Print
صدام الزيدي

"منفى ومَهاجِر".. آدم يهبط من الجحيم

22 نوفمبر 2021
عروض


في كتاب صدر حديثًا عن دار لندن للنشر، في لندن، حمل عنوان "منفى ومهاجِر"، يدوِّن الشاعر والمترجم العراقي المقيم في المملكة المتحدة، عبد الكريم كاصد، شهادة مريرة عن تجربة 30 عامًا في المنفى، امتدت على قرابة 200 صفحة، في كتاب توثيقي لحياة شخصية قُدِّر لها أن تختار طريق المنفى، بدءًا بمخاطرة اجتياز صحراء حدودية بين العراق والكويت، ثم اليمن وبيروت ودمشق ومهاجر أوروبية استقرت أخيرًا في المملكة المتحدة، حيث يقيم كاصد رفقة عائلته منذ سنوات.
هربًا من ملاحقة النظام الديكتاتوري في العراق، قطع عبد الكريم كاصد، قبل ثلاثة عقود، صحراء مقفرة على ظهر جملٍ لمدة ستة أيام في قافلة ضمّت 6 مهرِّبين وهارِبين وشاعِرَين (كان رفقة كاصد في الرحلة صديقه الشاعر العراقي الراحل مهدي محمد علي) وستة جمال.
"كان المنفى بالنسبة إليّ، كالصحراء، مفتوحًا على الجهات الأربع، لا أعرف أين تحملني رياحه، ومتى تهبّ"؟- بهذه العبارة الحائرة، يستهل كاصد كتابه الأحدث، فيما تتوالى صفحات الكتاب، بأسلوب تدويني لا يخلو من لغة الشعر ونيران التيه والتشظي على منافذ حدودية لدول كان عليه أن يعبرها، قبل أن تلتحق به زوجته وأولاده في ما بعد.




دروب قسرية خاطر كاصد باجتيازها رفقة هاربين من دول شتى، ليصبح (المنفيّ أو: آدم المقذوف إلى الأرض، لا من الجنة، بل من جحيمٍ لم تزل نيرانه تلاحقه) كما يقول، بينما يتذكر مخافر حدودٍ ودوريات شرطةٍ صادفته غير مرة، ليعبرها بطريقة ما، ليس قبل توقيف وحبس ومشاهد إنسانية غاية في الانكسار.


ثمن المنفى
رحلة مضنية طويلة، اتسمت في المجمل بالمخاطرة، واجتراح منفى تلو منفى. وفي المقابل، كانت رحلة كتابة وإبداع، ففي جعبة كاصد، عشرات المجاميع الشعرية، والأعمال الترجمية، ونحو ذلك من صنوف التدوين والكتابة. احتوى الكتاب خمسة أقسام: منفى ومهاجِر؛ نماذج وأمكنة؛ برابرة وشياطين؛ وجوه الاحتلال؛ خاتمة.
تحت عنوان سريع: "ثمن المنفى"، يقدم كاصد ما يقول عنه (شهادة شخصية) حول تجربته في النفي، متبوعة بعنوان آخر/ شهادة أخرى: "مهجرٌ أم منفى"؟، في سياق (شهادة عامة) حول قضايا الشأن الثقافي العام للمهاجرين والمنفيين العرب في بلاد الغرب، وأيضًا منفاهم في (الوطن) إن هم عادوا إليه في يوم ما، بعد أن صار الوطن منفى والمنفى عدة منافٍ تجهز على الروح وتثقل كاهلها بالتزامات رهن عقار وضريبة وحالة من الشنج وإجهاد الذات لتلبية وظائف تأخذ ساعات النهار كلها من صاحبها فترديه متشظيًا، فما بالك إن كان كاتبًا أو مبدعًا مثقلًا بطقوس الحياة الابداعية ومنجرفًا بين أتونها!
وفي حين احتشد الكتاب بالأسئلة التي يحاول كاصد الإجابة عن بعضها من وجهة نظر شخصية، ثمة أيضًا أسئلة الغياب والتشظي، وهي أكثر فداحة ووجعًا، تتلبسها حيرة المصير الآدمي، وتراكمات مشهدية ثقافية تزداد ترديًا، سواء في الوطن البعيد، أو في المنفى المفتوح على هاوية الحيرة الأبدية... مئات الأسئلة ينثرها بلغة تدوينية جميلة لا تخلو من مرارة الانتظار الطويل لشاعر منفيّ كلما اجترح أملًا تلقفته مناف تتجدد وتتناسل في دروب الحياة اليومية. حتى بعد اندحار النظام الديكتاتوري في العراق، في ما بعد عام 2003، ازدادت حيرة المنفيّ الذي طال نفيه: هل يعود إلى الوطن الآن بعد أن أصبح مهاجِرًا، وانخلعت صفة "المنفيّ قسرًا" عنه؟ كيف هو الوطن؟ ويا لتعاسة هذا الذي يسمى الوطن؟... إلخ. الأسئلة العارية من بارقة أمل في أن وطنًا بات مزدهرًا لا تعيث فيه الطوائف والميليشيات فسادًا وتخريبًا ونهبًا.....




عند الحدود الجنوبية للعراق، حيث الصحراء القاحلة، ودوريات شرطة الحدود، وليالي الرعب والعطش والأرق والمكابدة، يتربع كاصد وثلة من الفارّين عن الوطن على ظهر جمل، في طريقهم إلى المجهول. يسرد كاصد بلغة استذكارية جميلة لا تخلو من روح الفكاهة أحداث ليلة أولى لستة مهرّبين وهارِبين وشاعرين وستة جِمال، تخترق صحراء حدودية في ظلمة الليل والكثبان المترامية، متذكرًا اقتراب شرطة دورية الحدود من القافلة، موجهة الأضواء نحو ما اشتُبه به بسبب كُبر الجِمال وصعوبة الاختباء أو الاختفاء، غير أن القافلة تنجو من أعين الدورية، وفي الأثناء تستكين خمسة جِمال للاختباء بصمت ورباطة جأش إلا جملًا واحدًا أربكته الأضواء الباحثة من متسللين، فأخذ يركض مفزوعًا، قبل أن يركض كاصد خلفه معيدًا إياه بسرعة البرق، وهو مشهد يتذكره كاصد مع قليل من السخرية والاستغراب: كيف فعلت ذلك؟ ومن أين جاءتني تلك الشجاعة منقطعة النظير؟


"رِجالٌ في تنكر ماء"....
غير بعيد، في رحلة إلى المجهول/ المنفى غير الواضحة ملامحه ومعالمه، يستعيد كاصد جزئية غاية في البؤس والمكابدة في مواجهة خطر انعدام الأكسجين في داخل خزان ماء (تنكر ماء)، ففي داخل الخزان، ثلة من الهارِبين يقودهم اثنان من المهرِّبين: الخزان مغلق، السيارة تمضي مخترقة المسافات، أجساد بعضها فوق بعض، لا يرى أحد الآخر، فقط الشعور بالغمة والاختناق متأكدًا أن جسدًا فارًا من أرض الوطن في اتجاه المجهول، يجثم عليه، وهنا تحضر روح الفكاهة الجميلة، فما من سبيل إلا للفكاهة، ومحاكمة الذات، وسط عتمة التنكر المظلم، يقول كاصد: "تذكرت غسان كنفاني وروايته "رجال في الشمس"، تمامًا إنها المتناقضات في أبهى حضورها. ويضيف ساردًا المشهد: "كانت لحظة عسيرة حقًا، يمثُل فيها الموت بوجهه الغائم الذي لم يتبينه بعد". الموت يأتي بصيغة ما في باطن خزان ماء، عندما يضيف كاصد: "متكدسين بعضنا فوق بعض، وصررنا الفقيرة في أيدينا"، حيث الشعور لا برحم الصحراء، وإنما برحم الخزان وألفة البشر، فيا للغرابة.
يسرد كاصد، بلغة تدوينية رشيقة تجرح الروح: ثمة رجل محشور فوق رأسي، يتململ، فأسأله، كيف أنت، ليجيب: "وردة" (وهي إجابة شائعة عراقيًا).. ثم يسأل الرجل، وأنت؟ ليجيبه كاصد: "مزهرية". ثمة، إذن، روح جميلة ساخرة حتى في أصعب الدروب، وفي قلب العتمة في رحلة الموت. يقول كاصد: 20 هاربًا جميعهم انفجروا بالضحك في خزان معتم.
في داخل الخزان، تطرأ حالة اختناق شديدة لاثنين من المُهرَّبين، وتبرز إنسانية المُهرِّبيْن الذين تنازلا عن موقعها بجوار سائق التنكر لصالح إنقاذ اثنين اختنقت بهم أرض التنكر المعتمة.
وفيما ينتقل كاصد إلى أقسام لاحقة في الكتاب، تتحول لغة الاستذكار التي دوَّن فيها جزئيات مهمة من رحلة نفي تقادمت بصاحبها السنين فصار غير معنيٍّ، بعد ثلاثة عقود كاملة، بأن تسقط عنه صفة "المنفِيّ"، الذي لا يمكنه العودة إلى الوطن، لحساب "المهاجِر" الذي يمكنه الآن العودة إلى الوطن. لكن أي وطن وأي منفى؟ وما الوطن وما المنفى؟ وهذه بعض أسئلة امتلأت بها صفحات الكتاب، عندما أخذ كاصد يلملم أسئلته بحسرة وانكسار عن مآلات المثقف والكفاءات العلمية العراقية/ العربية في المنفى/ المهجر؟ وعن العلاقة بين المثقف المنفيّ/ المهاجِر، وبين سلطة البلد المنفيّ/ المهاجَر إليه؟ فكل شيء ليس على ما يرام: "عالم عربيّ مقلوب، وأنظمة لن تختصر شعوبها على الإطلاق، مهما تشابكت الظروف وتعقّدت"....




في أنحاء من الكتاب، ينتهز كاصد الفرصة، لإعادة نشر آراء ومقالات وأبحاث وإفادات صحفية له، أنجزها خلال السنوات الطويلة من منفاه، مجيبًا عن أسئلة تتعلق بالراهن الثقافي العراقي/ العربي في المنفى/ المهجر، وفي الداخل أيضًا، وهي أسئلة تزدحم بها الصفحات في مناسبة تلك التحقيقات الصحافية، أو الأبحاث التي قدمها كاصد نفسه في مؤتمرات عربية تقارب مشهدية المنفى البعيد، أو تسأل حول دور المثقف العربي إزاء القضايا والأحداث العالمية، في مقدمتها قضية فلسطين.
وفي محاولته الإفادة عن سؤال من ثلاث كلمات، هو عنوان فرعي في سياق الكتاب، وضعه كاصد، مختصرًا سؤالًا أكبر: هل المثقفون العرب منخرطون في قضايا مجتمعهم وأحداثه كما ينبغي؟ وفي ما يتعلق بجزئية قضية فلسطين، يعتقد كاصد بأن اللوم لا يلقى على المثقفين العرب، بل على الإعلام الفلسطيني، لعدم قدرته على استيعاب الحدث وتغطيته، وهو المعنيّ به أولًا، والمعايش له ثانيًا، وفقًا لرأيه الشخصي في هذا الصدد.


غياب نزعة الإبداع الفردي
أما إعلامنا العربي، فيقول كاصد، إن ما يستوقفه في الإعلام العربي، عمومًا، هو افتقاده النزعة الفردية الإبداعية، وغلبة الصفة الدعائية على مجمل نشاطاته، وهذه غالبًا ما تكون ذات طابع سياسيّ ضيق مشحون بأوهامه وصراعاته، مما يحجب عنه الواقع الحقيقيّ؛ أي واقعٍ كان.
وتأسيسًا على ما سبق، يضيف كاصد: إن المطالبة بالنزعة الإنسانية، والانخراط في القضايا والأحداث العالمية، هي مطالبة مستحيلة، فهذان، النزعة والانخراط، في رأيه، لا يتحققان على مستوى المؤسسة، أو الفرد، من خلال المناشدة، وإنما من خلال عوامل عديدة سياسية واجتماعية وثقافية، وموروث أيضًا. ويذهب كاصد أبعد قليلًا إلى أسئلة الشعر وأهميته ودوره في منظومة الحياة العامة للبشرية، بقوله: إن النزعة الإنسانية تكون مفقودة حتى في أكثر فنوننا الأدبية استقلالًا: الشعر.
وتتواصل أسئلة كاصد بمرارة وحزن: أيُّ وطنٍ هذا الذي يُفضِّل أبناؤه أن يتحملوا العزلة في القطب على الإقامة فيه؟ أيُّ وطنٍ هذا الذي تبتعد عنه آلافًا من الكيلومترات، لتحتفظ به فكرةً فحسب، تستعيده أغنيةً، أو حنينًا، وتلعنه، وتستعيده ثانيةً وتبكيه، ولا يغادرك، أو تغادره أبدًا؟....
وعن يوميات وأحوال المثقف العراقي/ العربي في بلاد المنفى/ المهجر في الغرب، وتحديدًا أسئلة: حدّة الصراع القائم بين المثقف وسلطات المنفى؟ ينوه كاصد أن ما يخفف حدّة هذا الصراع، بين مثقفٍ منفيّ/ مهاجِر (مهموم بالرهن العقاري الشهري ونحو ذلك من الأعباء الثقيلة)، وبين السلطة هناك، هو أن هذه العلاقة تكاد تكون معزولةً عما يحيط بها من علاقات أخرى متشابكة، قادرة على تأجيج الصراع، كما هو في الوطن الأصليّ. ولأن المؤسسة تحل محل الوطن في علاقة المثقف بها؛ تختفي السلطة في هذه العلاقة الأبوية الراعية للأبناء المنفيّين، وبالتالي تصبح علاقة المثقف بالمؤسسة ـ الوطن حجابًا لمعرفة ما يتجاوزها من علاقات أعمق، باعثها الخوف من مستقبل من دون رعاية المؤسسة. أما حين يكون المثقف (العربيّ مهاجِرًا كان أم منفيًّا) موظفًا في مؤسسة غربيّة، فهذا يعني تكريس لا جهده فحسب، بل جُلّ وقته، حيث العمل يستغرق النهار كله في مدن المنفى.
ثم، هنالك، ما يقول عنه كاصد: "هيمنة المؤسسات، ولا إنسانيتها في التعامل مع المنفيّ كرقم". وإذا كانت ثمة علاقة فهي ـ في رأيه ـ أقرب إلى الانفصال منها إلى الاتصال، مثل شراء بيوت بأسماء أخرى؛ تأجير غرف في الصيف، أو خلال العام لطلبة أجانب، أي العمل في (السوق السوداء)، والتحايل على دوائر الضريبة. وهي مداخل ومخارج تفنن فيها منفيّون ثأروا لوضعهم الهامشي هناك.


مآزق كثيرة
إجمالًا، يذهب كاصد إلى القول، بحسرة وأسف: ثقافة في مأزق، ووضع سياسيّ في مأزق أشدّ، والمثقف الحقيقيّ لا يجد نفسه في الاثنين إلا في علاقة هامشية هي النشر، إذا توفر النشر، ولعل الجوائز هي آخر مظهر من مظاهر الفضيحة، على حد تعبيره.
يحاكم كاصد الوطن، في الحالتين: إن كان النفي عنه قسرًا، أو كان نفيًا بإرادة شخصية، وتتواصل جذوة الأسئلة في هذا السياق: حتى وإن لم تعد لديك القدرة على التعرف على الوطن. ويسبقه سؤال أكبر: ماذا نسمي أنفسنا: مهاجِرين أم منفيين؟ لكن أمام هذا السؤال، يحاول الإجابة بأسئلة تفيض حرقة وحزنًا: بعد 2003، بعد زوال بواعث المنفى، أيصبح المنفيّ مهاجِرًا فجأةً لمجرد أن في استطاعته العودة إلى مكانه الأول؟




بلغة جميلة، ساخرة وقاسية في آن، ينجز عبد الكريم كاصد كتابًا يستعيد فيه مغامرات الفرار من جحيم الديكتاتور، لكن المفارقات ما زالت تعصف بالأسئلة، ففي اليمن (أقام كاصد في عدن لفترة من الزمن في منفاه الثاني)، بعد أن حصل على هوية (مزورة) تثبت أنه يمني كان خارج بلاده فعاد، يُسجن! وقبلها، جاء إلى المعنيين، لكنهم قالوا له بكل بساطة: عد في اليوم التالي. وفي اليمن ذاتها، يعرض/ يقدم أدباء تعاونوا مع كاصد، في وقت كان النظام العراقي، آنذاك، يقدم معونات لليمن. وفي دمشق، صديق هو في الأصل يدير منظمة تتبع النظام هناك، يُقِلّ عبد الكريم كاصد في سيارته، بينما هو مقيم غير نظامي/ مجهول الهوية. وفي الكويت، يقترح/ يقيم أدباء فعالية تستضيف كاصد (مجهول الهوية)، شاعرًا. إنها المتناقضات وكتابة الأسئلة النازفة التي زهدت في وطنٍ تنهبه الميليشيا والطائفية والمفسدين في قارعة النهار.