Print
علاء رشيدي

"صور من لحم ودم".. الجسد في الواقع البصري السوري

24 ديسمبر 2021
عروض

 


يتضمن كتاب "صور من لحم ودم.. الجسد في الواقع السوري 2011-2021" من منشورات المركز الفرنسي لدراسات الشرق الأدنى بإشراف نبراس شحيد، مقدمة وخمسة نصوص تتعلق بحضور الجسد في الواقع البصري السوري المعاصر وفي تمثلات الجسد ضمن الإنتاج الفني التشكيلي المعاصر. وتتنوع النصوص بين الدراسات البحثية، الشهادات الفنية، والنصوص النقدية الفلسفية. وترجم النصوص الفرنسية يوسف الجبراني ونبراس شحيد.

في المقدمة الخاصة بقلم د. نبراس شحيد يقدم المحرر الكتاب كدعوة للتفكر في تكوينات أجسادنا، مستشهدًا بنص موريس بلانشو: "أن نعيش حدثًا ما عبر الصور لا يعني أن نكون صورة عن هذا الحدث، ولا يعني أن نشطح في تخيله. عندما نعيش حدثًا من خلال الصور يستحوذ الحدث علينا، كما قد تستحوذ علينا الصورة، أي أننا للمفارقة نفلت منها ومنه ومن أنفسنا، فتبقينا الصورة خارجًا عنه، ويجيء هذا الخارج حضورًا لا تتعرف فيه الأنا على نفسها". إنها نصوص كما يقدمها الكاتب تفكر في العلاقة بين الجسد والصورة، وتطرح الأسئلة المفتوحة حول صورة الجسد الفاعل، وتطرح حقلًا تجريبيًا لحيوات جسدية جديدة.

يعالج النص الأول للباحثة سيسيل بويكس الفيديوهات التي شكلت شهادات عايشها مواطنون، شكل انخراطهم الجسدي في ما يحدث مطرحًا جديدًا لإثبات وسرد ونقل الحقيقة ضمن سياق احتدم فيه صراع التأويلات. حيث يصبح الجسد هنا المكان الأول للشهادة بمعنييها: الشاهد الذي يروي ما يراه وما يسمعه، مركزًا على أشكال العنف التي تخضع لها الأجساد المصورة. والشهيد الذي يعرض نفسه للموت كي ينقل ما يراه، مقدمًا جسده ذبيحة. تتابع الكاتبة تطور هذه الممارسات إلى أن غلبت الحرفية على انخراط الجسد الشاهد الشهيد، ففرضت مسافة مهنية بين مصور الكاميرا وما بصوره، مما حيد ذاتيته وجسده.

يدرس النص البحثي دور الجسد كفاعل في عملية صناعة الوثيقة، واعتباره أيضًا جزءًا منخرطًا في الوثيقة، فمع غياب السرديات المرتبطة بهيئات وسائل الإعلام التي تصادق على صحة ما ينقلونه، صارت الأجساد المصوَّرة والمصوِّرة تقوم بدور محور في فعل الشهادة. ويتوقف البحث عند الشهادة المباشرة التي يصبح فيها التعرض للخطر كإجراء شهادي، ذلك أن جسد الشاهد المصور يسهم في تجسيد شهادته بحضوره الجسدي رغم الخطر: "إن تعريض الشاهد نفسه للموت الطوعي يشكل في حدّ ذاته عاملًا مؤكدًا صحة ما يعرضه. فالشاهد هو الراوي والفاعل في آن، هنا تندغم التجربة المعيشة وسردية الشهادة في زمنية واحدة. يقدم لنا بول رسكو منظورًا مهمًا للتفكر في هذا النوع من الشهادات. ففي فصل عنوانه (تأويل الشهادة) ينظر إلى هذه الأخيرة على أنها التزام أقصى يعبر عنه في فعل مؤكدًا على قناعة ما. الشاهد يمكن أن يكون شهيدًا إذًا".

"الهروب من تكرار الجسد"، سلافة حجازي  و"حملة لا بالأذرع المسكورة"، مريم سمعان



الجسد الفني السوري 2011-2021

يشارك كاتب هذه السطور بنص بحثي بعنوان "الجسد الفني السوري منذ عام 2011"، يقدم بانوراما عامة لصور الجسد في الساحة الفنية السورية منذ عام 2011، ويركز النص على ثلاثة محاور. يدرس المحور الأول، وهو الأوسع، تداعيات الأحداث السياسية على الفنون التشكيلية من خلال تحليلي منظورات عدة للجسد ولا سيما الجسد المنتفض، الجسد المقموع والقامع، الجسد المسجون، والجسد المهجر. ويعالج المحور الثاني بعض الأعمال الفنية التي ما زالت تقارب الجسد بمعزل عن الثورة والحرب، متناولة مواضيع سبقت أحداث عام 2011، منها أسئلة الجسد والجندر، وعلاقة الجسد بالبيئة وحضوره الشبقي. ويتناول المحور الثالث بعض الأعمال التي استخدمت الجسد وسيطًا في الإنتاج الفني، حيث يصبح الجسد هنا جزءًا من تشكيل العمل الفني وتحقيقه.

تقدم الفنانة والباحثة نور عسلية دراسة بعنوان "الجسد المؤنث في الفن: نماذج من التجربة التشكيلية السورية المعاصرة"، وتستهلها بتقديم نماذج من تاريخ الفن العالمي لعبت دورًا في تغير حضور الجسد المؤنث في الفن التشكيلي مركزةً على تأثيرات المرحلة السريالية وكتابات التيارات النسوية في مجال النقد الفني. ثم تدرس الكاتبة حضور الجسد المؤنث في أعمال المصور الفوتوغرافي محمد الرومي وفي أعمال الفنانة ليلى مريود حيث الجسد العاري كعنصر جمالي، فتكتب عنها الباحثة: "عبر الثنائيات المتناقضة تقدم مريود تجسيدًا عن حال المرأة بغض النظر عن انتمائها الجغرافي، وعن التلقيات التي تعيش فيها مجبرة بسبب حصار القوالب الاجتماعية، بما فيها إلزامها بطهرانية الأمومة وأحكام مسبقة خانقة. على هذا النحو، تتشكل في أعمال ليلى مريود ساحات يتبدى فيها الجسد المؤنث بكامل حريته مناهضًا لأي إجبار أو تقييد".

كذلك تتأمل الكاتبة في حضور الجسد المؤنث في عدد من التجارب التشكيلية البارزة قبل عام 2011 كما هي في تجربة صفوان داحول حيث الجسد الحلمي، أو في تجربة منذر كم نقش الذي يقدم رؤية جسدية تعتمد على الجماليات. ثم تنقلنا الباحثة إلى حضور الجسد المؤنث في التجارب التشكيلية المعاصرة منذ عام 2011، فتتوقف عند تجربة خالد تكريتي الذي يستنبط العناصر التي يلهمها الجسد البشري من أجل صياغة العمل الفني، بوصف هذا الجسد مصدرًا جماليًا لا ينضب. في مشاهد عائلية عديدة يرسمها الفنان، يسيطر عليها العنصر النسائي، نرى تراكيب من الأجساد المؤنثة والمذكرة متجاورة، لكن لغة الجسد الافتراضية تشي بالتباعد بين الشخصيات. وتجربة غيلان الصفدي حيث يلعب الجسد في اللوحة الواحدة دورًا مزدوجًا، فالجسد له صفة انتماء إلى شخصية محددة ممسرحة بالإضافة إلى كونه جزءًا من الكل التكويني للوحة. فهو بذلك جسد مرئي كجزئية لا يمكن الاستغناء عنها من أجل تحقيق الكل. بمعنى أن تمثيل المرأة المراد تقديمها لا يكتمل في هيئة جسد واحد بل عبر عدة أجساد. ومن الجيل الأحدث تستحضر الفنانة أعمال ميراي وسوف التي يبدو الجسد المحرك الأول لأعمالها الفنية. حيث لا يخضع إلى جماليات الجسد أو مقاصده التعبيرية فحسب، وإنما يتعداها إلى تشكيل رؤية عن الوجود انطلاقًا من تصوير الجسد الذي يعبر عن هذا الوجود بطاقاته المتنوعة الفيزيائية والروحية.

"صورة غير معنونة"، خالد بركة و"بوستر معرض في ذكرى الأبوية"، ريتا أديب و"وعود تجهيز"، شذى الصفدي



معركة الأبيض والأسود

وتشارك الفنانة عزة أبو ربيعة بشهادة فنية ذاتية تروي فيها عن دور الفن في تجربة الاعتقال وتركز في شهادتها على حضور الجسد: "وجود الجسد في العمل يشعرني بالدفء، يخرجني من وحدتي المعقدة. أحكي مع أشخاص وينظرون إلي. متحركة الأجساد في أعمالي، نحن أثناء العمل، أنا وأشخاصي، في جلسة طويلة وحديث لن ينتهي، نسمع الموسيقى سويةً، نخلد إلى اللحظة على مساحة بيضاء. أغيب عنهم لأنني أعلم بأن الغياب عن العمل الفني قبل إكماله ضرورة. أعود لأجدهم في حديث آخر وتعبير جديد". كما تتطرق الفنانة إلى تجربتها الأخيرة حيث ترسم الجسد بالخيط على القماش: "أشعر بهذا الجسد المخيط من الريشة والقلم، لأني على تماس مباشر معه، أحس به وتنحني يدي مع انحناءاته. أراه، أنظر إلى عينيه، يريد تحجيمًا بلون ما، أقص قماش التوال، وأبدأ بتلوينه بطبقات شفافة بألوان مختلفة، يوقفني حينما يصبح طافيًا خفيفًا على ذاك السطح".



من الجسد الملحمي إلى الجسد التراجيدي 

تندرج دراسة د. حسان عباس في إطار البحث حول العلاقة بين الاجتماعي والثقافي، وتسعى إلى دراسة تمثلات الجسد، والجسد الملحمي تحديدًا في فن التصوير المنتج في سورية. ويستند البحث على كتابات جورج لوكاتش في اعتبار الميزة الأساسية للعالم الملحمي هي أن الموضوع والذات يكتسيان فيه بالمعنى نفسه. وأن الفرد المعتبر بذاته ينغمس في خضم عالم كتيم ومكتمل. ومن هنا يعطي لوكاتش تعريفه للملحمة بأنها التعبير الفني عن عالم مغلق كلي لا ينفصل فيه الفرد عن العالم. ومنها يمكن الإحاطة بمفهوم الجسد الملحمي باعتباره اختلاط الفرد/الجسد والعالم، فيتوقف الجسد عن كونه عنصرًا متفردًا في اللوحة. الجسد خلية، وحدة من مجموعة، من كل، من كتلة، من جماعة، أي باختصار خلية من كلية جامعة. وهذه الكلية تتحرك بفعل قوة غير مرئية تجعل جميع الأجساد المتواجدة فيها تتحرك حسب إيقاع متناغم، أو بفعل عاطفة مشتركة تظهر فوق الوجوه، وأحيانًا في كامل الأجساد.

"لجوء، فن رقمي"، سلافة حجازي و"مجموعة الديمقراطية المؤجلة- الخروج إلى النور والعلبة"، عبد الكريم مجدل بك



يقدم الباحث مجموعة من الأعمال الفنية التي تتوافر عليها شروط الجسد الملحمي مثل لوحة (ماذا بعد؟ لؤي كيالي)، وبأعمال أسطورية كما في (عالم نوح، علي مقوص)، وبأعمال دينية (أحد الشعانين،  إلياس زيات)، وبأعمال تاريخية (حطين، سعيد تحسين)، وبأعمال كثيرة تظهر أجسادًا متلاحمة منتشية بحركة واحدة كما في لوحات فاتح المدرس، وبأعمال بطولية كـ(ثلاثية أيلول، يوسف عبدلكي). أما بعد عام 2011، فيذكر الباحث أعمال مثل (جنة جنة جنة، جابر العظمة)، (النوح والغرق، زهير حسيب)، و(صورة عائلية من سورية، سمعان الخوام) أو (التريمسة، اسماعيل الرفاعي) التي استعملت تقنيات التبئير الخارجي. أما في مجال تقنية التبئير الداخلي فقد طبقت من قبل الشباب بشكل خاص، نجدها مثلًا في العديد من أعمال الشاب وسام الجزائري مثل لوحة (الرقص في حضرة المستبد) أو لوحة (الصرخة، النسخة السورية). أما في عمل الفنان عدي أتاسي بعنوان (أرواح هائمة) فنجد أنفسنا أمام مشهد بات مكررًا في سورية يتجمع فيه مواطنون وسط ما بقي من بيوتهم المهدمة بالقصف. وتصور لوحة (المحرقة، بشار العيسى) مشهدًا لنزوح الأيزيديين من عين العرب كوباني إلى سنجار شينكال في العراق. نجد أجسادًا على شكل أطياف تشكل موكبًا. تأتي هذه الأطياف من كل حدب وصوب لتتجه نحو أسفل اللوحة. نلاحظ في هذا العمل أن الجماعة مشتتة، وأن الوحدة بين الفرد والمجموع تلاشت إلى حد بعيد، وهذا ما يجعل المشهد هشًا وما يضعف الروح الملحمية.

بين الجسد العدمي والجسد المطلق

ويقدم الكاتب نبراس شحيد نصه النقدي بعنوان "بين الجسد العدمي والجسد المطلق عند خالد ضوا ومحمد عمران"، ويقترح فيه قراءة لحالتين جسديتين قصويين: الجسد المطلق والجسد العدمي. يرى الكاتب في أعمال خالد ضوا أن النحات يختبر تشكيليًا تداعيات نزعة الموت التي نظر لها فرويد من زاوية نفسية، والتي تدفع إلى العودة إلى المادة الموات: "يشتغل الفنان على الجسد المحكوم بهذه النزعة، بعد أن تم تحطيم سمته السياسية، بطرق تشكيلية ثلاث: إزالة التذويت، الترهل، والسحق". وبالتوازي، يقرأ الكاتب أعمال محمد عمران كمعالجة جسدية فنية مأساوية أخرى: "جسدية تريد أن تكون مطلقة إذ تدمج في ذاتها جميع عناصر المأساة السورية إلى حد الجنون. يكثف هذا الجسد في ثناياه تجارب هذه المأساة" ويحلل الكاتب مجموعة من صور الجسد متناولًا درجة الصفر التي يصبو إليها الجسد العدمي، والدرجة اللامتناهية التي تسم تجربة الجسد المطلق.