Print
صدام الزيدي

"كن شاسعًا كالهواء".. تعالقات التشكيليّ مع الشعريّ

14 نوفمبر 2021
عروض

يقدم الناقد والأكاديمي العراقي المقيم في الولايات المتحدة، حاتم الصكر، دراسة نقدية مهمّة حول الأعمال الأخيرة التي ضمّتها دفاتر مواطنه الفنان التشكيلي العراقي غسان غائب (بغداد: 1964) الشعرية، المعتمدة على التركيب والفن المفاهيمي لمستلّات من قراءاته الشعريّة المتنوعة، في كتاب صدر حديثًا عن دار "الأديب للنشر" ـ عمّان، حمل عنوان: "كن شاسعًا كالهواء"، وهو بيت لجلال الدين الرومي، أحد الشعراء الذين تعالق معهم غائب فنيًا.
في سياق البحث عمّا هو بصريّ، في أعمال فنان يمتلك حاسة شعرية عالية، يمعن الصكر، بالبحث والتحليل، في كشف "تعالقات التشكيلي مع الشعري"، في دفاتر غسان غائب الشعرية، ضمن كتاب يمكن اعتباره منجزًا مشتركًا بين ناقد وفنان، امتد على 271 صفحة، محتويًا ألبومات لونية قوامها يزيد عن 280 عملًا بصريًا، كما أن ملخصًا للدراسة، وأيضًا سيرتي الصكر وغائب، احتواهما الكتاب بالإنكليزية، من يسار صفحاته، بترجمة العراقية خالدة حامد.
يفتتح الصكر الدراسة، لافتًا إلى أنه، بمعاينة دفاتر غائب الشعرية التي قام بتنفيذها في السنوات الأخيرة بأشكال خاصة، "سنرى بالتحليل أنها تنتمي لتقنية الكتب، وتُلازم القصائد المختارة بأشكال من التعالق". كما أوضح المقصود بالتعالق وكيفياته، وصلة ذلك بأسلوب غائب في تنفيذ تلك الدفاتر بأحجامها المتراوحة بين المصغرات الدقيقة، والألبومات الواسعة.
أما الممكنات التي أوصلت غائب إلى تجاربه الأسلوبية الأخيرة، والتي تعدّ مهيمنات أسلوبية ورؤيوية، معًا، في أعماله: فمن أبرزها، بحسب الناقد الصكر، تفاعله مع المناهج والمقترحات الحديثة المتجددة في الفن التشكيلي، تعزز ذلك ثقافته المتنوعة في الأدب والثقافة والنصوص الشعرية والفلسفية، لا سيما الإشراقية منها، والمتصوفة بوجه خاص.

صهر المرجع الشعريّ

من رسومات كتاب غسان غائب 


اقتصرت الدراسة على قراءة الأعمال التي تصهر المرجع الشعري في كيان جديد يغاير وجودها الأول كمدونة كتابية، مكانية النشأة والمصدر، وصوتية جُملية لغوية في جيناتها، انتزعها الفنان من سياقها الأول، ليهبها وجودًا عبر تشكيلها بكيفيتين بارزتين: الأولى، تمثل وجودها مسطورة مقروءة لتتعالق بشكل نفي جزئي، كما تسميه "جوليا كريستيفا"، مع التشكيلي المعروض للمعاينة البصرية: أي أنها لا تحتفظ بهيئة مستقلة تمامًا، ولا تُمحى كليًا. والثانية، التي يكون فيها العمل الفني المتعالق بعيدًا عن المرجع الشعري، فينفيه كليًا في تناص فائق البعد عنه. ويقصد بالتعالق: توسيع للتناص التقليدي الذي يعني مدرسيًا حياة نص في نص آخر. لكن الشعري المستعار في التعالق البصري، ينوه الصكر، خاضع لإكراهات كتابة الفن الشعري وإيقاعاته ولقواعده وحدوده.




وهنا، يقرأ الصكر أعمال غائب، بكونها خروجًا عن المتحفية في الفن وطرق التلقي جذريًا: أعمال "لا تخلو من غرابة ما على مألوف التلقي البصري". وثمة ما يشير إليه الصكر بـ:"الإصطفاف الجديد في الرسم"، وهو، في تجربة غسان، لا يتم على وفق الانتماء للانطباعية أو التجريد مثالًا، قدر الحرص على أن يكون "اصطفافًا بحسب الوعي بالرسالة" التي يريد الفنان إيصالها، لا بمفردات نصية على السطوح فحسب كتعالق مع الشعري المكتوب، بل بموقف متكامل من الحياة وما يتصل بها. وتكون النصوص الشعرية مناسَبَة لهذا الإعلان عن التصور والرؤية.
ومن هنا، فلا غرابة، يتابع الصكر، أن يختار غسان غائب نصوصًا للتعالق ينظمها وعي بالحداثة والتجاوز من جهة، وحملها لأفكار وهموم وتجليات إنسانية، فعكف بسبب ذلك على إنجاز تعالقات مع المكتوب يكون المرسوم فيها مرجعًا بصريًا لتلك الكتابة التي لم يتوقف فيها عند الشعر الحديث والمعاصر، كتجاربه في رسم أعمال متعالقة مع قصائد أو كِسَر من نصوص الجواهري، ومحمود البريكان، وبلند الحيدري، وسعدي يوسف، ورشدي العامل، وموفق محمد، وصلاح حسن، وعبد الأمير جرص. وتراثيًا من المتصوفة، كابن عربي، وجلال الدين الرومي. وذلك، يستدعي متطلبات عدة من أبرزها: البحث عن مرجعيات جدية للعمل. إلى ذلك، دفاتر غسان غائب الشعرية، يمكننا أن نعاينها بكونها "مشروعات كتب" تتآزر فيها الأبيات، أو الأسطر الشعرية، لتكتمل الأعمال تركيبيًا لا تعبيريًا. فالدفاتر لا تقترب من مادتها الشعرية كرسوم توضيحية ترافق المكتوب، بل إنها تتنازل عن تلك المهمة لتصبح "طرف معادلة بصرية" معًا.


من التشكيلي إلى البصري

من رسومات كتاب غسان غائب 


انشغل الصكر، في معاينته لدفاتر غائب الشعرية، بالبحث عمّا هو بصري كونه توسيعًا مماثلًا للتشكيلي. وفي سبيل ذلك، يلحظ أن الفنان يماهي الشكل بالمهمة البصرية لا التشكيلية. وهذا يفسر الأشكال المتدرجة والصفحات والدوائر وغيرها مما يتحدى المعاينة البصرية للمتلقي، الذي تُستنفر مخيلته ليندمج في أفق الأعمال المتعالقة مع مرجعها، أمام ابتكارات بالمعنى الأسلوبي يأتي بها غائب، مفاجئًا ذخيرة قراءة المتلقي البصرية. ويلحظ كذلك تحقق فكرة الانتقال من التشكيلي إلى البصري، من خلال استضافة الدفاتر لمواد مختلفة بعيدًا عن سيطرة الألوان وحدها على السطح التصويري. فالفن المفاهيمي (التصويري ـ التركيبي)، ينوه الصكر، لقد طوّر من فكرة خروج العمل إلى تقنيات التلصيق ـ الكولاج ـ تاركًا للمتلقي استخراج الدلالات والرسائل البصرية من انتظامها في العمل، ليفك شفراتها ورموزها وإحالاتها وتعالقاتها.




وفي السياق، يشير الصكر إلى الفنان شاكر حسن آل سعيد، بوصفه أحد مراجع غسان غائب ومؤثراته في الوعي بالفن، كما يصرِّح غسان، وكما تشي أعماله. وغسان هنا، ليس استثناءً عن فناني جيله، في استيعاب واستلهام فكر شاكر حسن التشكيلي، لكن تفرده عنهم يكمن في أنه فهم الوظيفة الرمزية للدلالة في الأعمال البصرية، والحرية التي يهبها التجريد، وما تتيحه قراءة المنجز الثقافي الموازي للعمل الفني: الشعر في حالة غسان، مع بعض المؤثرات الفلسفية، كما في عمله عن طاعون ألبير كامو، مثالًا، لقراءة بصرية لدلالات روايته.
وغسان غائب، يتابع الصكر، كونه تجريديًا رمزيًا، فإن صلته بالشعر تستكمل رؤيته التشكيلية، إذ يجد في الملفوظ الشعري ما ينجده في توصيل رؤيته: "نصوص بصرية بهيئة متماهية بالوجود الشعري للكلمات". دلالات الأشعار تيسِّر المهمة الفنية لدى غسان، لا سيما وهو قارئ شعر بوعي حداثيّ، يميز الملفوظ الشعري ويعي رمزيته وخطابه، فكانت القصائد، غالبًا، إشراقيّة تصوفية تقترح معراجًا للروح تليق به الأشكال المصنوعة من مواد متنوعة، أو إنسانية تحفر في الوعي المستلب للإنسان ووجوده المهدد، وتنشد الحرية والعدل المفقودين في العالم.
ويلاحظ الناقد الصكر: "عدم وقوف غسان غائب عند حدود منهج أسلوبي، أو طريقة واحدة في المعالجة البصرية". لهذا فهو يقدم نموذجًا متكاملًا في اقتراح علاقة انصهارية يندمج فيها العنصران "الشعر والمقابل البصري له"، مستفيدان من وجود عناصر مُستلفة يُعاد تشكيلها بهيئة بنائية في المتن لا على هامشه. تجريب يضيف حرية أخرى للفنان غائب بجانب المتاح في تنفيذ العمل نفسه وشعريته، ويتجسد ذلك، في استثماره للمخيلة، التي تعمل بحرية وتجلب فضاءات تصوّرية لإنجاز تراتيب المجسمات التي أخذت أشكالًا عديدةً بتجاوز مستويين، أحدهما "فني"، حيث يتموضع العمل ببنيته المقترحة خارج التقاليد المعروفة في الرسم: عدم وجود لوحة ذات عناصر متجانسة تقليديًّا. والآخر "جماليّ"، حيث يتم استفزاز نسقية التلقي المباشر والمألوف.

مرجعٌ عشقيّ/ هالات قداسة
بعد مقدمة موسعة قليلًا تلخص أهم مضامين ومآلات الدراسة، يقرأ الصكر تعالقات التشكيلي مع الشعري، في أكثر من 40 دفترًا: عدة هيئات دفترية وكتبًا يصنعها غسان غائب منطلقًا من "بؤرة إشراقية"، لا سيما في قراءته البصرية لأشعار وكلمات جلال الدين الرومي، إذ وجد فسحة تأملية أخرى، وفرصة مناسبة لعرض معراجه الروحي والإنساني، محققًا "رؤية متسعة عن جماليات الفن"، تعتمل في داخله كفنان: مع الروميّ، وجَدَت روح غسان فسحتها للتحويل البصري للمرجع العشقيّ والرغبة بالتفاني في المحبة الروحية، والعروج إلى الدرجات الممكنة تصوفًا لبلوغ المقصد، وتماثل ذلك "تهجّدات لونية" تتدرج من الشفافية إلى العمق اللوني المغلف بهالة القداسة.


دفاتر محبّة...

من رسومات كتاب غسان غائب 


وفي شعر بلند الحيدري، يشد غائب "الطابع الحلمي"، متعالقًا مع حنين الشاعر، باختياره قصيدتين لبلند، هما (حلم بالعودة)، و(الحلم القديم). وفي هذا الدفتر، ربما وجد الفنان نفسه في حلم مطابق لما حلم به مواطنه المنفيّ "بلند الحيدري"، فأسلم أوراقه لهذه التهاويل اللونيّة الشجيّة. ومن شعر الحداثة، يتعالق الفنان بحاسته الشاعرية مع محمود البريكان، منجزًا أكثر الدفاتر غنىً في عدد الصفحات، كما في القصائد، ملتقطًا ما تختزنه السردية المشهدية من الصور الشعرية والتراكيب والإيقاعات، فضلًا عن الدلالات الإنسانية.




وفي دفتر غير معنون، أسماه الصكر "دفتر الحب": يقود الحب خطى غسان غائب إلى فضائه، ممهورًا بإهداء بخط يده، إلى الحبيبة الغالية "نجمة"، زوجته. وغير بعيد، في دفتر محبة آخر هو "إلى أمي" (2011)، يقدم الفنان تنويعًا على الحب يعيد الغنائية إلى العمل، مصحوبة بطمأنينته، والتي لا تمنحها إلا الأم، فهي "كتاب الحياة".
وحين يقدم غسان عملًا للشاعر موفق محمد (باب الأبد) تزداد المأساة قتامةً، حول المقابر الجماعية التي تم الكشف عنها بعد سقوط النظام الديكتاتوريّ في العراق.
وكما تفعل بالضحايا رصاصات القتلة، ينجز غسان دفتر "الفراشات السوداء". وفي نص سعدي يوسف (كتاب من نسخة واحدة ـ باريس، 2005)، يطفئ غسان بريق الألوان، جاعلًا منها أكثر خفوتًا، ذلك لأن نص سعدي يقدم الغياب كثيمة أساسية في دلالته.
وفي عمله الدفتري من شعر محمود درويش، يتصادى مع عنوان قصيدته: "لوحة على جدار": ينفيها نفيًا تامًا خلال تعالقه معها، باستثناء الإحالة العنوانية، وقد أعطاها شكلًا مفتوحًا ليوحي بهيئة الجدار. ومن ناحية، ترميزًا للعذاب الذي تقدمه القصيدة عن "هيروشيما"، وتأكيده بتكرار عبارة: (وعلى الحائط تبكي هيروشيما)، وفي ذلك "تفاصيل الخسارة والفقد"، بتقديم الفنان مشهدًا جداريًا معتمًا.
وفي دفتره عن أبيات من قصيدة: "يا دجلة الخير"، لمحمد مهدي الجواهري، يتخذ الدفتر شكلًا بيئيًا، تغلفه مادة تبنيّة، حيث غلاف الحصير وقصبة الحيف/ التقشف واستذكار طبيعة مائية: دلالات النهر الذي يعد رمزًا لدى العراقيين.
ويعرِّج الصكر، على إسهام السورياليين، في العصر الحديث، بتوثيق العلاقة وتجليها بين الشعر والرسم، وربما الفنون المجاورة كالسينما. وأيضًا ما ينقله الرسامون من تقنيات شعرية ليست الحروفية إلا مقدمتها الأبرز، والتي هي الأخرى "تعاني بضع أزمات ذاتية وموضوعية"، على حد تعبيره.
وإذا كان الرسم فنًا مكانيًا والشعر فنًا زمانيًا، فإن لقاءهما المتبادل يتيح انفتاح النصوص البصرية والكتابية وإيقاعاتها. وفي المجمل، ينوه الصكر، أن صلة الشعري والتشكيلي ـ في الخطاب والنصوص والتلقي ـ ما تزال مجال بحث ودراسات تطبيقية.
أفتتح الكتاب بإمضاء سريع لغسان غائب يحيّي فيه صديقه الفنان العراقي ضياء العزاوي، لجهوده في دعم وإغناء تجربة الدفاتر الفنية وجعلها سياقًا ثقافيًا ساهم في إثراء الذائقة الفنية. وثمة إهداء من غسان: إلى زوجته: "نجمة"، وأولاده: فهد؛ يوسف؛ ميثم. وأيضًا، عبارة مقتبسة لمحمود البريكان: "إقرأ ظلال اللون، تلك التي بلا لغة".
مستخدمًا أدوات مختلفة على ورق، وعلى خشب، ونحو ذلك، أنجز غسان غائب (دبلوم فنون جميلة ـ 1986/ بكالوريوس فنون جميلة ـ 1997، وجوائز فنية عراقية: 1987 و1996 و2000) دفاتره الشعرية، خلال الفترة 2000 ـ 2021، وهي وفق ترتيبها في كتاب الصكر النقدي، تبدأ بدفتر: "المومس العمياء" (2000)، وتنتهي بـ"مصغرات" (2021)، ومن بينها كتب شعرية، ومجموعات خاصة.