Print
محمود عبد الغني

معرفة الصورة بين النقد والفن والفلسفة

2 نوفمبر 2021
عروض

 


البرادايم الأيقوني بدل البرادايم اللساني

يعود محمد نور الدين أفاية إلى الصورة والمتخيل في عام 2021، عبر كتابه "معرفة الصورة في الفكر البصري، المتخيل، والسينما" (المركز الثقافي للكتاب)، بعد أن كان قد أصدر في المفهومين معًا عدة كتب تلقاها الباحثون العرب بالتحية والتقدير، نذكر منها: الخطاب السينمائي بين الكتابة والتأويل (1988)، المتخيل والتواصل (1992)، الغرب في المتخيل العربي الإسلامي (1997)، الغرب المتخيل، صور الآخر في الفكر العربي الإسلامي الوسيط (2000)، الصورة والمعنى، السينما والتفكير بالفعل (2019).

يركز الباحث على النظر "بوصفه أكثر الوساطات التي تسعف الذكاء في الاشتغال، إلى حد ذهب فيه البعض إلى القول بأن النظر يشكل الأداة الرئيسية للفكر". أما عن المجال الذي حصر فيه أفاية بحثه فهو السينما، كحقل للتفكير "يمتلك إمكانيات تعبيرية هائلة للتأثير على المتلقي: سلبًا أو إيجابًا". أما عن الفئة المتلقية التي تتوجه إليها الصورة فهي ذات وضع اجتماعي معين، وخاضعة لشروط ثقافية وتاريخية.

إن اهتمام الباحث بالصورة، التي هي في عُرف حقل دراسات الصورة "برادايمًا أيقونيًا"، يعود إلى كون الإنسانية انخرطت منذ مدة طويلة في "البرادايم البصري" الذي "تحتل فيه الصورة السينمائية مكانة مركزية، مسنودة في ذلك بالتلفزيون، وبالوسائل الرقمية الجديدة، بحكم امتلاكها قدرة هائلة على الإظهار وإنتاج المعنى".
 

 



الصورة هي الروح

كيف نمسك بالروح حين نمسك بالصورة؟ من يمكنه فعل ذلك من بين جميع الناس؟ يرى أفلاطون في محاورة "فيدون" أن المرء إذا أمسك بالصورة، فإنه تمكن من الإمساك بالروح. لكن هذه العملية ليست في متناول أي أحد. إن هذا الباب مفتوح على غير المشدودين إلى العالم الحسي. وبهذا، فإن الصورة التي تتأسس على المخيلة، تُعطى لها أهمية كبيرة في فكر أفلاطون، "الذي أفسح المجال للمخيلة وللقدرة التخيلية على خلق عوالم غير مرئية بشكل محسوس". وذلك بعكس الفلسفة التي اعتبرت المخيلة عنصرًا يشوش على عمل العقل، حسب ديكارت. لقد بقيت المخيلة منحصرة في مجال نظرية الأدب أو النقد الفني. غير أن عصر الحداثة ومفاهيمه، مند القرن التاسع عشر، غيّر النظرة إلى إنتاجات المخيلة والصورة، مثل الصورة الفوتوغرافية، السينما، التلفزيون... مما خلخل صرامة الخطاب العقلي المضاد للمخيلة، الديكارتي على الخصوص. في هذا السياق يؤكد المؤلف أن "الصورة في الزمن المعاصر هي روحه الوحيدة بالضرورة (...) بل وأصبحت أداة حاسمة من أدوات التواصل، سواء اعتمد هذا التواصل على العقل، أو على غيره من الملكات التي يحوزها الإنسان".


تفكيك ظاهرة الصورة

بعد أن تناول المؤلف حدود المفاهيم الإجرائية التي كرسها تطبيقيًا في الفصل الثاني من الكتاب؛ وهي مفاهيم المخيلة، التخييل، المخيلة والوعي، والمخيلة الرمزية، وذكاء الإدراك البصري... ومفاهيم أخرى من حقل الفلسفة والأدب والفن، عاد لتفكيك ظاهرة الصورة، التي اقترب من شكلها، ومضمونها، وخلفياتها، وتجلياتها الرمزية، وأبعادها التوصيلية والتواصلية؛ من جماليات وعلم النفس، مرورًا بالنقد الأدبي والفني، إلى ما ينعته ريجيس دوبريه بالميدولوجيا، وما يربط عالم الصورة بتعبيرات المتخيَل.

إلا أن الباحث أفاية يدافع عن ضرورة اجتناب فهم هذه القضايا السالفة الذكر انطلاقًا من منظور واحد، فالعالم متغير وتعبيراته اللغوية والأيقونية بنفس التعدد أو أكثر. لذلك على الباحثين، بحسب أفاية، تبني اختيار "متداخل الاهتمامات لمحاولة الاستفادة من الانفتاحات المنهجية والفكرية لكل اهتمام، من أجل الاقتراب من فهم الأبعاد الدلالية والرمزية الكثيفة للصورة وللمتخيل، سيما وأن كلًا منهما يكتسب، في كل مرة، مظاهر وأشكالًا وتجليات ومعاني جديدة قياسًا إلى تطور المجتمعات والثقافات والتقنيات والسياسات".

إن ذلك راجع، بالدرجة الأولى، إلى كون الصورة تمتلك إمكانيات تفعيل وتحيين وتأثير لا حد لها، "منها ما يتوجه إلى الحواس، ومنها ما يعبئ مخزونات الذاكرة، ومنها ما يخاطب العقل". كيف لا ونحن نعيش "زمن الصورة"، وتجلياتها التي غزت العالم أجمع.





وأنت أمام الصورة

يجد الإنسان نفسه أمام الصورة طيلة حياته اليومية. فللصورة، حسب تعبير أفاية، "طبيعة اجتياحية" في الحياة اليومية للناس. فالمجال العام صور، والشاشات الكبرى، والصغرى، كل شيء صورة يضطر الإنسان إلى الدخول إلى عوالمها. وإن الطبيعة الاجتياحية التي يركز عليها الباحث، هي مزدوجة؛ فالصورة تجتاح الإنسان، والإنسان يجتاح عالمها. هذا الاجتياح المتبادل، المتوازي، هو ما ينتج تعدّد الدلالة والتأويل. وهدا التدفق الهائل واللامتوقف للصور، لا يقابله، بالضرورة، فهمٌ مناسب لرهاناتها ومضامينها وخلفياتها المعلنة والمتسترة. الشيء يجعل من الضروري، بل والحتمي، طرح أسئلة من قبيل: ما هي الوسائل الكفيلة بفهم الوقائع البصرية الجديدة واستيعابها؟ وكيف يمكن توفير ما يلزم من جاهزية فكرية لجعل قراءة الصور أداة نقدية للحاضر؟

كل من يقف أمام صورة ما يحتار في اختيار الكيفية التي يعتمد عليها لتكوين "نظرة" دقيقة أو صائبة. فهناك الاقتصار على المحاولة الذاتية، أو تلك التي ترتهن للانفعالات العاطفية. في هذا الإطار يرى جورج ديدي- هوبرمان "أنه يتعين جعل أدوات المعرفة التي يقترحها تاريخ الفن مجرد محطة ضرورية لمقاربة الصورة". ويرى أنه لا مناص من إجراء ما يسميه بـ"انعطافة نقدية" لنظرية إيرفين بانوفسكي حول الصورة. وبانوفسكي الذي حاول باعتباره فنانًا- مفكرًا اقتراح مقاربة لمعالجة الصورة الفنية أدخلها ضمن ما سماه "الإيقونولوجيا"، وقد "أرادها مقاربة منهجية عقلانية للعمل الفني". وبموجب هذه المنهجية على الناظر للصورة اتباع مسار تعاقبي من خلاله تطرح الصورة عدة أسئلة على من يلقاها.

يخوض نور الدين أفاية مغامرة تفكيك اللقاء بين الفلسفة والسينما، من أوجه اللقاء المختلفة، من خلال مفاهيم ومدارس، بينت كيف أن الصورة أغرت الجميع: الباحثون والفلاسفة والفنانون، ما أفرز عدة رؤيات ونظريات، كل حسب تصوره للعالم والواقع والإنسان والتقنية والفن. إنه كتاب في الاقتراب الحارق من النقد، والتفلسف، والفن بمستويات عالية جدًا، وربما قل نظيره في المؤلفات العربية التي عالجت نفس الموضوع.