Print
عمر شبانة

لجوء الفلسطيني السوري.. ليس أقلّ مهانةً من لجوء النكبة

19 نوفمبر 2021
عروض

 

  


تفتتح الباحثة والكاتبة الفلسطينية/ السورية مجد يعقوب كتابها "في عراء اللجوء.. يوميّات مراكز الإيواء" (دار فضاءات، 228 صفحة، 2021)، بعبارة جان جاك روسّو "يولد الإنسان حرًّا، ولكنّه في كلّ مكان يجرّ سلاسل الاستعباد"، فنحن حيال كتاب عن الحرية والعبودية. وإذا كنا سنقرأ الكتاب من عنوانه، فإن مفردة العراء ستحيلنا إلى كل ما تحمل من معانٍ ودلالات، ومن إيحاءات وعلامات، تبدأ بحال العُري وما تحمله بدورها من المعاني والمشاعر والأحاسيس، وما تحيل عليه من الانكشاف والفضيحة والضعف، من جانب، وما تشير إليه من معاني الصدق والوضوح من جانب مقابل، فتتداخل العناصر التي تنبثق من هذه الكلمة- العبارة، وتتشابك الصور والوقائع في مزيج يجمع الواقعيّ بالمتخيّل والفانتازيّ. وتزداد التشابكات تعقيدًا مع ارتباط العراء باللجوء الذي بدوره يحمل المعاني المتقابلة حدّ التناقض في كثير من الأحيان. 

كتاب "في عراء اللجوء.. يوميّات مراكز الإيواء"، يضعنا في مثل هذه المناخات من تداخل الأضداد والمتناقضات وتشابكها، سواء على صعيد المفردة ومعانيها، أو في مستوى احتواء المفردة على نقيضها في السلوك الذي يسلكه القائمون على عملية "اللجوء"، التي هي في الأساس عمل إنسانيّ يُفهم أنها عالية المستوى ودقيقة التنظيم، لكي تستحقّ مضمونها القائم على الاستجارة والبحث عن ملجأ، لا أن يستجير اللاجئ "من الرمضاء بالنّار"! وهو ما تسرده علينا الكاتبة في نصوص تنتمي إلى عالم السرد القصصي والروائي، من جهة لغة السرد وخلق الشخصيّات والحوادث المؤثّرة حدّ البكاء في كثير من المواقف.

ومنذ البداية أيضًا، تقدم المؤلّفة اعتذاراتها إلى عدد من الأشخاص الذين تأثّروا، على نحو ما، بلجوئها، وهجرتها، فنقرأ "اعتذار: إلى ولدي محمّد.. لا أعرف أنّ مراكز اللجوء مُهينة ومُذلّة إلى هذا الحدّ. إلى ريتا حفيدتي: لا تصدّقي أنني بتلك القسوة لأتركك وأنتِ في شهورك الأُوَل. إلى عناة وعشتار.. بُنيّات، كنت أظنّ أنّكنّ كبُرتنّ بما يكفي، غفلتُ عن أنكنّ ملتصقات بي إلى هذا الحدّ. إلى ظبية خميس (الكاتبة الإماراتية).. صديقتي، موجِع أن أسير في دروب وعرة وحيدة من دونك".

تكتب مجد سيرة روائيّة، أو رواية سِيرِيّة عن رحلة هجرتها ولجوئها، ومنذ البداية نحن حيال سرد روائيّ، حيث هي وابنها (وتصرّ على الحديث عنه في صيغة "ولَدي" وليس ابني) في حافلة تتّجه إلى مركز "التسليم" في ملجأ براون شفايغ، بعد رحلة من التجهيز للسفر والمطارات والمهرّب الذي "استأسد علينا بشكل وحشيّ مخيف، وخلّصنا مما تبقّى معنا من المال، وتركنا وحدنا في محطة القطار ومضى ونحن لا نعرف إلى أين نسير وكيف؟". ومنذ هذه البداية نشعر أننا حيال "نكبة" ما.

خيارات أحلاها علقم

في كتاب مجد يعقوب هذا، نقف على "نكبتَين" و"لجوءَين"، فمن نكبة العام 1948، وما نجم عنها من لجوء كارثيّ (أوّل)، هو بالنسبة إلى المؤلّفة هنا لجوء أهلها من قرية "طيرة حيفا"، إلى سورية- فمخيم اليرموك الذي أطلقت عليه هنا أيضًا اسم "عاصمة الشتات الفلسطيني"، وهو عنوان كتاب لها صدر قبل سنوات، ويعتبر اليرموك هذه العاصمة التي تضمّ أكبر عدد من اللاجئين الفلسطينيين، من بين عشرات المخيمات المنتشرة في سورية والعالم العربي، فضلًا عن الفلسطينيين المشرّدين في أربع جهات الأرض. وهي هنا تسرد ما روَته والدتها واللاجئون عمومًا عن هذه النكبة/ اللجوء.. وما لاقوه من ذلّ التشرّد ومهانته.

اللجوء الجديد، بحَسْب المؤلّفة، لا يقلّ مهانة وإذلالًا عن اللجوء الأوّل، وهو لجوؤها مع ابنها إلى ألمانيا، بعد أن ضاقت بها الدنيا في مكان إقامتها وعملها، في دولة الإمارات التي جاءتها شابّة وأمضت فيها أكثر مما عاشت في سورية التي باتت منذ عشر سنوات غير قابلة للعيش، مجرد العيش. فكان خَيار اللجوء إلى ألمانيا من بين خيارات أحلاها علقم. وهو خيار سيبدو لها، ولنا نحن قرّاء هذه "التجربة" في اللجوء، مبعث ندم حيث لا ينفع الندم، وها هي من وسط هذا العالَم تكتب بكلّ حرقة ووضوح من "عراء اللجوء"، عراء "صحراء اللجوء" الواقعة في مكان هو جنّة في ما يخصّ أهله وسكّانه "الأصليين".





منذ البداية، أي منذ المعسكر- الملجأ الأوّل، أخذت تظهر على مجد، وعلى ابنها أكثر منها، مظاهر وآثار الانتقال وتحوّلاته؛ من حياة "الاستقرار" ضمن علاقات وحياة ذات طابع اجتماعي مألوف، بكلّ سلبيّاتها ومشكلاتها، إلى حياة التشرّد والانتظارات المملّة والمُهينة في كثير من الأحيان. فمن الملجأ الذي يفتقد إلى الشعور بالاستقرار والاستقلاليّة، إلى الغرفة الكئيبة، والحمّامات والمطابخ والمطاعم المشتركة لسكّان بناية تضمّ عشرات العائلات المختلفة من حيث اللغات والجنسيّات والأعراق والأديان والخلفيات الاجتماعيّة المتباعدة، اختلافات ليس من السهل التعايش معها بالقدر الكافي من التفاهم والتوافق.

 

الأشدّ مهانةً

ومع مشاعر "الرّفض" التي تصيب ابنها الشابّ، وشعورها بعدم القدرة على تحمّل المآلات التي تظهر تباعًا، تنفتح ذاكرة الكاتبة على حكايات وقصص النكبة الأولى التي سمعتها من "الأمّ"، وتتوالى مشاعر الندم وتتكاثف وتتكاتف مع سوء أحوال لا مخرج منه، لها هي التي وعدت ابنها بلجوء يؤمّن مستقبله التعليميّ (الجامعيّ) والعمليّ، ويؤمّن لها معه معيشة أفضل، وقد تركت خلفها ابنتَيها، لتحصل على وعود بحياة تحترم إنسانيّتها مع تقدّمها في السنّ، هي المولودة في مخيم اليرموك عام 1971، وتعلّمت وحصلت على شهادات عليا، وعملت في حقول شتّى، وباحترام وتقدير كبيرين.. وهي الآن تجد نفسها وابنها في هذه الحال من "التشرّد"، تنتظر الإعانة الشهرية لتحصل على ملابس وسجائر وقهوة ومثلها الكثير من الأساسيّات.

ومن معسكر لجوء، إلى ملجأ أفضل، فإلى بيت للّاجئين أفضل من سابقه، وصولًا إلى البيت المستقلّ لها ولابنها، تروي وتسرد وتحكي عشرات المواقف غير الإنسانية التي مرّت بها، ويمرّ بها كلّ لاجئ ريثما يحصل على "مرتبة الإقامة الدائمة"، فحتى لو تميّزت هي بإقامة "كاتبة"، وهذه هي الإقامة الأفضل بين "مقامات" اللاجئين وأحوالهم، إلّا أنّها ستظل "لاجئة بنت لاجئين" كما يمكن أن نصف "حالتها". وحتى وهي، كفلسطينيّة/ سورية، تتمتّع بأفضل فرصة للحصول على حقّ الإقامة، وحتى لو حصلت على احترام وتقدير بعض العاملين والعاملات في شؤون "طالِبي اللجوء"، فإنها تظل خاضعة لقوانين اللجوء وشروطه القاسية.

كتاب مجد- روايتها هذه- جديرٌ بأن يتحوّل فيلمًا، عملًا دراميًّا تراجيديًّا ساخِرًا، بل عبَثيًّا، يمزج اللحظة الرّاهنة بنكبة عام 1948، هذا الربط الذي تقوم به المؤلّفة في غير موقع من هذا الكتاب، نقرأ ذلك منذ وصولها مع ابنها "ملجأ بادفولنغ بوستيل" واستلام "بُقجة" مربوطة، والولوج إلى المبنى المخصّص.. الغرفة "الزنزانة"، حيث تأخذ تتذكّر "الملاجئ في مدارس الأونروا.."، وفلسطينيا من مخيم اليرموك في حراسة مركز اللجوء "النزر اليسير من الأمان"، وترى أنه "في انتظار قرار اللجوء"، لا شيء سوى "الفراغ والتخوّف من كل شيء، والحذر من كل شيء، الجميع هنا يتحاشون بعضهم.."، وحيث الملجأ "مشفى للمجانين.. أو مأوى للعاجزين وكبار السنّ.."، وتخاطب ابنها بثقة عالية بما هما عليه من حال، فتقول "رغم أنك ولدت في دبي، نشأتَ وترعرعت هناك، هذا لا يعني أن صفة لاجئ قد سقطت عنك، فأنت فلسطينيّ، لاجئ أينما كنت".

نتوقّف عند مشهد الانتظار أمام المطعم.. وهو الجوع والمجاعات، وفي استراحة ما بعد الغداء تغمض عينيها فترى أمّها "في طابور استلام الإعاشة..". تتحدث عن الملجأ الذي "كان معسكرًا للبريطانيّين بعد الحرب العالميّة الثانية.."، وعن الألمان والتحقيق الاستخباراتي الذي يُجرونه معها، لتكتشف أنهم "يعلمون تمامًا ماذا حصل في مخيم اليرموك..". وتتداخل قصص الذكريات من خلال الحاجّة بهية الأبطح (أم عادل)، وحكايات قرية الطيرة.. مع الموقف الوطني في مخيّم اليرموك بوصفه الأكاديمية الوطنية.. التي تُعلّم "حب فلسطين وحلم العودة.."، مع الحديث عن سورية بوصفها "أم الفقير"، والسوري "محب الحياة بأبسط التكاليف.. وأكثر شعب حضاري على مر التاريخ.. فتح يديه وقلبه لكل من دخل أرضه واستجار به.."، وربط هذا كله مع الموقف السياسيّ من اتفاق أوسلو الذي تسمّيه "الشرخ الكبير" في الهويّة، والأحوال الأشدّ كارثيّة في غزّة.

هذا كلّه وسواه الكثير ممّا يجعلها تضع في بطاقة "هويّتها" الأخيرة: مقيمة في هانوفر، مواليد مخيم اليرموك 1971، من طيرة حيفا.. والختام!