُضـيءُ التاريـخ الثقافـي والسياسـي العـام

10 نوفمبر 2021
عروض

 


مَعالـم الكتابـة ما بعـد الحداثيـة

مَعروفٌ أن أطروحةَ ما بعد الحداثة سَعَت إلى نَزْعِ القُدسية عن عملية الكتابة، وحَطّمت صَنَم صورة الكاتب كما َتمثّلت في أذهان القارئ وفي أذهان الكاتب وهو يَتمَلّى ذاتَه، فجاءت هذه الحركةُ الفلسفية الفكرية بمَعاوِل النقض الإبستيمولوجي لمُساءَلَة اليَقِينِيات المعرفية الإنسانية وتَعرِية الخبيء من جوهر الكتابة، وهذا هو بالضبط ما نَعثُر عليه ونحن نَتفحّصُ كتاب "التـيـهـاء" لعبد القادر الشاوي (دار الفنك للنشر، 2021)، وهو عبارة عن تخييل ذاتي كما يصفه. إنه يَعرِضُ هنا شَطحات لُغوية، يُجرّبُ فيها تَفجيرَ أنساقِ اللغة، واختبار مَدى حِدَّتِها، وتَماسُكها، فهو كاتبٌ حِرِّيفٌ أثْخَنَتْه وأتْخمَتْه الكتابة، فقَعَدَ يُداورُها، يَعبثُ وإياها، يُقلِّبُ سؤالَ الجدوى من كل شيء، ومن اللغة أساسًا، فهي وسيلةُ الإنسان للعيش ومُواجهة أشياء العالَم ومُحاولةِ تَمَلُّكها، فالوعيُ بالعالم لا يُمكن أن يَتحقّق خارج نظام اللغة، إذن فالوعيُ هو اللغة.

لقد شيّدَ المؤلِّفُ مِعمار تخييلِه الذاتي، وما هو ذاتي، على أساس تَعدُّديةٍ صوتية، مُكَثَّفة، مُتداخلة، فإلى جانب صوت السارد الحاكي هناك على سبيل الإشهاد صوتُ ميسا الإسباني صديق الطفولة والدراسة، صوت باتريسو صاحب دار النشر آلتزارو، وصوت السيدة بيلار. إن هذه البوليفونية، سيما في الأجزاء الأولى من الكِتاب، تُصيب القارئ بالدُّوار، وهو ما يَنسجم تماما مع بِنية النص، فهو سردٌ استرجاعي بالذاكرة الصاخبة المُتداخِلة تُحاوِلُ القبضَ على شَتاتٍ من الخيوط والأحداث والتواريخ المُتداعية المُنشطِرة.

في مستوى آخر يَسعى المُؤلِّف لخَلْق الأُلفة مع القارئ، إذ يَسْتَجْلِبُه رُويدًا رويدًا إلى الانشغال الشخصي بالنص وشخصياته وأحداثه وغائِيتِه، وفي الصفحات الأخيرة يَفتح حوارًا صريحًا ومُباشِرًا مع القارئ المُنتظَر حول فعل الكتابة وجدواها في ظِلِّ استحضار سياق الكتاب الحالي، كما يفتح المؤلف حوارًا حول جدلية التضاد بين الذاكرة والنسيان بما أنه اختار لنصِّه جنسيةَ تخييل ذاتي. إنها جُرأة الكتابة ما بعد الحداثية، وهي تَتَجاوُز سِرِّية الكتابة وهالَتَها المَهيبة، وتَكشف إواليات المُمارَسة، فهي عمليةٌ أكثر شفافية وديمقراطية مع القارئ، فيها ضربٌ من مُساواةِ الذات الكاتبة مع المُتلقِّي. والملاحَظُ أيضا أن مُؤلِّف "التيهاء" يكتب بطريقة تركيبية، تَقطَع مع نَمطية السُّرود الذاتية التعاقُبية في تقديمِ المَشاهد والأحداث والأطوار، فنحن هُنا مع كتابةٍ بمِدادِ الذاكرة العصيّة عن الدياكرونية، كتابة تسعى لِرَتْق ما تَخرّم من سَدى الأحداث والواقع والتجارب، وتتطلّع لأن تكون سِلاحًا للمقاومة في مُواجهة الزمن كظاهرة فيزيائية قاهرة وماحِية.


تقنيـاتُ الكتابـة أو وسائـلُ التَّبليـغ السـردي

لأنه كتابٌ يَحتفي بالكتابة ذاتِها، ويُفرِدُ لها مساحة رَحْبةً للحضور والتَّجَلِّي، فالمُؤَلِّفُ، قد دَبَّجَ السيرة التيهاء بمَشغُولاتٍ سردية تقنية، وتَوْشِياتِ حَكْيٍ رَفَدت البِنيةَ الداخلية للنصَّ على مستوى الكتابة، فهو إضافة إلى بوليفونية الأصوات السارِدة الثَّرَّة، يَعتمد الخطابَ المَعروض، مثلَ الإيميلات الصادِرة من صديق العُمر عبد العزيز، ودومينيك ابنة الصديق العجوز فرانسيس، وهو الحقوقي في مُنظمة أمنستي الدولية الذي دافعَ عن الكاتب خلال محنة الاعتقال السياسي وآزَره حتى بعدَها، وتلك الواردة أيضًا من ميسا صديق الطفولة، فَضْلًا عن رسائل واردة عبر واتساب من الناشر باتريسيو وتدوينات فيسبوك، مع تَفاعُلات  الرُّواد المُعَلِّقين على مَضامينِها. كما نجد احتفاءً جماليًا بالتناص والميتانص السردي مع الكاتب الياباني هاروكي موراكامي عندما يُجري الكاتبُ مقارَنة ذاتية معه ويُجلِّل من خلالِها قيمةَ الاختلافَ، وأيضًا مع الكاتب الأرجنتيني لويس خورخي بورخيس حول مفهوم الذاكرة وأسئلتِها المُلتَبِسة. بل إن عبد القادر الشاوي يُوقِّعُ التناص مع ذاتِه في النصوص الأخرى مثل رواية "باب تازة"، و"دليل العنفوان". إنها أمثلِةٌ عن الحَوَامِل التقنية الفنية في هذا النص السردي والتي تؤكدُ الحضورَ الكثيفَ لشواغل الكتابة وهواجِسَ الذاِكرة المُتَشظِّية. في هذا الشأن يقول المؤلِّفُ "كوني من أنا، كوني، فترفضني لأنها لا ترى أي شبه بين ما عشته معها وفي كنفها وبين ما أكتبه عنها بين المحو والاستذكار"، ص 64. إنه تخييلٌ ذاتي، لأن الكاتب اختارَ لغة سردية فنية إبداعية لتقديم الوقائع، فيها مُخايَلات لُغوية وصور شعرية تَنْأى بها عن التوثيق الصِّرْف، لغة استعارية إشارية، بل إننا نَجدُه يُزحزحُ بِنية الجُملة وتركيبةَ الفَقرة اللغوية النصية، كأنه يبحث عن بِنية لغوية جديدة لِيُودِعَها الفكرةَ. بهذا الموقف، فالكاتبُ يُقنِعُ القارئَ بتجنيسِ النص على أنه تخييل ذاتي، أليس الاستذكارُ إعادةَ تأليفٍ قرينٍ بالتخييل، فكلاهُما، الذاكرة ُوالتخييلُ، يَنطلِقان من خَميرة الواقع، ويُعِيدان تشكيلَه، إذ لا يُمكن للتخييل أن يكون خَيالًا مَحْضًا، كما لا يُمكن للذاكرة أن تكون واقِعًا صِرْفًا، بل إنها ما تَقعَّر وتَرَسَّب في الذات واعتمل بشكلٍ لاشعوري مع الاستيهام كلما تقدّم الزمنُ. لذا فإن كلَّ ما يقوم به كاتب السيرة هو عمليةُ تأويلٍ عبر تِقنيات الذاكرة وإعادة كتابة الوقائع ليس كما حصلت تماما، ولكن كما أعاد الكاتبُ تَخْيِيلَها وتَذكُّرَها.




حين تصيـرُ الكتابـة وسيلـةَ إضـاءة

برغم أن الكِتاب جاء يحملُ رمزيةَ تخييل ذاتي، فإنه سيرةٌ جمعية، تنتمي للأدب السياسي الذي يُعالِجُ فترةَ ما اصطُلِحَ عليها "سنوات الجمر والرصاص" وتَداعِيَاتِها على الفترة الراهنة، فالشخصي هنا امتدادٌ للعام، والتجربةُ الفردية جزءٌ من التجربة الجماعية، بحيث تستعيدُ هذه السيرةُ ذكريات وأجواء كلية الآداب بالعاصمة الرباط أواخر الستينيات عندما دخلها الكاتبُ وافدا إليها من مَوطِنِه بشمالِ المغرب بعد أن أنهى المرحلة الثانوية وكان جُزءا من الحركة التلاميذية التي تطوّر في مَدارِجها وُصُولا إلى الحركة التقدمية. إنه يُلَملِمُ ما تَفكّك وتَناثَر من شَتات الذاكرة السياسية والثقافية، ويَتقَفّى المآلات والاتجاهات التي تَفرّق فيها رجالُ المرحلة.

إنها سيرةٌ استعادية فردية ومُشترَكة في آنٍ، يتقاطع فيها السياسي والثقافي، نَسمعُ من خلالِها صوتَ الفكر اليساري الجذري في مواجهة الفكر الاصلاحي الوطني، ونَستعيد صدى المَعارك الفكرية والثقافية على صفحات الجرائد والمَجلاّت، وصراع التراتُبِية المَجالية بين مِحوَر الرباط  الدار البيضاء، وجغرافيا الشمال، بعاصِمتِها الثقافية والسياسية تطوان، كما نكون في صميم التفاعُل المغاربي مع شؤون التجربة الثقافية المشرقية وشُجُونها السياسية عبر الشهادة العارية كما وصَفَها الكاتِبُ في سيرة الوعي وتَكوينية الرؤية إلى الذات والعالَم. إن الماضي مُستمرٌّ في أوْصال الحاضر الجَمعي، ما نَعيشه اليومَ يجدُ جذورَه التاريخية في الأمس القريب، من هنا تأتي ضرورة مثل هذا التحليل السردي الاستعادي، لأن الكاتِبَ بهذا التخييل الذاتي إنما ُيقدِّم تَحلِيلًا للوضع الذهني العام ثقافيا وسياسيا، فَمَهْمَا قيل عن الذاتي، إلا أننا كما سَبَقَ القولُ أمام سيرةٍ ثقافية وسياسية للجماعة المغربية من منظورِ التجربة والتأويل الذاتي للكاتب.

علـى سبـيل الختـام

كمن تَجرّد من ذاته، يَقِفُ عبد القادر الشاوي مُتأمِّلًا شريطَ حياته الفردية الجماعية، يُؤول أحداثَها، وحتى وإن كان الكِتابُ يحمل اسمَ تخييل ذاتي، فهو كِتابٌ عن الآخرين، يتأرجَح ما بين العِتاب، الكَشْف، وحِفْظِ الود، والانتصارِ للمُصْمَتِين في مرحلةٍ من التاريخ السياسي والثقافي الجَمْعي، إنهم أولئك الأَخْفِيَاء مِمّن ماتوا صامِتين خُرَساء عن القول. في مُستوى آخر، يبدو أن الكاتب يَكتُبُ عَزاءً ومُواساة لذاتِه ولجِيلِه الذي يعيش الحاضرَ في حالةِ اغترابٍ، وخَيْبة، جيلٌ يَجلِسُ مُنْدهِشا مَكسورَ الخاطر، غير مُصدِّق البَتّة أن هذا هو المغرب الذي أفنى العُمرَ لأجلِه، والتحَم مع أحلامِ تقَعُ على خطوط التماس الحمراء في سنوات الجمر والرصاص. إنه كتاب مُنْفلِتٌ عن المُواضَعات المُتعارَف عليها في المَسرود الذاتي، يُقدِّمُ صياغاتِ الذاكرة بمَذاقِ التخييل عبر تِقنياتِ التحوير بالزيادة أو بالنُّقصان، وتأخيرِ أو تقديمِ الوقائع والأسماء، مُتوسِّلًا في ذلك لغةً جمالية رفيعة، فحتى مع صَلافة المَسرود وعُنْفِ المَقول في بعض المقاطِع من زمنِ القَمع، فإن الوسائلَ التعبيرية للقَوْل قد انتصرتْ على قُبْحِيات المَقول بالأَفانِين التعبيرية البديعة، ومَنحت "الـتيـهـاء" تاجَ الإدهاش الجمالي.