Print
وارد بدر السالم

في فلسفة العنف.. اقتلوا الزنوج!

25 نوفمبر 2021
عروض






مهما حاولت الباحثة إلزا دورلين في هذا الكتاب أن تخفف من وطأة العنف والاستلاب الجسدي، فإنها تخفق في تحقيق هذا الشرط، أمام مناخ تاريخي عريض من العنف الاستعماري والعنف المضاد، وما يتولد عنه من وسائل دفاع ذاتية متعددة بين الشعوب المختلفة. وهذا التاريخ العنفي يُفترض أن لا يكون وليد حضارات متقدمة على الأرجح، لكنه كذلك على ما يبدو. فالأمثلة المُساقة بين ثمانية فصول ممتلئة بالعنف والتعذيب، تستعرض تاريخية جينالوجيا الدفاع عن النفس أمام تشريع العنف في فلسفته القائمة على ابتكار أكثر الوسائل إيلامًا وعنفًا وقسوة، لا سيما بين الدول ذات الطبيعة الاستعمارية التي تمكنت من ابتكار أكثر السياسات الجرمية في تعنيف الجسد البشري وإيذائه وقتله. وقد تكون الباحثة، وهي تستعرض العديد من آلات العنف وسياسات التفريق والتهميش والدفاع المضاد بشكله الأولي، قد ذهبت إلى إعادة قراءاتها للفلسفة السياسية في استعمارياتها العالمية بين الشعوب المضطهدة في تشخيص العنف وأدواته وآلياته الكثيرة. وهي تقف أمام تساؤلات مشروعة في أحقية مَن يكون له السبق في الدفاع عن نفسه. ومَن عليه أن يمتلك السلاح دفاعًا عن النفس. إن كان فرديًا أم جماعيًا. طائفةً أم جماعة أم عِرقًا أم طبقة. ومن هذه الأسئلة لا تولد الإجابات وحسب؛ إنما تتجلى مظاهر العنف بتمامها من التنكيل والإفراط في القسوة وقهر المرأة والجماعات بعنف بوليسي أم سياسي، وما يخلفه هذا من شروخ جسدية ونفسية كارثية في كتاب "فلسفة العنف" (إلزا دورلين- دار الساقي - ترجمة جلال بدلة - 2021).
وإلزا دورلين أستاذة الفلسفة السياسية والاجتماعية في قسم العلوم السياسية في جامعة باريس 8 بفرنسا- مشاركة في قسم دراسات المرأة والدراسات الجنسانية والجنسية.

أمثلة التنكيل الفردي والجماعي كثيرة في (استهداف مقدرة الجسد على الفعل..) وصراعه مع الجلاد السياسي أو السلطوي، ودفاعه الذاتي في كيفية لجوء الذات إلى النجاة من تلك القبضة، حتى مع عجز الجسد المقاوِم. و(الجهاز الدفاعي) اجتراح من المؤلفة وهو ذو حدين (بين ذوات جديرة بالدفاع عن نفسها.. وأجساد ليس في متاحها سوى اللجوء إلى تكتيكات دفاعية ..) عندما تكون الحياة هي (الرهان الوحيد لدى المرور إلى العنف الدفاعي في كل لحظة من اللحظات..) وعندما تكون السلطة ذات (أنماط وحشية..). تحاول المؤلفة التنقيب عنها تاريخيًا وميدانيًا، في موضوعة شاسعة في المسح التاريخي لهذا اللون من الدفاع - ذاتي، لكن يبدو أن الباحثة ذات سعة معرفية واضحة في تتبع هذا الأثر العنفي وتاريخيته المشتبكة قانونيًا وسياسيًا، وهو ما دعاها أيضًا أن تبحث في التاريخ الموجز لحمل السلاح بين الشعوب، بدءًا من القرون الوسطى التي كان السلاح في مجتمعاتها مباحًا، لـ (تأديب الحركات التمردية) ومنعها عن العبيد والأهالي، لتكون المعارك (مقننة.. وامتيازًا مقتصرًا على البعض..) من النبلاء والأرستقراطيين والمواطنين البيض، فيما كان العبيد يعيشون في الهامش الاجتماعي من دون حمايات مفترضة، ومن أمثلتها إقرار "القانون الأسود" في الإمبراطورية الفرنسية، إذ نظمت به شروط العبودية في القرن السابع عشر بمنع الأشخاص ذوي البشرة السوداء من حمل السلاح أو حتى العصيّ لتجريدهم من إمكانية حماية أنفسهم التي كان الأشخاص البيض وحدهم مستفيدين منها. حتى أن أي محاولة من العبد للحفاظ على حياته تتحول إلى جريمة على أساس أن الذات السوداء هي ذات خطرة (واقترن تجريد السلاح من السلاح طوال الحقبة العبودية) والأقلية البيضاء كانت مفضلة على الأغلبية السوداء. وكانت حقوق العبيد في القضاء بلا عدالة فالسود (كانوا يحاكمون في جلسة مغلقة على يد قاضٍ واحد..)، كما (حظرت لوائح عدة في نهاية القرن الثامن عشر التجمعات والرقصات القتالية في جزر الأنتيل وغويانا..) بوصفها استعدادات مبدئية للتصدي والتنمية القتالية المرجحة في الدفاع الذاتي المحتمل. لكن المفارقة أنه ومع هذا التجريد الكلي من الأسلحة وقتل الروح المعنوية في العبيد، فإن المستعمرِين يجندون مثل هؤلاء لوضعهم في الصفوف الأمامية بالمعارك لمواجهة الموت. فالشعوب المستعمرَة (خارج حيز علاقات الإنتاج كشعوب تقف على أبواب التاريخ وتنتمي إلى الزمان الدوري والفطري والتكاثري وغير التراكمي للطبيعة..).

كما أن القوانين عدّت حرمان المرأة من امتلاك السلاح حرمانًا لها من المواطنة ومن حق الدفاع عن النفس، وهو أمر مشروع فيما بعد لأن تظهر في الواجهة الاجتماعية والسياسية حركات نسائية مطالبة بتنظيم حرس نسائي ينادى بالحقوق الطبيعية للنساء. وحتى فكرة دمج النساء والعبيد والمستضعفين في الدولة لم تكن رهانًا كبيرًا على توفير الأمان لمثل هذه المجموعات التي كان يُنظر اليها بهامشية، وفي استعراض للحركة النسوية في القرنين السابع والثامن عشر، نجد الكثير من الناشطات النسويات، وقد نُظر إلى مطالبهنّ في (الانتفاضات الشعبية النسائية) لكن تقارير الشرطة كانت تستهين بهاته (المسترجلات) والحركات النسائية (مدسوسة) غير أن أواخر القرن السابع عشر شهد خطابات نسائية واحتجاجات قضائية لا يستهان بها في الواجبات الوطنية، في التسليح بالقضية الوطنية، ومشروعات كثيرة أهمها تشكيل كتائب نساء في (مواجهة الاستبداد) كنوع من أنواع الدفاع الذاتي المطلوب بتقنيات بسيطة لم تتطور إلا في القرن التاسع عشر، وهي التي جمعت (بين تقنيات المعركة الأوروبية واليابانية) كالجودو والكاراتيه والمهارات الشخصية وكل أصناف فنون الدفاع الشخصي والذاتي (والمناضلات إذ يتعلمن الدفاع عن أنفسهنّ، فإنهن يخلقن ترسيمتهن الجسدية الخاصة ويدخلن عليها التعديلات..) حتى ظهور مصطلح (القتال المباشر) في منتصف القرن التاسع عشر، كفاعلية يدوية بأكثر من خمسين تقنية مهارية أساسية من شأنها تعزيز الروح القتالية الدفاعية الذاتية لدى المرأة والرجل، ممن يجدون فسحة كبيرة بأن يكونوا مناوئين  للسلطات في معيارية المعارضة المشروعة، فـ (الدفاع الجيد لا يختلف عن الهجوم).

غلاف كتاب "فلسفة العنف" الأصلي بالفرنسية 


ميليشيات للاستعمار

تحيل الباحثة إلى أن الدول الاستعمارية يهمها تأسيس ميليشيات متعسكرة لحماية مصالحها المتعددة، كالحال في فرنسا الاستعمارية التي كانت تحتل الجزائر، إذ حظرت بيع الأسلحة للأهالي (في أعقاب تمرد القبائل عام 1871) لكنها أعطت الحق للمستوطنين الفرنسيين من أصل أوروبي لحيازة واستخدام السلاح، لتشكل بذلك ميليشيا موازية لجيشها الوطني ومؤازرًا لها في الاحتدامات المسلحة المتوقعة. وهذا يعني- تاريخيًا في الأقل- أن فكرة الميليشيات أوروبية تضمنها الاستعمار للحفاظ على مصالحه وأرواح أنصاره. وبالمقابل هناك فلسفة مفهوم الدفاع الذاتي في العقد الاجتماعي التي تنادي بالحرية والحق الطبيعي في الدفاع عن النفس و(يقع مفهوم الدفاع الذاتي في قلب الأنثروبولوجيا الفلسفية عند توماس هوبز) في القضاء على وسائل العنف والقسوة المفرطة (بواسطة الحق السيادي) عبر كتابه المعروف "اللفياثان" المنادي بأن لكل فرد حريته وله الحق في (أن يستخدم جميع الوسائل بغية ضمان الحفاظ على نفسه..)، وهذه الأنثروبولوجيا السياسية في (الحق في المقاومة) تضمنها كتابه الآخر (المواطن أو أساس السياسة) حينما يضع هوبز (الحق الطبيعي في الحفاظ على الذات كحق أصلي يمارسه الفرد على ذاته..)، واستناده في نقده المجتمع الإنكليزي ومؤسساته إنما يشير إلى الخلل في السلطة السياسية وما تركته من آثار في النزاعات الاجتماعية. وقد تتفاعل مثل هذه الثقافات التعبوية في المجتمعات المحاصرة سياسيًا وعسكريًا، فالحق الطبيعي للمجتمع أن ينتزع حريته الشخصية، خلافًا للإيديولوجيات المقننة التي يجاهر بها أصحاب الرأي والسلطة، منذ عهود الفرسان حتى الحرب العالمية الثانية، وما تلاها من تغييرات بنيوية في التركيبات السياسية والمجتمعية الأساسية، وصيرورة التشريعات القانونية في المجتمعين الإنكليزي والأميركي، واتساع الحركات النسوية في البلاد الأوروبية.

المقتصّون

ظهور مجموعات (المقتصّين) في الغرب الأميركي (ارتبطت بممارسات القتل التعسفي)، وهذه الجماعات القاسية أنشأ فكرتها تشارلز لينش خلال الثورة الأميركية (1765- 1783) للقضاء على لصوص الخيول وقطاع الطرق تحت مسمى (قانون لينش) غير أن هذه الجماعات توسعت على حساب الجماهير، وحدثت أعمال قتل فوضوية (فكان سكان مدينة أو قرية يتجمعون حول رجل للإقدام على تعذيبه أو بتر أعضائه أو حرقه حيًا أو شنقه..) وكان مسموحًا للأطفال بالفرجة و(اللعب مع الجثة) وهذه "الجماهير" الغوغائية ارتكبت أعمال القتل بحق الأفارقة على وجه التحديد، بسبب (اتهام أو وشاية أو شائعة) ومثل هذه الفعاليات الدموية، لا تبدأ عفوية ما لم يكن لها زيت ونار وآخرون يشعلونها، لأكثر من سبب تعسفي، فهي لم تقع (في زمان معلق خارج التاريخ..) بل إنها تقع في حياة اجتماعية (موسومة بالاقتصاص غير العادل والحضور الفعلي لجماعات.. المقتصّين) ولكي لا تبدو هذه العمليات القذرة مؤسساتية بموافقة رسمية، فإن زج (الجماهير) فيها كان لتذويب الصفة الرسمية وإعلاء الوسم الشعبي فيها، لتتمظهر جماهيريتها المفتعلة، وتأخذ مداها الإجرامي الشعبي. وسنجد أن النشاطات النسوية والجمعيات الشعبية المعارضة لهذا اللون القمعي الإجرامي تأخذ صيغًا متعددة، لا سيما في الولايات الأميركية الجنوبية، التي تجعل من المتزوجات (ملكية لأزواجهن) إذ طالبن بإجراءات الحماية المنزلية للنساء من الرجال البيض والسود معًا و(حماية الأنوثة والفتيات الصغار).

اقتلوا الزنوج

على أن القسوة المفرطة والمحاكمات الكيفية في المجتمع الأميركي لا تنتهي، فالملونون فيها نالوا الكثير من التعذيب والموت المجاني بمحاكمات صورية شبحية وكيفية. ولعل (قضية التقبيل) هي الأشهر في ذلك المجتمع الذي كان يحتقر القوة السوداء واللون الأسود.. و(اقتلوا هؤلاء الزنوج! اقتلوهم!..) هي الصيحة المفزعة التي تعني اللارحمة في مجتمع لا يؤمن بالعدل والقضاء المطلوب. وحتى تنظيرات ونصوص روبير ف. ويليامز التي تمثل وجهًا مباشرًا من حزب الفهود السود للدفاع الذاتي، مع أنه (أصبح أحد المفكرين المنظّرين للدفاع الذاتي المسلح)، لم تنجح كثيرًا في إيقاف الجنايات المتكررة على المواطنين السود، بالرغم من (استراتيجية خارج إطار القانون تهدف إلى احترام حق الأميركيين الأفارقة في حمل السلاح الناري..) ومع القس مارتن لوثر كينغ الذي تبنى استراتيجية المقاومة اللاعنفية، بدا النضال أكثر يسير في خطين، أحدهما دفاع ذاتي والآخر لا عنفي، حتى رُسمت سيميائية الأجساد المتحركة بين الطرفين، وتشكلت معارضة قوية ضد لوثر وتحييده لمصلحة أطروحات ويليامز، ثم تشكلت مادة سردية وأسطورية كما تصفها الباحثة في بروز شخصيات نسوية ورجالية وأحداث كثيرة، كانت تضغط على السلطات في تقرير حقوقها القضائية والإنسانية، فـ (جندر السود وجنسانيتهم كانا يشكلان سلاحًا بين أسلحة أخرى) كما كتبت الناشطة إيلين براون. وحتى الستينيات من القرن الماضي (صار الفهود السود مدرسة في النضال في الولايات المتحدة)

في كل هذا الملخص الإجرائي الذي نقوم به، نسعى إلى إيجاد بؤر صالحة للتوثيق تاريخيًا، مع أن كل شيء في هذا الكتاب موثق بشكل يقيني، غير أن اتساعه وامتداده تاريخيًا يجعلنا نقف في محطات بارزة منه، لنلقي عليها اليسير من الضوء الكاشف في حقب تاريخية مختلفة من الحياة الإنسانية. ولو أمعنّا في التفصيلات المروّعة الكثيرة التي تذكرها الباحثة، لهالنا حجم الإجرام والتنكيل بالإنسان، لا سيما من ذوي البشرة السوداء الذين كانوا العمود الفقري لنشأة أميركا وولاياتها.