Print
باسم المرعبي

"حصار".. رواية الحكاية المستحيلة

23 نوفمبر 2021
عروض






على الرغم من أنّ "حكاية لم تحدث" هو عنوان فرعي لرواية الكاتب كريم شعلان "حصار" (دار الرافدين، 2020)، إلا أنّه يمكن قراءته كعنوان أول أو موازٍ للعنوان الرئيس، وليس فرعيًا، كما اقتضت دلالته التي بدت تفسيرية، استدراكية، وهو ما يقوله موقعه والسياق البصَري الذي جاء فيه.

وبمقدار ما يمكن أن يتراجع العنوان الأصل: "حصار" إلى عنوان فرعي، على الرغم من علاقته الوثيقة المتواشجة مع المتن السردي المتخِذ من الحصار الذي شهدته تسعينيات العراق، المنصرمة، ثيمة أساس من بين ثيمات أُخرى، توزّعت العمل ككل، إلّا أنّ ثيمة "الحصار" ذاتها بدت أقرب إلى أن تكون مدخلًا، أو ذريعة فنية لما أفاض فيه السرد من تقصٍّ لمكامن القهر والإذلال والبطش الذي أقامت عليه سلطة الرعب مملكتها الموطّدة بالدم والخوف والتوجس.

"حكاية لم تحدث" عنوان، بما يضمر من معنى، أراد القول إن لقسوة هذه الحكاية وغرابة ما ترويه، فضلًا عن الوجود الشبحي لعناصرها، فقد بدت مستحيلة، غير قابلة للتصديق، وبذلك يمكن أن تكون قابلة للنفي، ليكون هذا النفي المتشكك هو الإثبات القاسي لحقيقة الرعب الذي عايشه وشهد به الراوي. ويكفي دليلًا على استحالة هذه الحكاية أنها تُروى من طرف ميت، يقلّب مغامراته وميتاته في برزخ يسميه الكاتب، إمعانًا في المفارقة، إجازة من المقبرة الجماعية، المقبرة التي انتهى إليها في حياته، أو ميتته الأولى، على السواء، فهو لا يكفّ عن الموت، قتلًا، في كلّ مرة، مثلما لا يكف عن الحياة في وجوده الافتراضي المتجدّد في سياق العمل، وهو لا يني يذكر، أو يتذكر، ميتاته الماضية، الحاضرة على الدوام، خاصة، عند كل موقف صعب، يواجهه: "هي ليست المرة الأولى التي أتلقى فيها الرصاص، وهي ليست المرة الأولى التي أموت فيها، سبق أن مت كثيرًا، لكنني أصحو بغير رغبة، أصحو من ميتاتي بفعل الندم على أشياء لم أفعلها، أشياء صغيرة لها شأن جارح ومؤثر فيّ". "وأستعيد ذكرى ميتاتي في الحروب والحفر الجماعية والحوادث العابرة. وأسأل: هل أنجو هذه المرة؟".

وفي موضع آخر، يقول: "حياتي التي فقدتها مرات كثيرة برصاص الأعداء، أو أخوتي في الوطن، حياتي التي تأرجحت رافسةً وأنا أتدلى من حبل المشنقة على منصة المعسكر في الفرقة الخامسة، حياتي التي دفنتها الجرافات وأنا أصرخ عاش القائد، عاش الوطن والموت لي أنا وحدي".

أما من الناحية الفنية، يُستشفّ من العنوان الإشارة إلى العجائبي، كإطار صُبّت فيه الحكاية، وكمُعطى تدفقت من خلاله الأحداث الغريبة، التي بقدر ما بدت سريالية في خرقها للمنطق الذي يحكم علاقات الأشياء بعضها ببعض في الواقع، عادةً، غير أن سريالية كهذه، لم تكن في الحقيقة، سوى حصيلة رصد لواقع محكوم بالفساد، وإعادة سرده بمخيلة سوداء، وإشهاره كنوع من ديستوبيا ليس، فقط، بسبب من فساد السلطة كما يمثلها حاكم مطلق، متخلف، بل أيضًا بسبب فساد المحكومين، ذاتهم، كما يلمح الكاتب إلى ذلك، مرارًا. ليس أقله سقوط الشعراء والكتاب في مستنقع مديح الحاكم وسلطته والاستخذاء الذي بدوا عليه: ".. تاريخ كتبه الشعراء العموديون والشعبيون وبائعو الأعراض في ساحات الاحتفالات والفضائح الكبرى". "كلنا جلادون وكلنا ضحايا". "الناس يتراقصون على أهازيج جنوبية أبدع كتابها بتوليفات لا تختلف عن رصاصات الإعدام التي يستحصلها رجال الأمن من أهل المقتول بكل محبة". "نصنع آلامنا بأيدينا... نتكاتف بأيدٍ حازمة لقتل أيامنا، ونجعل من الزمن عدوًا مزمنًا... نصفق بتلك الأيدي لكل المسخ والدمار القادم، ونرتكب المعاصي بكل أنواعها بأيدينا فقط... أيدينا هي جريمتنا وهي عارنا الذي يستحق البتر". وأيضًا، "نحن صنّاع التماثيل وعبيد الصور". وسوى ذلك من الأحكام المشابهة. وهو ما يفسّر، مع دوافع أُخرى، النزعة الهجائية والتهكمية المعتمدة لدى الكاتب، دون التواني عن الاستعانة بنابي الكلام، كما في أكثر من موضع، وهو ما يندرج في ما يُصطلح عليه بالنوع الضدي، والاستعانة به، فلفرط ما كان عليه الواقع من بذاءة وكاريكاتيرية، وإن فاجعة، فقد بدا للكاتب أنه لم يكن من بد إلا مواجهته بكاريكاتيرية مقابلة، سواء على صعيد تصوير الشخصيات، أو نوع اللغة، وصفًا من جهة، أو نطقًا، كما دار على ألسنة هذه الشخصيات، من جهة أُخرى. من هنا، يمكن تأشير منحيين اتخذتهما لغة السرد: منحى يتواءم ورسم الشخصيات والتعليق عليها، أو عند رصد أفعالها وردود أفعالها، تقوله لغة قوامها المفارقة ومحكومة بالسخرية. ومنحى تجسده لغة مجازية تستثمر مزايا الشعر، وتستبعد الانثيال اللغوي، والافتعال الجمالي، وهو ما أعطى الرواية هويتها البلاغية الخاصة والمتميّزة.

فرد.. جيل، أم أجيال..؟

يصلح البطل، المجرّد من الاسم في "حصار"، لأن يكون نموذجًا لجيل بأكمله، بل أجيال كاملة، عدة، حين نضع في الاعتبار كونه أسير دوامة مستمرة للعنف والدم والجنون التي اصطنعتها السلطة ـ السلطات المختلفة، على مدى عقود. فلا عجب أن يرصد الكاتب، الابن الذي لم يولد بعد، والذي هو في الحقيقة ثمرة خيالِ قتيل، أو مجنون، وقد منحه الأب اسم "حصار"، في مفارقة سوداء، هي الأُخرى. يرصده، وهو يعدو مع الأب هاربًا من مطاردة رجال الأمن صوب المقبرة، حيث اعتاد الراوي، الذي هو في طور أبوّة متخيلة، قادمة، وبمعية مطارَدين مثله، "دخول قبور مفتوحة والتظاهر بالموت". في شطحةٍ استشرافية، يمكن تأوّلها، على أنها إشارة إلى مآل جيل لم يولد بعد، لكن القبور معدّة له، سلفًا، وفي انتظاره. بهذا المعنى هو نموذج عراقي مطلق وشاهد أبدي ممسوس بالجنون والموت كوسيلتي خلاص! إنّ افتتاح الرواية بانفجار البطل بضحكة في مأتم أبيه، تلخيص لكلّ التناقض الذي شكّل الصورة النهائية للأشياء ورسم حدود تراجيكوميديا صارخة ـ في استعارة للغة المسرح، هنا ـ في هذه الرواية المتدفقة، التي أتاح اعتمادها التداعي الحر، أسلوبًا، حرية كبيرة في التعامل مع الزمن، وبقية العناصر، لبلورتها، فيما حتّم منطقها الداخلي الخاص، وسير الوقائع فيها، أن لا تجد شخوصها سوى سبيلين لارتيادهما، الجنون تارةً، واليأس تارة أُخرى. وإذا كان الجنون، كمُعطى غير مختار للشخوص، وهو يأتي كنوع من دفاع لا إرادي عن النفس، فإنّ التفكير بالموت بوصفه حلًا، هو خيار إرادي، وإن كان اضطراريًا، ووسيلة أخيرة للخلاص: "... وأطلقوا الرصاص، نزل علينا كالمطر، الرصاص له وخزات حلوة تبشر بالخلاص من العذاب". أو: "نغمض عيوننا واقفين ننتظر الأمل، أو الرصاصة". تلقّي الرصاص هو الشيء الوحيد الممكن تحققه، لأن النموذج الذي عالجه الكاتب قد ولد ليُقتل "لا أستطيع قتل أحد مهما كان، أنا واحد ممن خُلقوا ليُقتلوا فقط..". منطق البطل هذا لا يتأتى من عجز عن إيقاع الأذى والقتل بالآخر، بل لامتناع بسبب من سويته البشرية والمواطَنية، هو نموذج حالم بحدود ما تمنحه رتبة المواطنة الطبيعية والانتماء للوطن لا السلطة، وإن كان مفهوم الانتماء مرتج لديه بسبب عسف السلطة وتماديها في التدمير، فلم يعد الوطن سوى تراب، "تراب لا غير". أو "أرض ملغومة بالسواد والخواء". إن مسالمة البطل لا تعني الضعف، أو هشاشة الموقف، بل العكس، فحتى الصمت له فلسفته، سلبًا أو إيجابًا، وفقًا لصنو الراوي (راجح أو ناجح) كما تتردد هذه اللازمة في مواضع شتى من الرواية. (راجح أو ناجح)، هذه الشخصية الشبحية التي تشاطر، بدورها، الراوي، المصير المغيّب، ذاته، في مقبرة جماعية، كان لها حضورها الخاص، رغم شذرية الدور الذي اضطلعت به في الرواية، وكانت بمثابة قناع للراوي، وذاكرة إضافية تسعف السرد، وهي تقنية متقدمة عززت من مزايا الرواية وتفردها. وإذا كان "راجح أو ناجح" يجسد نموذجًا لشخصية المثقف المشوبة بشيء من تعقيد مع نزعة وجودية، تمردية، وميل إلى فلسفة الأشياء، فإن شخصية "كريم كشخة"، اللافتة، رغم مرورها الخاطف في الرواية، تقف على النقيض من ذلك، ببساطتها وعفويتها وعدم ترددها في الإفصاح عن مكنونها، صراخًا حين يتطلب الموقف، حتى لو أدى ذلك إلى الهلاك، كما حدث أثناء الاستجواب من قبل ضابط التحقيق، بتهمة التشويش على النظام! هذه الشخصية، وفي المنظور الكلي لبناء الرواية، يمكن أن تكون قناعًا آخر للراوي، على الرغم من تباين صفاتها، مقارنةً مع القناع الآخر، المذكور آنفًا.


رؤية بانورامية

إن تباين الشخصيات عمومًا، مهما كانت مساحة حضورها وأدوارها في الرواية، تؤشر إلى مقدرة الكاتب على ابتداع خصائص مميزة لكل شخصية، تتساوق وطبيعة هذه الشخصيات وثقافتها، وتبعًا لذلك، يأتي مستوى اللغة، ما جعلها تنجح في إقناع القارئ في مجمل ما اتصف به سلوكها وحركتها. فلم تكن كائنات محنّطة، تُساق على الورق بإملاءات الكاتب، بقدر ما كانت تشفّ ببساطة عن صدقية انتمائها للواقع وتمثيله. مثال ذلك، إضافة إلى ما ذُكر منها آنفًا، شخصية "خزنة"، المرأة الريفية، اللافتة، بدءًا من الاسم الذي تحمله، وقد قدمتها الرواية بوصف شفيف ومؤسٍ: "وخزنة بقايا تراث مسحول من أعماق براكين الدموع والعويل والمآتم، لا تتحرك إلا على نواح المغني وحسرة التذكر وزفير نفاد الصبر". وما ذلك إلا لأنها فقدت كلًا من زوجها وابنها في الحرب. وهكذا فـ "خزنة تنوح مع كل نبرة وكل حسرة وكل دارمي وكل طقة اصبعين"، وقد غدا بيتها ملاذًا للبطل، مع "صفية"، البنت التي أقنعها بالهرب معه ليتزوجها، في واحدة من حلقات هروبه، في حياة لم تكن سوى سلسلة من المطاردات، سواء بسبب السلطة، أو لدواعي الحب!. "ركضتُ كطريدة، خلفها آلاف الوحوش، آلاف الأسلحة، آلاف الاحتمالات الفاجعة، ركضت لأمسك بذاكرة شردتها السنوات". وامتدادًا لدفق التداعي، المعتمد، يطلّ الكاتب أكثر من مرة على القارئ في مخاطبة مباشرة، هادمًا بذلك، ما يُعرف بالجدار الرابع، إلّا أن كسْر الوهم، هذا، الذي اتخذ أكثر من شكل لتذكير القارئ بأنه بصدد لعبة روائية، لم يكن سوى تعزيز الانطباع عن مهارة الكاتب وإفصاح عن خبرته الجلية في الكتابة، بمعنى أن ذلك لم يكن ليخلّ بالانغماس في مناخ الرواية، فهي تتواصل كنشيد محكم الإيقاع. بذلك تكون "حصار" شهادة روائية على درجة من الابهار الفني وصادمة على صعيد المضمون، خاصة للقارئ العربي، وكل قارئ بعيد، لأي سبب، عن شجون سلطة الدم في بغداد، لفترة ما بعد السبعينيات، هذه الرواية التي يستثمر فيها الكاتب إمكانات الشعر مع تدفق سردي يخاتل الأزمنة والأمكنة في تداخلهما واختلاطهما، في خرق ذكي لما هو متوقّع من قواعد السرد، عمومًا، أو بما يخص سير الوقائع، في هذا العمل، أو التكييف الأسلوبي للتعامل مع هذه الوقائع، بغرائبيتها وكوميديتها القاتمة، أو فجائعيتها، عبر نسْج لغوي يصلح لأن يكون أنموذجًا للكتابة الروائية، ما يُشير، ضمنًا، إلى حيازة الكاتب لأهم عناصر الكتابة الإبداعية الناجحة، والمتمثلة، هنا، من بين عوامل مهمة أُخرى، بصدق التعاطي مع تجربته، وانصهاره الوجداني في هذه التجربة. وهو ما يُفسر الحس الرثائي للأشياء والأمكنة، الذي بدت عليه الرواية، وهي تمسح برؤية بانورامية مهادًا متراميًا من التنوّع المتضارب، مشكّلةً بذلك نوعًا من ذاكرة جمعية، لكن في حدود الفن، لتُضاف بجدارة إلى رصيد ما هو متميز وآسر من السرد العراقي والعربي، سواء في ما استقر من مُنجز، أو في التحولات الأخيرة، لهذا السرد.